fbpx

شهرزاد… المرأة المعرفة وحكايا (ألف ليلة وليلة)

2 552

كبرت وبقيت في داخلي تلك الطفلة التي عشتها منذ نعومة أظافري، لا تستطيع مغادرتي بسهولة، غاصت مخيلتي في أعماق كياني، كأنثى تصارع أحداث الماضي بابتساماته وسخطه، وتجلت شخوصه أمامي كأنها اليوم ومازالت في ذاكرتي صورة والدي الذي رحل عنا منذ سنوات، واعتزازه بمكتبته الصغيرة، إذ تعمد أن تكون على الجانب الأيسر لسريره، ليتثنى له تناول ما يريد من كتبها بسهولة قبل النوم دون عناء، وبالرغم من صغر تلك المكتبة، كانت ملاذه الوحيد للهروب من عبء الحياة وإشكالياتها ليعيش أحداثها المبعثرة على الورق الخشن، الأسمر اللون.

في كل صفحة كتاب منها عاش توحده واندماجه مع شخصياتها التاريخية، حيث لم تكن تمضي ليلة إلا وعشت وإخوتي حكاية من حكاياته الساحرة يقصها علينا بتفاصيلها الصغيرة المشوقة، بأسلوب الحكواتي الدمشقي المحترف فتدهشنا القصص العجيبة التي روتها شهرزاد لزوجها شهريار في (ألف ليلة وليلة) وبحكمة سيف بن ذي يزن، وشجاعة عنترة وإقدامه.. حتى أن عنترة أصبح واحداً من أفراد العائلة، عندما تذهب أمي في صباح اليوم التالي إلى بيت جدي، يجد إخوتي غيابها فرصة سخية لتحدي المألوف من هدوء المنزل وقوانينه الصارمة، غير مبالين بقلبه رأساً على عقب والعبث بالأدوات المنزلية التي تمثل سيوفاً أحضروها من عدة المطبخ للمبارزة فيما بينهم. يبدأ احتدام المعارك بشرف الفوز بتقمص شخصية عنترة وإقدامه على النيل من أعدائه، وهكذا كنت أقضي الساعات الطوال، لا أدري ما أفعل بين إخوتي الصبية، منكمشة على نفسي غاضبة حيناً، وأبرر لنفسي تصرفاتهم الصبيانية حيناً آخر فأتيه بين صليل القطع النحاسية وقرقعة المغارف الخشبية وصراخهم على عنترة، ليسرع إليهم لنجدتهم، حيث كانت أصواتهم تتعدى فناء المنزل إلى منازل الجيران. أما أنا، فقد أرغمت طواعية على تحمل مسؤولية خوتي الصبية كوني الأنثى والأكبر عند غياب أمي، وعلى عاتقي كانت تقع كل المهام… أنا الأنثى وليس غيري التي كان يجب عليها حسب الموروث الاجتماعي أن تتخلى عن طفولتها وتدير مهام المنزل كبديل للأم في غيابها. وأن تكون أكثر نضجاً ووعياً من إخوتها الذكور. لم يكن لدي شغف بعنترة أو بأبي زيد الهلالي، كانت شخوص هؤلاء الأبطال تمر بي مرور الكرام، لم أحفل يوماً بأي شخصية من قصص أبي سوى قصة امرأة تدعى شهرزاد، تلك المرأة التي قبلت التخلي عن حريتها في سبيل الحفاظ على بقائها وبقاء جنسها فقررت المواجهة لتروي كل قصص (ألف ليلة وليلة) ومغالطاتها على زوجها الملك شهريار من خلال الترقب والإثارة، وما زاد من ولعي بسماع كل شيء عن تلك الشخصية، المقتطفات الموسيقية الرائعة لسيمفونية المؤلف الموسيقي (رينسكي كورساكوف) والتي أطلق عليها اسم ( شهرزاد) حيث كنت شغوفة بسماعها باستمرار من خلال أجهزة المذياع.

لا مجال للشك أنه قام بتأليفها بعد قراءته (الليالي العربية) عام (1888) حيث بات مأخوذاً بشخصية شهرزاد فأوحت له بسيمفونية رائعة تجاوزت ألحانها عالم السحر والخيال، بالإضافة للإبداع الموسيقي للمؤلف، إذ استوحى لحنا يليق بشخصية هذه المرأة… كانت ألحان هذه السيمفونية أيقونة خاصة في الذاكرة كأنها مدخل لزمن شهرزاد وحكايات (الف ليلة وليلة) أما شهرزاد المرأة المعرفة، مازالت بالنسبة لي، الشكل الأمثل للحكمة والتضحية، إذ قدمت حياتها من أجل بني جنسها، واستطاعت بذكائها الفطري أن تعيد شهريار إلى جادة الصواب… وتوالت سردياتها في (ألف ليلة وليلة) حيث لعبت دوراً كبيراً في تجسيم القيم الإنسانية للحياة. كانت رسالتها توحي بفكرة، أن الحياة فوق كل شيء، هي مواجهة لها وللملك شهريار… عليها أن تكافح من أجل الحياة وعليه كذلك أن يكافح من أجل استعادة حياته السابقة للخلاص من صدمة الخيانة… الصدمة التي كانت هي الألم المبرح وسبب مأساته.

هنا تكمن عقلانية شهرزاد وذكاؤها وقوتها، كانت المعالج لعقدة شهريار ومرضه النفسي. أخذت بيده للخلاص والشفاء بفضل معرفتها الواسعة بالأمور، وحكاياتها المشوقة كل ليلة والتي لم تتوقف خلال ألف ليلة وليلة. لقد ساعدت شهريار على تكامل شخصيته وشفائه، وفي هذا السياق علينا أن نستشف أسباب نجاح العلاقة التشاركية بين المرأة والرجل في الحياة.

بلا شك بعد تحليل شخصية هذه المرأة لدي إيمان راسخ، أن المرأة هي من تستطيع شفاء الرجل من عقده وموروثه المجتمعي المكتسب، وكذلك من التقاليد البالية المتحكمة بحياتنا، وهي من يخلصه من الأفكار المتخلفة لأنها كانت ومازالت هي المربية والمعلمة على مدى العصور. لقد استمر الصراع بين المرأة والرجل سنوات طويلة وكان وبالاً على المرأة ولم يكن الخطأ كامناً في سلوك المرأة بقدر ما كان تصرفها نابعاً من ردة فعلها ضد الظلم الذي حاق بها وأرهقها، ونظراً لسطوة الرجل وقوة نفوذه التي أسقطها على المرأة بالقوة، استطاع الرجل في تلك الحروب الانتصار، فوضع المرأة في زاوية محكمة لا تستطيع النفاذ منها إلا بالقدر الذي يسمح لها بذلك، يبتدع القوانين والتشريعات، ويبتكر الأعراف الاجتماعية لكبح جماحها والتضييق عليها ومازال حتى اليوم، رغم الحقوق المتواضعة التي حصلت عليها مؤخراً بشق النفس.

وفقا لما قيل سابقاً، قدمت شهرزاد نفسها ضحية على أمل الخلاص لبني جنسها، ولكن مزودة نفسها بالعلم والمعرفة… هل تقبلين أيتها المرأة أن تكوني امرأة ضحية؟ أم أن جهودنا في تنوير عقولنا بالقراءة المستمرة والمعرفة والبحث كافية للخلاص؟ لا ضير إذا كنا في هذا الجانب للتواصل مع الأشخاص الذين هم أكثر منا علماً وثقافة، ذلك ليس انتقاص من قدراتنا وإنما هو زيد على فيض، فالعلاقات الإنسانية تحتاج إلى إدارة جيدة ولن نتمكن من أنفسنا أو نقوى في هذه الحياة إلا بالعلاقات المتوازنة التي نحن بأشد الحاجة إليها اليوم، بالإضافة إلى المعرفة والخبرة والرؤية الثاقبة. القوة اليوم ليست في الأجساد، كما كان لشمشون وغيره من الجبابرة، إنما علينا أن ندرك أن شهرزاد لم تطلق العنان لعواطفها عندما قدمت نفسها ضحية من أجل بني جنسها ولكن كانت على ثقة من قدرتها بما زودت نفسها طويلاً من علوم تاريخية وإنسانية ومعرفة بقصص الشعوب وخبايا الشخوص أو مسارب الممالك والمناطق والحكام. شهرزاد لم تعتمد على مشاعرها دون عقلها لتنجرف إلى المكان الذي تتحكم بها الأهواء وتتعلق بأوهام وجبروت الرجل وقوته المزعومة، فتصبح المرأة الظل والتابع لشهريار، في عالم كان ومازال لا يحترم إلا القوة والإرادة والأحرار.

تكمن قوة المرأة وعظمتها في تقديم العون للرجل بعقلها الراجح وإرادتها القوية، بالحوار معه باستمرار ليصل إلى الوعي الذاتي، وكذلك مساعدته على التعافي من الغرق في وهم الخلل الاجتماعي المهيمن عليه، وعلى هواجسه المركونة في زوايا عقله. ولا تنتظر من الرجل أن يتنازل لها عما يحتكره لنفسه وما يعتبره من حقوقه المشروعة وأدواره الثابتة ولكن على المرأة أن تعتلي المنابر وتتقدم الصفوف وتفرض حضورها في كل المجالات. وعلى الرجل أن يدرك أنه هو من مارس التدمير الذاتي على نفسه دون أن يدري، بعد أن همش شريكاً هاماً في الحياة الاجتماعية والأسرية والاقتصادية.

ما أجمل أن تصنع المرأة لنفسها مجداً في المكان والزمان المناسبين كما فعلت شهرزاد لتخرج عن تبعية الرجل وقلقه بذكاء وفطنة… القوة لا تأتي بالإمكانات الجسدية أو الصدام، بل بالعزيمة والإرادة… وكما يقال أعظم حيتان البحر ليس لديها قوة في الصحراء) في جهلك تصحر واعتمادك على الآخر تصحر، ترددك ضعف، حكاياتك هي نفسها حكايتها… شهرزاد التي تحولت من ضحية إلى امرأة فاعلة، قلبت الأمر من داء الى شفاء للزوج شهريار، وتحولت بإرادتها وحكمتها من ضحية إلى مخلصة لجنسها رغم المجتمع الذكوري ورغم العنف القائم على النوع والسائد في ماضي المرأة وحاضرها… كوني أنت أيتها المرأة بما حباك الله من صفات متميزة… ونتابع يداً بيد.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

2 التعليقات
  1. احمد وردة says

    كتير روعة وجميل تناول المقال من كل الجوانب

  2. اسامة العاشور says

    استسهل شهريار قتله لإمرأة كل يوم بسبب نظرته الى المرأة كجسد كشيء له قيمة استعمالية وهي ملكه وحده يمكن اقتناؤها وقت يشاء والتخلي عنها وقت يشاء
    بعد قدوم شهرزاد قلبت هذه النظرة عند شهريار وجعلته يدرك ان المرأة عقل أولا واجبرته على احترام عقلها وحبها دون ان يلمس شعرة من رأسها واثبتت ان العقل هو زينة المرأة الحقيقية كما هو زينة الرجل وانه الطريق الأكثر امانا للوصول للحب

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني