صحوة الموت
في الشهر العاشر من السنة الفائتة أصبت بالمرض، الذي لم يكتف بأن دخل رئتي اليسرى بل تملك من الجهاز العضلي والعصبي.
في لحظات الوهن الشديد كم كان يبدو ثقيلاً الوقت، وتلك الساعة المعلقة قبالتي على الحائط تصبح عدوتي بتكاتها البطيئة المملة.
عندما كانت تتملكني الحمى وتؤرق نومي خلال الليل وقبيل الفجر، يتحول تفكيري تلقائياً إلى أن هذا الحال لا نهاية له، وأن أفضل الحلول وأريحها من الآلام المبرحة هو الموت ومغادرة هذه الحياة الدنيا والتي لا يعز علي مغادرتها أصلاً.
لأيام عدة، وهي ما أسموها أيام الذروة في المرض، أظنني صادقت الموت، حتى أني أكثر من مرة تأتيني صحوة لأجرد سنين عمري وكل ما فعلته بها، أسأل نفسي هل آذيت؟.. ماذا قدمت، ماذا أخذت؟ هل من ضرر لحق بإنسان ما أو كائن ما بسببي؟.
هل سأرافق الموت خفيفة خالية الوفاض من ثقل آثام ما؟.
كانت حصيلة الجرد واستعراض شريط أيامي مريحة، لدرجة أني أحصل على غفوةً لا أدري مدتها قصيرة أم طويلة.
لكني كنت خلالها فعلاً أرحل لعوالم أخرى، أتذكرها لا زالت بألوانها وتضاريسها ولن أحاول وصفها بأكثر من أنها خلابة جميلة.
كنت أسمع صوتاً يبث في الاطمئنان، يعلمني أن أخي رحمه الله الذي غادرنا في ريعان شبابه، موجود أيضاً هناك، فيرتاح قلبي، بل أفرح لروحه الطيبة.
استمرت هذه الحالة بين صحوات وغياب ومعاناة لتحمل الألم الجسدي، وتحمل فكرة أن أفارق أولادي وأحبتي، وأنا أراهم يهيمون حولي يفعلون ما يستطيعون لإعانتي.
كم من مرة ناجيت الله مغمضة عينيّ ودموعي تنهال، هل انتهى دوري معهم، هل هو الوقت المناسب للرحيل، هل أستسلم لفتك المرض وأرجع إليه راضية مرضية؟.
أتاني الجواب عندما أصرت طفلتي بعد مرور قرابة عشرين يوماً وأكثر على حالي المنهك، أن تحضنني وتنام بجانبي وهي المعتادة على هذا.
إذاً هي تفتقدني وتحتاج للشعور بالطمأنينة التي اعتادت عليها بجانبي.
بدأت أفكاري بالتغير، وتواتر إلى ذهني كل ما تعلمته وقرأته عن أمور الروحانية والطاقة، شعرت أني سلخت جسداً مهترئاً، وارتديت جسداً جديداً.
لم تعد رؤى العالم الآخر تتجلى، وكأن الموت يرسل لي إشارته، أن استمري هنا الآن مازال في الحياة بقية.
عدت وبرغم الآثار الجانبية للعلاج وما خلفته الآلام من وهن في رئتي وعضلاتي وتساقط شعري، إلا أنني صرت أكثر قوة، أكثر صلابة بل أحسست أني أكثر جمالاً.
(بمعنى الضربة اللي ما بتقتلك بتقويك، وعمر الشقي بقي)
لقد عاينت الموت وأحببته، وعاينت الحياة وسأحبها بكل الأحوال لأني أدركت مغزاها.
وأروع شيء فيها تلك الراحة والطمأنينة، عندما جردت حسابي الدنيوي فكان راجحاً لصالحي.
هذا وحده كفيل أن يمنحني نهج حياة يسعدني وأتمنى أن أسعد به من حولي.
تعلمت أن أترك للخيبات والآلام أن تأخذ مداها كاملاً، أن أعيشها بكل تفاصيلها لتتخللني وتنفذ مني وتعبر بسلام، مقتنعة بعدم جدوى الوقوف على الأطلال، بل صرت دائمة النظر للأمام، للفرح وللجمال.
أصبحت أكثر عشقاً للموسيقى وللألوان، ممتنة للموت الذي اعتدنا أن نهابه بوجل، كم لطف روحي وهذب أفكاري وجدد حياتي!!.
لم يخطئ درويش عندما قال: في الحياة ما يستحق الحياة.
أجزم أنه ممن فهموها وكانت بصيرتهم نافذة النور.