
صكوك الغفران بين المدينة الفاضلة والعِرفان: العدالة السورية في مواجهة ثقافة الإفلات
في خِضم السجال السوري المُعقّد، تطفو على السطح إشكاليةٌ جوهرية تُختزل في سؤالٍ واحد: كيف تُبنى العدالة في مجتمعٍ مزّقته الحرب، واختُطِفَ مستقبله بفعل فاعلين ارتدوا عباءاتٍ مختلفة، لكنهم اتفقوا على إهدار الدم السوري؟ السؤال ليس فلسفياً فحسب، بل هو اختبارٌ وجودي لوحدة الشعب السوري، التي باتت آخر خيطٍ يربط بين مكوّناته المُنهكة. ففي الوقت الذي يحاول البعض اختزال الصراع في ثنائياتٍ طائفية أو مذهبية، تبرز حقيقةٌ لا يمكن تزييفها: الإجرام لا دين له، ولا قومية، ولا مذهب. الإجرام هو الإجرام، سواء ارتكبه من ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك، أو تذرّع بذريعة “الدفاع عن الوطن” لقتل أبنائه.
الجرائم لا تُورِّث الطائفية: من حماة 1982 إلى اليوم
لا يمكن فهم الحاضر دون استحضار الماضي، فجرائم النظام السوري ليست وليدة الثورة عام 2011، بل هي امتداد لسياسةٍ قمعية تأسست منذ عقود. مجزرة حماة عام 1982، التي أودت بحياة آلاف المدنيين، لم تكن عملاً منفرداً لحافظ الأسد وأخيه رفعت، بل كانت نتاج آلة عسكرية وأمنية شارك فيها رموزٌ من مختلف المكوّنات. فوزير الدفاع آنذاك، مصطفى طلاس (السني، من الرستن بحمص)، لم يُسجَّل له موقف رافض لتحويل المدينة إلى ركام، بل كان جزءاً من منظومةٍ قرّرت سحق المعارضة بغض النظر عن الثمن (للتوضيح أكثر، نرى أن أبناء مصطفى طلاس، فراس ومناف، شخصيتين وطنيتين وقفتا مع الشعب السوري في ثورته ضد بشار الأسد). هذا المثال لا يُبرئ طائفةً أو يجرّم أخرى، بل يؤكد أن الولاء للسلطة، وليس للهوية الطائفية، كان المحرّك الأساسي للتنفيذيين.
الأمر ذاته يتكرر مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، حين رفض وزير الدفاع حينها “علي حبيب” (العلوي) استخدام الجيش لقمع المتظاهرين السلميين، فتمت إقالته فوراً، ليحلّ محلّه فهد الجاسم الفريج (السني، من قرية الريهجان بريف حماة الشرقي)، الذي حوّل الجيش إلى أداة قتلٍ ممنهجةٍ ضد المدنيين، بدعمٍ من مليشيات “الدفاع الوطني” التي ضمّت أفراداً من كل المناطق، لا يربطهم سوى الجشع والانتهازية. هنا، لا طائفية في الإجرام، بل انحدار أخلاقي لفئاتٍ قبلت أن تكون أدواتٍ لقمع شعبها مقابل مكاسب مادية أو سلطوية.
الوطن الأم ليس سلعةً قابلة للتقسيم: اختبار الساحل السوري
عندما سقط النظام السوري في الثامن من كانون الأول 2024، بفعل الضغوط الدولية والانهيار الداخلي ومعركة ردع العدوان، كانت الفرصة مُتاحة لأهالي الساحل السوري “الذين يُنظر إليهم غالباً كقاعدة طائفية للنظام” للانفصال عن “سوريا الأم” وإعلان كيانٍ خاص بهم، خصوصاً مع وجود دعواتٍ خارجية داعمة. لكن اللافت أن الساحليين رفضوا هذه المُغريات، واختاروا البقاء تحت مظلة الوطن الواحد، رغم كل ما عانوه “وما أُنيط بهم” من وصماتٍ خلال سنوات الحرب. هذا الموقف ليس انتصاراً لطائفةٍ على أخرى، بل هو تأكيدٌ على أن الانتماء الوطني أقوى من كل الحسابات الضيقة.
العدالة ليست صكّ غفران: محاسبة الدماء فوق الهويات
في خضم النقاش حول المصالحة الوطنية، يحاول البعض تسويق فكرة “صكوك الغفران” تحت مسمّياتٍ مثل “العدالة الانتقالية” أو “العفو العام”، لكن هذه المصطلحات تتحول إلى خطرٍ عندما تُستغلّ لتمييع مسؤولية المجرمين الحقيقيين، سواء أكانوا من علويين أم سنة أم أكراد أم غيرهم. فالثابت أن ضحايا التعذيب في سجون النظام لم يُسألوا عن هوية جلاديهم قبل أن يلفظوا أنفاسهم، وكذلك أطفال الغوطة الشرقية الذين قُصفوا بالكيماوي لم يموتوا لأن الجاني كان ينتمي إلى طائفةٍ معيّنة، بل لأن هناك من قرر إبادتهم.
لذا، فإن أي مشروع عدالة حقيقي يجب أن ينطلق من مبدأ واحد: محاسبة كل من شارك في سفك الدم السوري، بغض النظر عن انتمائه. فالمجرم السني الذي قَتَل في أي مكان لا يختلف عن المجرم العلوي الذي قَتَل في أي مكان أيضاً، والمليشيات الطائفية التي نهبت حلب ليست أفضل من تلك التي دمّرت ريف إدلب وريف حماة. العدالة التي تُبنى على القانون وحدها قادرة على كسر حلقة الكراهية، لأنها تتعامل مع الجريمة كفعلٍ فردي، لا كإرثٍ جماعي يُورَّث للأجيال. وعندما يتم التعامل مع الأمر بهذه العدالة، أنا أراهن على وقوف كل الشعب السوري مع تطبيق هذا النموذج من العدالة، خاصة إذا بُثت اعترافات المجرمين ليشاهدها الشعب السوري والعالم أجمع.
الوحدة ليست شعاراً: دروس التاريخ المُعاصر
التجربة السورية تثبت أن اختراق النسيج الاجتماعي كان سلاح النظام الأكثر فاعلية، ومع ذلك، فإن بعض الدول المعادية للنهضة السورية عملت على توظيف خطابٍ طائفي مُزيّف من جهة، وخلق تحالفاتٍ مع أفرادٍ من كل المكوّنات مستعدين لبيع ضمائرهم من جهة أخرى.