fbpx

سورية قبل تسع سنوات وبعدها

0 2٬221

كثيراً ما يثار سؤال حول الواقع السوري قبل العام 2011، وإذا ما كان ذلك الواقع يتطلب ثورة بالفعل، ثورة تقود إلى نظام عصري.. مدني.. تعددي.. تُتداول فيه السلطة استناداً إلى انتخابات ديمقراطية حرة، انتخابات يمارسها الشعب كما يحصل عند أمم الأرض جميعها.. أم إنّ ذلك لا يليق بسورية وشعبها! إن المتابع للشأن السوري منذ ثمانينيات القرن الماضي يدرك كم تدهورت الأوضاع السورية على غير صعيد، حتى إن النظام وأعوانه كانوا يلهجون بها على نحو دائم، ولكن خوف المستبد من ضياع ملكه المستولَى عليه بالقوة والوراثة يشكل هاجساً دائماً له وشاغلاً ذهنه وروحه، جعله يمتنع عن القيام بأية محاولة للإصلاح رغم أن جميع المقربين منه أفراداً كانوا أم أحزاباً كانوا يرون الإصلاح ضرورياً وأوله الإصلاح السياسي بوابة الانفتاح على الشعب لكنه لم يفعل وحين هبت نسائم الربيع العربي كان الوقت قد فات وتبين أن الحاكم المستبد الذي جاء وبرنامجه الإصلاحي وفق مبدأي التطوير والتحديث ومحاربة الفساد كان منفصلاً عن الشعب وكان يعتقد أن سورية تختلف عن البلدان التي رحّلت حكامها كتونس ومصر، وليبيا التي قتلت رئيسها بل ملك ملوك إفريقيا شرَّ قتلة إذ علق على ذلك بأن سورية ليست كالرمال الليبية..!
أذكر أن الشاعر شوقي بغدادي، وكنت في مطلع العام 2011 لا أزال في جريدة النور فطلبت منه مقالة عن الربيع العربي فكان أن أرسل مقالته وقد بدأها بجملتين هما: “أنا فرح وحزين.. فرح لما جرى في مصر وحزين لأنني كنت أتمنى أنَّ ما حدث هناك أنْ يحدث هنا في دمشق في بلدي سورية..” لم تنشر المقالة طبعاً، رغم أهميتها، وبما تكتنزه من احتقان شعبي أوجع روح الشاعر المفعمة بحب الوطن والشعب.. لم تنشر المقالة لأن إدارة الجريدة لم تكن لتحتمل مثل تلك النفحة الروحية الصادمة بصدقها وبتجسيدها للحال السورية بكامل عمقها وأبعادها، في وقت كانت المنطقة العربية بأكملها تتطلع إلى الخلاص من أنظمة الاستبداد التي قادت بلدانها لا إلى التخلف والعبودية فحسب بل إلى الهزائم المريرة المتلاحقة، وهي التي جاءت باسم الحرية والتحرير والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية.. ويمكننا قراءة ذلك الوجع في النقاط التالية:
أولاً: كانت سورية، تجرُ سنيِّها ببطء ورتابة، منذ ما يقرب الأربعين سنة، أو يزيد قليلاً.. وهذا مخالف لمعايير الحياة ذاتها، ولمحتوى نمو الطبيعة، وحركة التاريخ.. فقوانين المجتمعات والأكوان الأرضية منها والسماوية، تقول بالتغيّر والتبدّل والتجدّد.. والماء الذي يتوقف عن الجريان يتحول مع الزمن إلى مستنقعات تصبح مجالاً للأوبئة.. لكنّ المعنيين المتنعمين بخيرات الشعب السوري أنكروا على الشاكين آهاتهم وأناتهم، وتجاهلوا إشفاقهم على حال الوطن وما عاناه أهله، من هزائم أمام العدو واستعلاء عليهم ومن ثمَّ تخوفهم من الأسوأ في قادم الأيام وما تحمله من مرارات..
ثانياً: فشل التنمية في البلد منذ سنوات عدة، والسبب الجوهري توقف النمو الاقتصادي الذي أخذ ينمو في منتصف الستينيات بعد أن توقف منذ القطيعة مع البرجوازية الوطنية أواخر خمسينيات القرن الماضي، ليتحول فيما بعد إلى اقتصاد طفيلي يقونن أساليب النهب.. وانشغل هؤلاء اللصوص (من كبار ضباط الأمن والجيش وموظفي الدولة وممن لهم صلات قرابة مع رأس الهرم وأهله) في سعيهم وراء تشييد القصور، وجمع التحف، سرقةً أو شراءً، وتكبير حجم الأرصدة في البلدان الأوربية (الدول الاستعمارية المتآمرة علينا، والطامعة بخيرات بلادنا) ولم يخطر ببال هؤلاء اللصوص القيام بمشروع ما.. وإن خطر لبعضهم فسوف يسعى إلى مشروع خدمي، نصف تكلفته، إن لم يكن كلها، تأتي من الدولة العتيدة..!
ثالثاً: وعندما تتوقف التنمية الاقتصادية، يتوقف معها كلّ شيء.. ولا أريد أن أعطي أمثلة عن الصحة، ولا عن التعليم.. فتكفي الإشارة إلى أنَّ (إحدى جامعاتنا الرسمية جاء ترتيبها عام 2010 ثمانية آلاف بين جامعات العالم! ومعلوم أن أبجدية التقدم تبدأ من العلم والتعليم..) أو السكن ولا عن حجم البطالة التي تفشت، في السنوات الأخيرة، بين الشباب، وخصوصاً الخريجين منهم هؤلاء الذين يُدفعون مع خبراء في غير مجال للعمل في دول عربية كثيرة، بعضها غير بترولي، يحكمها «معتوهون أو أنصاف رجال». ليعانوا الغربة والذلَّ تلبية لحاجة أسرهم وليجدوا الأسباب للبدء بتأسيس حياتهم…
ثالثاً: حال الفساد الذي تفشى في البلاد وأقطابه هؤلاء الذين يشار إليهم على أنهم من عظم الرقبة وقد أخذت سورية ترتيباً متقدماً جداً بين الدول الأكثر فساداً في العالم أجمع، وأكثرها تخلفاً في الوقت نفسه.. حتى إن ذلك الفساد حال دون قدوم مستثمرين إلى سورية بعد أن اقتنعت مكرهة بطلب مستثمرين عرباً وأجانب فهي دولة “اشتراكية” ذات اقتصاد موجه، لكن المستثمرين رفضوا الاستثمار في بلدنا لكثرة ما لدينا مما يتوجب عليهم من دفع رشا وأتاوات.. وإلا فالبيروقراطية ستعطل لهم مشاريعهم، وهذا جزء يسير من أحوال الفساد وشؤونه.. أما المشاريع الحكومية فقد أخذت مُدد إنجازها تطول متحدية الزمن في بقائها على حجر الأساس أو اكتشاف فشلها بعد الانتهاء من حفل التدشين ويكون إنجازها قد استهلك ربع قرن من الزمن على الأقل..!
رابعاً: وهذا مهم جداً وأعني به احتكار السياسة، وتعطيل حركتها، ومصادرة شارعها، وقمع أحزابها، وهل ثمة عاقل في دنيا القرن الحادي والعشرين كلّها.. يُقْدِمُ على تعطيل السياسة في بلده.. إلا إذا كان لا يعتد بأبناء شعبه على أنهم بشر فاعلون ولهم عقول..؟! إن تعطيل السياسة يحول دون وجود الحالة التنافسية في المجتمع فيحوله إلى نوع من التشابه والتماثل فلا مجال إلى الأنواع الجديدة المبدعة.. أو كما سماها حنا مينة في روايته “الشمس في يوم غائم” بالدودة الشريطية التي تتوالد من نفسها، وهو يرمز إلى الأحوال الداخلية للمجتمعات الإقطاعية.. ولعلَّ الحال هنا مشابهة فهو استبداد عسكري ينتمي إلى الريف وتسيطر عليه عقلية المختار الذي يستعين بالآخرين الذين يتحلون بصفات الانحناء والانقياد.. فيصار إلى تقزيمهم تحت اسم “مستشارين..” فتكبير المستبد يتطلب تصغير الآخرين..
خامساً: سطوة الأمن، وتوغل أجهزته المتعددة في جسد المجتمع وروحه، إذ تتدخل في الشاردة والواردة من شؤونه، وفي معظم الأحيان، إن لم أقل كلّها، تخرج عن المهام المنوطة بها.. وإذا كان من مساهم أساسي في أحوال الفساد الناشئة والمستفحلة وفي تخريب أخلاق المجتمع فهو هذه الأجهزة إلى جانب أصحاب القرار والأموال طبعاً.. والكل كان يتساءل كيف تستطيع أجهزة الأمن أن تعدَّ على الناس أنفاسهم.. وفي الوقت نفسه لا تتعرف على مواطن الفساد لتضع أقطابه في دائرة المحاسبة؟!
على تلك الأرضية هبَّ الشعب السوري محتجاً بزخم غير مسبوق، فقوبل برصاص لئيم مدفوع بجهل حاكم يعدّ الوطن مزرعة له ولأسرته وبوحشية من استعان بهم في الوقت الذي لم تكن هناك معارضة نامية في أجواء طبيعية، التي أوهمها ذلك الحراك الشعبي، فظنت أنها منتصرة في زمن قصير ولذلك مالت إلى أمور ثانوية، ذلك إذا تجاهلنا سيادة بعضها على بعضها الآخر، وقبولها بالارتهان أيضاً ما أوقعها بخطأ النظام نفسه.. وكان أنْ خرج القرار السوري من يد السوريين نظاماً ومعارضة إلى دول أخرى تبين أنها حتى الساعة غير قادرة بمفردها على إيجاد حل يناسب السوريين كافةً، ما يتطلب تدخلاً دولياً، ووجود صوت سوري موحد وقوي يمثل الداخل والخارج على السواء.. فذلك أمر في غاية الأهمية.. وهو ما يبعث على الأمل سيما وأن الداخل والخارج يعانيان وإن اختلفت طبيعة المعاناة.. ويدرك الجميع اليوم ذلك الخراب الكلي الذي آلت إليه سورية من قتل وسجن وتشريد وتدمير وإرهاب.. ولا حلَّ حقيقياً يرضي الجميع، ويلملم جراح سورية، ويعلي من شأنها، إلا العودة إلى شعارات المحتجين الأوائل، وتمثلها بصدق وإخلاص.. وبذلك أيضاً، يمكن ضمان أمر محاسبة كل من أخطأ بحق سورية..

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني