fbpx

شريعة الغاب

0 319

شريعة الغاب

يعتبر الإنسان الكائن الاجتماعي الأكثر في الطبيعة بمقارنته مع مجتمعات أخرى من الكائنات الحية كمجتمع النمل والنحل، لكنه الوحيد غير المستقر دائم الحركة والتنقل، من دائرة الى أخرى من الأصغر الى الأكبر والأكبر حتى شمل معظم الكرة الأرضية، وعدم الاستقرار هذا تبعه تغير بالقواعد التي تحكم كل مرحلة، فما يحتاجه مجتمع الصيد يختلف عن مجتمع الرعي، ويختلفان كليهما عن المجتمع الزراعي. هذا التغير لا ينطبق على مجتمع النحل والنمل…. الثابت غير المتغير.

تحتاج المجتمعات دائماً لقواعد تنظم كل مرحلة بما يتناسب معها.

لم تتطلب حياة الإنسان في الكهوف سوى وسائل بدائية لاستمرارها من تأمين الغذاء والدفاع عن النفس بمواجهة الطبيعة. لذلك لم تظهر القواعد القانونية إلا بعد نشوء العلاقات الاجتماعية بالمقايضة وتبادل الحاجيات التي أصبحت تزداد بحكم توسع الدائرة، من الأسرة إلى القبيلة، ثم العشيرة ومن مرحلة الرعي إلى محيط واسع، بعد ممارسة الزراعة من المشاع الى التملك والتمحور حول الأنا وظهور (الملكية الخاصة). هنا كان التحول الكبير في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والقواعد الناظمة لها.

ارتسمت كل مرحلة بقواعد معينة منطبعة بشكل العلاقات القائمة بين البشر، فالبداية لم تتطلب أكثر من سلوك عفوي، ومع التكرار والاعتياد ترسخت هذه القواعد وتحوّلت مع الوقت إلى عرف نظم العلاقات في مجتمع الأسرة والقبيلة والعشيرة، بموجب سلطة رب الأسرة إلى سلطة زعيم القبيلة أو شيخ العشيرة.

بحكم تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تتطور القواعد الحاكمة فيها. ومع ظهور الممالك والدول نظمت القواعد القانونية من المصدر الأساسي لها الأخلاق والعرف والعادة، كقانون حمورابي والقانون الروماني، إلى أن ظهرت الديانات السماوية، التي تضمنت قواعد ناظمة لحياة البشر، فكانت الدول تحكم باسم الرب حيث يستمد الحاكم سلطته المطلقة من سلطة الرب المقدسة، فمارس الظلم والاستعباد على مجتمعه، مما ولد حفيظة المفكرين وظهرت نظريات تتحدث عن حق الشعوب ووجوب تحديد علاقة الحاكم بالمحكومين للحد من سلطة الحاكم، وعن أشكال الحكم بشكل واسع رغم وجودها بشكل أضيق في عهود مضت.

اذا كان القانون هو انعكاس لصورة المجتمع وطبيعة العلاقات القائمة فيه، فالمجتمع الذي يحكم بموجب سلطة دكتاتورية مطلقة يختلف تماماً عن المجتمع الذي يحكم بالديمقراطية، فالأول مغلق على نفسه تسوده الأنا المتأثرة بأنانية الحاكم مجتمع ضعيف متفكك متخلف يكثر الفساد فيه، أو ما يسمى شريعة الغاب أي عودة إلى المجتمع البدائي وسيطرة الأقوى فيه، وغياب القانون وسيطرة القوى المتحكّمة بالاقتصاد على سن القوانين وتشريعها بما يلائم مصالحها، فهي الأقوى وصاحبة النفوذ، وغالباً ما يكون التحالف بين السياسيين وأصحاب رأس المال، بعكس المجتمع الذي يسوده نظام حكم ديمقراطي، فالمجتمع فيه صاحب القرار، منفتح متطور متقدم بكل مجالات الحياة يطور نفسه وقوانينه بما تتطلبه حاجاته بشكل طبيعي تلقائي إلى الأفضل.

بالرغم من التطور الذي شمل كل المجتمعات، إلا أنه متباين من مجتمع لآخر،  فبعض المجتمعات تراجعت بعد أن سارت خطوات إلى الامام في طريق التقدم، ونظمت قواعدها القانونية بما يتناسب مع روح العصر، نوعاً ما لكن لم تنعم تلك المجتمعات حتى بالقوانين السائدة من شدة الفساد الذي تغلل في أجهزة الحكومات فيها وعاد بالمجتمعات إلى شريعة الغاب.

تسلط وسيطرة الأقوى بالرغم من وجود القوانين المدنية مثل ما جاء بقانون العقوبات السوري مادة /419/ (من أقدم على، استيفاء لحقه بالذات وهو قادر على مراجعة السلطة ذات الصلاحية بالحال على نزع مال في حيازة الغير واستعمال العنف بالأشياء فأضر بها عوقب بغرامة لا تتجاوز ألفي ليرة) تلك القواعد تنم عن حضارة ومدنية ساطعة. إلا أن في تسلط الفئة الأقوى واستحواذها على الاقتصاد جعلها متحكمة بإصدار القوانين التي تخدم مصالحها، دون جدوى اقتصادية تخدم المصلحة العامة، فلا عجب أن تصدر قوانين آنية وارتجالية نتيجة ضغط هذه الفئة المتسلطة على صنّاع القرار، أو إنهما شركاء في المصالح. لذا نجد تراجع القوانين إلى ما يجب أن تكون عليه لخدمة المجتمع نحو التطور والتقدم غنى عن أن غيابه وعدم سيادته أدى الى تراجع تلك المجتمعات.

لا مناص أمام الشعوب من سيادة القانون وقيام أنظمة ديمقراطية لتعيد ترتيبها بين الأمم المتحضرة.

لا فرق بين مجتمع وآخر إلا بسيادة القانون، فالقانون والفكر القانوني هو انعكاس لصورة المجتمع وقيمه وأخلاقه.

كما أسلفنا كل القواعد القانونية نشأت بالأساس من عمق التاريخ فمن الأجدر أن تحظى كل المجتمعات البشرية بما تستحق من حقوقها الإنسانية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني