fbpx

شيء يشبه الدّائرة.. شيء يشبه الزّكام

0 441

لم أكن راغباً في الزعامة، ولم أفكّر بأن يكافئني الجيران على اهتمامي بشؤون الحي وأهله. لكنّهم أغروني بالانضمام إلى لجنة الإشراف العامة.

قال أبو عبدو:

– يا محمد أنت تتعب كثيراً مع أهل الحي، ولك أيادٍ بيضاء على ما يجري فيه.

ولأن أبا عبدو زعيم الحي، قلت في نفسي: إنه رجل جدير بالزعامة، وهو لمّاح لأنه يميّز الصالح من الطالح.

أمّا محسن، عضو لجنة الحي، فقد حدّثني عن همومه: 

– يا صاحبي تعبت من اللجان، وأنت شابّ هُمام تستطيع القيام بالمهمّة على خير وجه.

تتالت الأيام وقَرُبَ موعد انتخاب لجنة الحي، فتحمّس أبو النور الأرمل الذي تشاغل عن أحزانه بالعمل على تنفيذ توجيهات اللجنة طوال أعوام. وقد لاحظت اندفاعه حين هرع إليّ قائلاً:

– حان الوقت يا محمد كي نكون معاً في اللجنة الجديدة.

بصراحة أقول لكم: لم يُثرني اندفاعه وحماسه الشديدان، وإنّما أكبرت فيه روح المغامرة ومحاولة التغلّب على الزمان. ترك خلفه سنيَّه الخمسين وبدأ يُقنعني بلهجة الشباب. المهم.. لم يتركني حتّى تمكّن من اللعب بعقلي وجعلني أقدم على ترشيح نفسي لعضوية اللجنة. قدّم إليّ ورقة وقلماً وأملى عليّ صيغة طلب الترشيح، ثم تأبّط ذراعي كي أرافقه إلى رئيس اللجنة حيث تُقدَّم الطلبات. سايرته في الاندفاع وأنا أقول في نفسي:

– ترشيحي لن يضير اللجنة القديمة، ولا بأس من دخول لعبة الانتخابات، على الأقل، كي أعرف عدد الأصوات التي يمكن أن تناصرني من أهل الحي الذي لم أقصّر في خدمة أيّ واحد منهم.

وفي الطريق، وقف أبو النور يتحدّث مشيراً بكلتا يديه:

– هل تعلم أن ممدوح الطبّال رشّح نفسه ووافق له رئيس اللجنة على الترشيح؟ صمت برهة.. تابع السير وتبعته.. ثم توقّف ثانية، وضع يديه على صدغيه وصاح:

– يكاد عقلي يختلّ.. تصوّر يا محمد.. حمدو العتّال.. تعرفه.. صاحب الأداة التي توضع على الزنّار.. تعرفها (الغمزوية). هذا الرجل صاحب المشاكل الذي يقلق الحي بصوت آلة التسجيل كلَّ ليلة.. هذا الذي صرخ بوجه الزعيم: أنت لست زعيماً.. أنت حرامي.. واللجنة كلّها مرتزقة.. حصدتم آلاف الليرات من وراء مصاعد الحي وتنظيف المجاري وإصلاح شبكات المياه. هذا… هذا… الذي سمّاه الزعيم رئيس اللجنة (حثالة الحي)، هو أيضاً رشّح نفسه وقبلت اللجنة ترشيحه… أما أنا فيقولون لي: (بكّير) لم يحن الوقت بعد لتصبح باللجنة، اللجنة عملها صعب وبحاجة إلى مِران…أنا الذي عملت طوال أعوام متابعاً تنفيذ ما تقترحه اللجنة، يهملون طلبي ويقولون: رئيس البلدية لم يوافق على ترشيحك.

ضرب أبو النور جبهته بكفّه وهو يقول: 

– أخي.. هذا الكلام لا يقنعني.. ما علاقة رئيس البلدية بلجنة الحي.. نحن لا نطلب التوظيف في البلدية.. هذه لجنة أهلية لا علاقة لأحد بها سوى أهل الحي أنفسهم.

تابع أبو النور سيره وهو يُخرج أوراقاً من جيبه، دفع بها إليّ قائلاً:

– إقرأ… ثلاث صفحات فيها سرد سريع للأعمال التي قمت بها، ويقول لي محسن أنت لست مؤهّلاً للاشتراك في اللجنة… خبير في شؤون الاقتصاد، ومستشار الرئيس الفلبيني الراحل.. ومنسّق العلاقات الدولية التي قرّبت وجهات النظر بين غواتيمالا وشمال أفريقيا… مقترحاتي هي التي أوقفت حرب الدانمارك.. سلني ما شئت في الطب والهندسة والتاريخ… وكما تعلم، أنا من أنصار الحفاظ على الصحة. 

وقف أبو النور ثانية… كبت سعاله.. أخذ الأوراق من يدي.. دسّها في جيبه وأخرج علبة الدخان.. أشعل سيجارته.. نفث دخانها عالياً في الهواء، راقبتُ تصاعد الدخان وأنا أنتظر تلاشي سحابته البيضاء، لكنَّ أبا النور لم يتركني أتأمّل طويلاً، بل فاجأني بسؤاله: 

– أليس من العار مشاهدة مثل هذه الأمور والسكوت عنها؟ اللجنة تقبل ترشيح النكرات كي تفوز هي في دورة جديدة.. لا رئيس البلدية ولا المختار لهما علاقة بذلك.. اللجنة الحاليّة تريد أن تتمتّع بعضوية دائمة.. الأمور واضحة. 

لن أكذِبَكم.. شعرت بالأسى ووجدتني أندفع بنبرة حادّة: 

– أوافقك الرأي.. لابدّ أن تقبل اللجنة ترشيح كل من يشاء، مادامت القوانين تنطبق عليه.. والمسألة مسالة انتخاب، وأهل الحي أحرار في اختيار من يرونه مناسباً.

المهم.. دخلنا مقرّ اللجنة ولم نجد الرئيس، ولأنني كنت مرتبطاً بموعد هام، لم أستطع انتظاره طويلاً، لذلك تركت طلب الترشيح في عهدة أبي النور وغادرت.

بعد ثلاث ساعات رنّ جرس الهاتف في منزلي استأذنت ضيوفي أحمد ولؤي ورفعت السمّاعة.. كان أبو النور على الخط فأخبرني أن رئيس اللجنة يرجو منّي ومنه سحب الترشيح، ووَعَدنا بأن نصبح من أعضاء اللجنة في الانتخابات التي تلي هذه الدورة. فوجئت بصدور مثل هذا القرار عن الزعيم الذي غدا يظنّ أن أعضاء اللجنة يعيّنون من رئيسها السابق.

قال أحمد: أنصحك بسحب الترشيح فليس من مصلحتك معاداة الزعيم. قلت: 

– يا صديقي.. أنا أحب اللجنة ورئيس اللجنة، وترشيحي لا يعني العداوة لأحد.. فقط أريد أن أثبت لنفسي أننا في حيٍّ راقٍ يقدّر أهله من يساعدهم، ويصرّون – رغم فساد الأحياء الأخرى – على التعامل بأسلوب حضاري… أبو النور مهندس زراعي قدير.. ما المانع من قبول ترشيحه؟ 

تدخّل لؤي قائلاً: 

– أنا معك يا صاحبي.. لا تسحب الترشيح وليكن ما يكون.. الحرية خبزنا اليومي، والديمقراطية مبدأ لا يرفضه أحد.

قرّب فمه من أذني وهمس: 

– كل من يخدم الحي من غير أعضاء اللجنة يقولون إنّه ذيل لها.. وهذه صفة لا تليق بأحد أليس كذلك؟!

صمت لؤي برهة ثم رفع سبّابته باتّجاهي وقال:

– إذا قبلت بأن تسحب الترشيح، فإنني أضعك في مصافّ مناصري النزعة الاستبدادية.. (المَوَانات والخواطر) ليس لها دور في هذه الحالة. لكل من يشاء الترشيح، ولكل ناخب اختيار من يشاء. تدخّل أحمد قائلاً: 

– يا جماعة.. الأمور كلّها مرتّبة (من فوق) ولا تجدي أيّ مكابرة فيها. صاح لؤي غاضباً: 

– وَلَو.. من فوق أو من تحت.. لا يهمّ.. النتائج لا تهمّ.. المهم أن نبقى مصرّين على المبدأ وليكن ما يكون. سألني أحمد ببرود شديد: 

– أستاذ محمد.. ما هو قرارك؟

تملّيت وجه كلٍّ منهما برهة.. لم أجب.. مددت يدي لابتلاع دواء الصداع وأنا أفكّر في القرار الذي أحبّ أن أتّخذه غداً.

* * *

لم تنتهِ القصة، لا تخمّنوا شيئاً، سأحدثكم بنفسي عمّا جرى…

في اليوم التالي حملت غضبي واقتحمت غرفة رئيس اللجنة، وما كدت أجتاز الباب حتى ترك سمّاعة الهاتف وانتفض ساعياً إليّ بسرعة ويده ممدودة باتجاهي.. صافحني قائلاً: ابن حلال.. كنت أتصل بك الآن… مبروك.. أجمعت اللجنة على ترشيحك في قائمة التضامن.

داهمني صمت مفاجئ.. تعثّرت حتى وصلت إلى أقرب كرسي.. تمالكت نفسي ثم قلت له: أرجو أن تقبل اللجنة اعتذاري… يسعدني أن أشارك في أعمال الحي من خارج اللجنة، وأنا أتابع نشاطي الخاص في البحث العلمي. قال رافع:

– اجتمعت لجنة الحي الحالية، وهي تناصر أن تنضمّ إلى اللجنة دماء جديدة، وقد اتفقنا على دعم ترشيح شباب الحي الفاعلين.

تجوّل نظري في أرجاء الغرفة، وعندما وقعت عيناي على محسن تبادر إلى ذهني سؤال مفاجئ:

– لماذا وصفت أبا النور بأنه غير مؤهَّل للانضمام إلى لجنة الحي. 

أجابني بهدوء تام: 

– إنّه يحمل مؤهّلات عالية، وهو فهيم في الجغرافيا والفلك والطب، ولكنّه مبتدئ في معرفة شؤون الحي، وهو حديث الإقامة فيه، وأساليبه ساذجة في معالجة مشاكله.

حين سادت لحظة صمت، أدركت أن اللجنة تريد إخلاء المكان للتداول في شؤون الانتخابات القادمة، استأذنت وغادرت.

وأنا أجتاز الشارع، تلقّفني أبو النور قائلاً: 

– لابد أن نضع قائمة تواجه اللجنة القديمة.. نترك الرئيس معنا ونتكاتف مع بعض المرشّحين.

قلت له: 

– ليست لديّ الرغبة في أن أكون في مجلس الحيّ، وإنما قدّمت ترشيحي لكي أمارس حريتي الديمقراطية وحسب. قال: 

– أعرّفك على بعض الأشخاص الذين يمكنهم أن يدعموا قائمتنا المستقلّة. قلت له: 

– يا أخي.. اتّصلت بي المرشّحة سميرة كي نتعاون في حملتنا الانتخابية، وشرحت لها فهمي للانتخابات، إنني أثق بآراء الناس وبقدرتهم على الفهم والتمييز بين الصالح والطالح، ولست بحاجة إلى قوائم تفرضني أو تفرض غيري على الناخبين.. إليك عنوانها ونسّق معها كما تشاء.

* * *

في اليوم التالي تهاديت إلى مركز الانتخاب متأخّراً، صادفني رافع عند المدخل فقال معاتباً:

– المرشّحون هنا منذ ساعتين.. وأنت تأتي متبختراً؟!.

في البهو المؤدّي إلى مركز الاقتراع وُزِّعت عليَّ ستُّ قوائم مختلفة، مع بعض السكاكر والحلوى.

استعرضت القوائم: القائمة المستقلّة وفيها أبو النور والعتّال والطبّال ومعهم اسمان قويّان في المجلس القديم – لائحة الشباب المندفع ومعهم أبو النور – لائحة مناصري تجديد الحي ومعهم رافع – لائحة صوت المرأة ومعهم أبو النور – قائمة تشجيع السياحة ومعهم أبو النور ومرشّح من المجلس القديم – القائمة المتضامنة وهي تشمل بعض أعضاء المجلس القدماء وفيها أسماء جديدة.

المهم أني لم أجد اسمي في أيٍّ من تلك القوائم المطبوعة، حتى أن جاري البقّال سألني:

– سمعت أنك مرشّح فهل انسحبت؟ قلت له: 

– لم أنسحب. قال: 

– لم أجد اسمك في هذه الأوراق.

أشرت إليه كي يقرأ ورقة صغيرة ملصقة على زجاج باب مركز الاقتراح وقلت له: 

– تلك هي قائمة بأسماء المرشّحين، أمّا القوائم الأخرى فهي لوائح انتخابيّة.

دخلت معمعة الانتخابات أراقب ما يحدث من بعيد..

لكنّ المفاجأة كانت بانتظاري.. تقدّم إليّ شابّ وأعطاني لائحة التضامن التي شكّلها المجلس القديم وقد ضمّت اسمي في أسفلها.

لمح رافع استغرابي فدنا مني قائلاً: لقد تداولنا اسمك منذ أيّام واتفقنا على أنّك جدير بالثقة.

* * *

بعد صدور النتائج.. كان اسمي على أهبة النجاح، فسررتُ بمحبة الناس التي اتّضحت من غير حملة انتخابية، جاء ترتيب أبي النور بعدي مباشرة وتفاوتت نسبة الأصوات التي حازها الآخرون بعدنا.

أتصدّقـون؟!..

سررتُ لأنني لم أفز بالانتخاب، كل أعضاء المجلس القديم أسفوا لأنني لم أفز، وكثير من الناس لم يصدّقوا أنني بقيت على شفا الدخول في المجلس، هذا بالضبط ما أسعدني.

لجنة الحي نافذة يتّضح من خلالها حبّي للآخرين.. وقد تحقّق لي ذلك من دون اللجنة، فبادلوني حبّاً بحبّ.

ولكنّ الذي ساءني أن بعض المرشحين الذين فشلوا في الانتخابات بدؤوا يطلقون الشائعات حول الحي وأهله:

– إنه حي سافر يريد أن يسيء إلى مدينتنا.. أهالي الحي لديهم ارتباطات سريّة مع الأجانب.. أسماء لجنة الحي يعيّنها خبراء في الإمبريالية العالمية..

أمّا أبو النور فقد بات مقتنعاً أن لجنة الحي مدينة بفوزها لجهات خفيّة.

الحق أقول لكم: 

– قد أفهم شائعات المرشّحين الفاشلين الذين بدا لهم العنب حامضاً، وقد أفهم أسباب النميمة التي تنتشر بين أعضاء المجلس الجديد (المتضامن) على الغائب منهم، ولكن مالم أستطع فهمه حتى الآن: لماذا لا ينتقل من الحي بعض أهله الذين ينعتونه بالحي المتآمر الإمبريالي؟ لماذا يصرّون على البقاء فيه، ويستمرون في هجائه؟

إنه سؤال موجّه إليكم مباشرة: 

– كيف يمكن الخروج من تلك الدائرة؟

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني