سوريا: مفاوضات.. تستثني المخيمات
في الحروب الأهلية يتصارع على الموت فقراء الشعب، ويجلس في نهاية المطاف زعماء الطرفين ويعقدون اتفاقاً يتقاسمون فيه الحصص القادمة، وتختفي عن الطاولة قائمة الضحايا الذين يضافون إلى قائمة المرحلة، أو الضرورة، فكلا الطرفين لا يرغبان بالاعتراف بهم، لأن للاعتراف فاتورة باهظة وشراكة في التنازع على المصالح.
في الحروب الوطنية ثمة اختلاف طفيف في المعادلة، غير أن الضحايا يحصلون على لقب شهيد، وراتب محدود من مؤسسات الشهداء، يكفي بحسب العادة لشراء الخبز أو المرق، ولكنه لا يجمعهما معاً، وأما الرفاهية فهي كائن مخصص لطبقة السلطة، التي تحصل على الأوسمة الحقيقية، من مال ومستلزمات ومشاريع، على عكس أوسمة الجنود، التي هي عبارة عن قطعة نحاسية لا تباع ولا تشترى ولا تقي من عثرات الزمن.
وأما المشهد السوري، فلا هو بالحرب الأهلية وفقاً للتوصيف العلمي للحروب، ولا هو بالحرب الوطنية لاسترداد شرف وطن منهوب أو تحت الاحتلال، وإنما هي حرب يعجز خبراء الحروب في توصيفها، تماماً كما يعجز علماء الاجتماع في تصنيفها، لأن ما يحدث على الأرض يتنافى ومنطق العقل، وسط امتداد غابة السلاح، وانتشار سيل الضحايا وملايين المشردين، فلا هو القاتل يريد التوقف عن قتل المزيد من الضحايا، ولا هم الضحايا يعلمون إلى أي مدى ستستمر الكارثة، ويستمر النزف اللامحدود.
سوريا من تحارب:
بشار الأسد أدى دوره كمحاضر جامعي متدين، استحضر التاريخ الإسلامي، وحدد ملامح العقيدة ووصّف خارطة التدين، والتطرف، وربط بين التطرف والدول الغربية، كان ذلك أثناء مخاطبته شيوخ (أسفل البلاط) حيث جاء يعلمهم تفاصيل دينهم ، فـــ (بشار) كان تنويرياً، دخل في علوم الجدل، والليبرالية والعلمانية، وحاول تعليم الحاضرين فصولاً في الفلسفة النظرية، وباعتبارهم من أسفل البلاط فهم في غالبيتهم لا يحصلون من الدولة على راتب يكفي لشراء الخبز فقط، وفي أغلبهم هم عالة على التجار والجوار، حيث يحسن إليهم الدمشقيون ببعض الطعام والعون، لأن المجتمع الدمشقي معتاد على الكرم، خصوصاً على هذه الفئة من الناس، وأما طبقة مشايخ البلاط، الذين ينامون على فتات القصر البعثي فهم أقلاء ولا يلتقيهم عامة الناس.
كانت هي ذاتها الوصفة البعثية، التي تخلط الأمور، فالخطاب البائس هو ليس خطاب بشار الأسد، ولكنه خطاب المؤسسة الدينية القائمة في سوريا، التي بدلاً من أن تعمل على تقديم الحد الأدنى لواجبها الأخلاقي أو الإنساني تجاه الذين لا يجدون قوتهم اليومي في شوارع دمشق قبل غيرها، فهي على العكس تماماً تستغل القضايا الدولية والجدل الدائر حول الأديان والعلمانية لكي تطرح رأس النظام ليقدم نفسه وكأنه بيت الحريات الدينية.
مفاوضات عبثية:
المفاوضات السورية – السورية لا تتقدم، ولا تقدم خطوة ولا رغيفاً للخبز لساكني الخيام، فلا النظام يريد أن يهبط من جبل قاسيون، ولا هي (المعارضات) على اختلافها قادرة على الوصول إليه، وما يجمع الطرفان هو المكان الذي يتفاوضان فيه فقط، وما يتفقان عليه هو غالباً الانتقال إلى الجولة القادمة. فالنظام يريدها خالدة مخلدة، ويريد دستوراً طيعاً بين يديه يحول دون مزاحمة أحد على ما استأثر به. أما المعارضة فتريد الحصول على مقاعد في الكيانية القادمة، وأما ساكنو الخيام فهم ينتظرون دوراً من خارج منظومة النظام والمعارضة، وبالتحديد تبقى آمالهم على القوى الدولية التي يريدون لها أن تنهي أطماع النظام بخمسين سنة إضافية من الحكم. فعليهم أن يتحملوا أعباء موسم شتاء قارس يتوقعه الخبراء في مجال الطقس لهذا العام، وأما خبراء السياسة، فهم مكتئبون، ما يعني أن أمام السوريين سنة جديدة في المخيمات، بانتظار المجهول.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”