fbpx

شهادة من كييف في زمن الحرب

0 161

منذ أيام قليلة عدت من كييف، كانت زيارتي لها قصيرة، لكني تجرأت على الذهاب إلى بلاد تشهد حربا، وأنا الهارب من بلاد لم تنته حربها بعد، لحظة وصولي تفاجأت بمستوى نظافة الطرقات التي رمم بعضها كما بدا لي حديثا، لا سيما الطرقات الرئيسية، وحتى الحدائق يجري تشذيب أزهارها وأعشابها كالعادة، وكأن الحياة عادية جدا، مستوى العناية بالعاصمة الأوكرانية ظاهر للعيان يحكي عن نفسه، لدرجة تنسى معه أن هناك حربا تخاض ولا بد أن تخاف.

الأوكرانيون عاشوا حياتهم في السابق فرحين بمدينة من أجمل المدن الأوروبية، تجدهم في المطاعم يسهرون، والمقاهي ملأى بالزبائن، والبارات لا تخلو من روادها ومحبي السهر، لكن اليوم تغير الحال، فهناك حظر تجول مفروض من الساعة 11 ليلا حتى الخامسة فجرا، يمكن ملاحظة أن ضجة السكان أصبحت أقل، يمكن خلال النهار والليل سماع أصوات صفارات الإنذار تدوي مرتين أو ثلاثة، لكن ليس هناك شعور بالخوف، ببرودة تامة يتم استيعاب خطر القصف، وهو ما يعبر عن تمسك الأوكرانيين بالحياة رغم مخاطر الحرب.

انتقلت أنا وأصدقائي إلى كييف، بدءا من اسطنبول إلى بلغاريا فرومانيا ومولدافيا، ثم وصلنا إلى أوكرانيا والتي كانت طرقاتها من أفضل الطرق التي عبرنا بها وهذا ما لفتني كثيرا، أهالي كييف يبدو عليهم الإصرار على الصمود في بلدهم والبقاء. الجميع هنا يتحدث اللغة الأوكرانية ولا يسبب ذلك أي مشكلة في التعبير عن موقف رافض للحرب الروسية على بلادهم، فالأغلبية الساحقة حسب استطلاعات الرأي ضد روسيا، حتى الذين من أصل روسي، لا يحبذون العيش في النموذج الروسي، ويفضلون العيش في النموذج الاوروبي ولا يريدون أن تفرض روسيا نموذجها عليهم.

تذكرت هنا بدايات الثورة السورية، الكل يريد المساعدة ويعمل ويتطوع، يجمعون الأموال من أجل مساعدة المتضررين ودعم الجيش ويعملون في إطار البرامج التي تضعها الحكومة للاسهام في تطوير البلد نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي، عبر العمل على التغيير في هيكليات قانونية واجتماعية واقتصادية، فهذه معركة مهمة يخوضها الأوكران وتوازي أهميتها المعركة العسكرية.

في الشرق، طبعا هناك دمار ضخم جدا كما قيل لي، لكني لم أزرها اكتفيت بكييف، ثم توجهت جنوبا نحو أوديسا، ومنها غربا نحو رومانيا، ولكن كل الذين تحدثت معهم أفادوا عن دمار فظيع في المنطقة الشرقية، التي تشهد معارك طاحنة يوميا، وعلى الرغم من ذلك المعنويات عالية.

ما لاحظته أيضا، انتشار أعداد من النساء والفتيات على الحواجز، يقمن بدورهن في المهام الأمنية الموكلة لهن، ويتعاملن بأسلوب ودي، فالحواجز هنا ليست مثل الحواجز التي تقام في بلدنا، أي لا عنف ظاهر على الأقل، بل تعامل بود واحترام، وهو ما يعكس حقيقة الثقة بالنفس، فالواضح أن معنويات الأوكرانيين عالية والتسليح الغربي بالصواريخ الدقيقة التي يصل مداها إلى 300 كلم فعالة، وقد غيرت مجرى المعارك وأحدثت فروقات كبيرة. إجمالا ما عرفناه أن الروس يتجهون نحو القصف العشوائي ويدمرون مراكز عسكرية قليلة ويستهدفون مراكز سكنية، وغالبا ما يدمرون حول الهدف وليس الهدف نفسه، ويشن الأوكران حرب عصابات متعبة بالنسبة إلى الروس.

يمكن القول إن أهم تطور فعلي في الحرب، جرى في منطقة خيرسون فوق منطقة القرم، غرب مناطق السيطرة الروسية. أكثر نقطة غربا وصلوا اليها. وهذا الإقليم تم عزله من قبل الأوكران عن باقي مناطق السيطرة الروسية، عبر تدمير ثلاثة جسور من أصل أربعة، بواسطة صواريخ هيمارس. وفعليا الروس يعانون من نقص في الإمدادات العسكرية، عدا عن الأوكران استطاعوا تدمير مخازن ذخيرة للجيش الروسي، ويقطعون خطوط الإمداد. وفي الفترة الأخيرة جرى تدمير خط قطار محمل بالذخيرة القادمة من شبه جزيرة القرم باتجاه خيرسون. القوات الروسية لديها مشكلة في إيصال السلاح والوقود والغذاء لجهة الغرب البعيد عن الحدود الروسية، أي ليس لديها عمق استراتيجي، كما بدأت معارك استعادة قرى في المنطقة من الروس من عشرين لخمسين قرية خلال الأيام الماضية. ومن الواضح أن المعارك ستطول والروس يقومون بقصف عشوائي في المحيط، ولكن من المتوقع أن تنفذ ذخيرتهم وسيعانون من مشكلة تأمين الامدادات.

أيضا من الواضح، إنه اذا تمت استعادة خيرسون تصبح مناطق القرم في مدى المدفعية الأوكرانية، وهذا يغير اللعبة كثيرا، ويجري الحديث عن وجود عشرة الآف جندي أوكراني يتدربون في بريطانيا، وهناك كلام عن تسليح نوعي، لا سيما الطيران. وهناك تدريبات في هذا المجال في الدول الغربية، ومن المتوقع حصول تغيير جذري في سير المعارك في العام 2023، وللأسف نحن نتحدث عما بعد الست شهور، ويمكن أن لا تحدث هذه التغييرات المتوقعة إلا في الربيع، وتفرضها عملية التسليح النوعية للجيش الأوكراني. وهذا ما سيغير المعادلة على الأرض. وآخذا بالاعتبار أن القرم إذا سقطت فعليا ستكون الحرب قد انتهت.

بالنسبة لنا في سوريا سيكون هذا السقوط وخسارة روسيا للقرم أي قاعدة الجيش الروسي في البحر الأسود للانطلاق في العمليات العسكرية، واذا سقطت سيكون وجود الروس في البحر المتوسط انتهى فعليا، ويصبح وجود روسيا في سوريا بلا جدوى، وهذا سيغير من المعادلات.

وهناك تكهنات بأن فشل الروس في حربهم ضد أوكرانيا سينقل المشكلات إلى داخل روسيا ويفجر صراعات هناك، ويمكن أن تتم العودة إلى إحياء المشاريع الانفصالية، طبعا هناك قوات من الشيشان تقاتل ضد الروس، وهم من الناقمين على الوضع الروسي. وفعليا هذا قد يعني نهاية روسيا الفيدرالية التي نعرفها نحن اليوم، ونهاية الرئيس فلاديمير بوتين.. وهو يدرك ذلك، وقد دخل المعركة ويدرك أن تبعاتها ستكون كبيرة عليه.

بالنسبة إلى موضوع جرى تداوله في الإعلام سابقا عن قتال سوريين مع بوتين في أوكرانيا، سمعت خبرا من مصدر عربي في أوكرانيا بأنه في خيرسون تم استهداف موقع يتواجد فيه مقاتلون سوريون يفوق عددهم المئتين، قتلوا في القصف الاوكراني، وهذا لا يمكن أن أؤكده أو أنفيه، لكن يجري تداول هذه المعلومة، عدا عن أن هناك ضباطا روس يقودون المعارك في هذه المنطقة خدموا في سوريا وقتلوا في الحرب. ولا ننسى أن من قاد المعركة منهم جعل من سوريا أرضا محروقة، كما يفعلون اليوم في اوكرانيا.

بالنسبة للأمور الحياتية، كل شي متوافر تقريبا لا نقص بأي شيء. في بعض المناطق هناك تقنين في الوقود، لكن الخدمات مؤمنة، كهرباء، انترنت، طعام، السوبر ماركات ملأى بالمواد الغذائية.. لا يوجد نقص، لا يمكن إنكار أن أداء السلطات الأوكرانية على هذا المستوى جيد فالتنظيم ظاهر، طبعا هناك مشكلات في النقل على الحدود، حيث تنتظر الشاحنات بأعداد ضخمة أياما حتى تستطيع العبور إلى الطرف الأوكراني وطبعا داخل أوكرانيا هناك مشكلات نقل ناتجة عن تدمير الجسور والبنية التحتية.

والملاحظ أن الشعب الأوكراني يحب رئيسه فولوديمير زيلنيسكي ويقف معه، ويشكل رمزا بالنسبة إليهم وهو يقاتل من أجل قضية وطنية، على الرغم أنه قبل الحرب كانت استطلاعات الرأي أشارت إلى انخفاض في شعبيته، نتيجة الصراعات السياسية الداخلية ووعود الاصلاح التي كانت تسير ببطء أكثر من المتوقع، ولكن ارتفعت شعبيته وقت الحرب.

أخيرا، يبدو أن الذين لديهم إقامات طويلة لم يغادروا خلال الحرب.

عن موقع السؤال الآن

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني