سوريا.. بعد عواصف الكراهية
لابدّ أن تنتهي الحرب في سوريا يوماً ما، فقد ارتكب التاريخ حماقات كثيرة في كل مكان في العالم، ولكن النهاية كانت دوماً أفول عصر الحرب واستئناف الحياة من جديد، هذا على الأقل ما حصل في القارة العجوز بعد سلسلة حروب دامية، توجت بحربين عالميتين ارتكبت فيهما كل فظائع الشر، وحصدتا نحو مائة مليون قتيل ومعاق، ومع ذلك فلم ينقض على رحيل هتلر ستة أشهر حتى وقّع العالم وثائق الأمم المتحدة وبدأ عصرا دولي جديد، وبعد أقل من أربعين عاماً وصل الأوربيون إلى نهاية معقولة لعصر الكراهية ووقعوا اتفاقية “ماسترخت” التي حققت إخاء القارة الأوروبية، وفتحت حدودها وثقافاتها وقوانينها إلى الغاية لبناء الأسرة الأوربية الناجحة على أساس من السلم والديمقراطية بعد قرون دامية من الحرب.
ولكن هذا الاستهلال بالتفاؤل والأمل لا يجوز أن يخفي عن أعيننا الحقيقة المرة في انتشار ثقافة الكراهية في مجتمعنا السوري الذي عاش ظروف الحرب الدامية، وما تفرزه من أحقاد وثارات، وقد باتت ثقافة الكراهية من وجهة نظري أفظع كوارث السوريين، وأخطر تحدياتهم، وهي كارثة جعلت السوري مقتنعاً بأنه محاط بالأعداء من كل وجه، وأن عليه أن يقاتل في كل اتجاه ليتقي تآمر الأعداء من يمينه وشماله ومن فوقه ومن تحت رجليه، وهو تحد لا ينتهي أبداً بتوقيع وثائق نهاية الحرب ولا بقيام حكومات جديدة ولا انهيار نظام ولا قيام نظام.
لقد تم تكريس ثقافة الكراهية في مجتمعاتنا البائسة عبر تحالف لئيم بين خطاب السياسة وخطاب التطرف الديني، وبدا كما لو أن السياسة والتطرف الديني يمتلكان مدرسة الكراهية بالتناصف ويتبادلان الأدوار بإدارة وتدبير، حتى صار هذا المجتمع المذعور مبتلى بثقافة الكراهية حتى الثمالة.
في خطابنا السياسي أدخل نظام البعث القومي مصطلح العدو للتعبير عن المختلفين مع النظام في توجهه السياسي، وبات مصطلح العدو يتغذى بثقافة الكراهية ويغذيها، ويخلق أجيالاً تلو أحيال تتبادل نار الكراهية.
والعدو مصطلح ثوري عربي مقاوم تم تكريسه في غمار الحرب التي شنتها الأنظمة العربية القومية الثورية المقاومة الممانعة على الاستعمار والإمبريالية وأذنابها من العملاء… هكذا على الأقل هو شكل التوجيه المستمر للخطاب الذي تلقيناه على مدى عقود على مقاعد الدرس الكئيبة، حيث يتم حشد كل الطاقات للمعركة ويتم تكريس ثقافة المؤامرة على كل المستويات.
ومع أن العدو يبدأ عادة بمصطلح الصهيونية وسرعان ما يتجاوز إسرائيل إلى حليفتها أمريكا والدول الدائرة في فلكها مثل كندا وأستراليا، ثم فرنسا الاستعمارية وبريطانيا الاستكبارية، وأعوانهم في الاتحاد الأوروبي الذين يتعين شطبهم جميعاً من الخارطة وفق وزير الخارجية المعلم، ويمتد العدو بالطبع إلى تركيا العثمانية الإخوانية، وجامعة الدول العربية بدولها الاثنتين والعشرين التي أصبحت أداة استعمارية بمخالب قومية، لتجد نفسك محاطاً في وطنك من الجهات الأربع بالأعداء الذين لا ينفع معهم إلا المواجهة الماحقة.
ولكن أسوأ ما في مشهد العدو أنه امتد في الداخل، وانتشر بشكل مريع في المحافظات السورية الأربعة عشر، وامتد في صحراء سوريا وغاباتها وجبالها وسهولها وبراريها، ومساجدها وكنائسها، وجامعاتها ومدارسها وأفرانها وأسواقها ومشافيها الميدانية، وصارت سوريا من القنيطرة إلى عين ديوار تحتشد بالعدو الذي يجب قتاله حتى آخر قطرة.
لم يستخدم النظام أبداً أي مصطلح آخر في تعامله مع شعبه، ولم يسأل أحد لماذا أصبح هذا الشعب عدواً، ولم يتساءل أحد في فريق القيادة أن من المحتمل أننا نستعدي شعبنا، وأن هناك أخطاء نمارسها تجعل الآخرين يتحولون إلى عداوتنا، لقد ظل الخطاب الاتهامي دوماً جاهزاً في حق كل مخالف، حتى صار الأصل في الشعب أنه عدو إلا من قدم صكوك البراءة!!
وما مارسه الخطاب السياسي في إطار التخوين مارسه الخطاب الديني المتطرف في إطار التكفير، وأطلق سلسلة فتاوى في الولاء والبراء تجعل المسلم مأموراً بقوة الشريعة أن يكره الآخر المختلف عنه، ويتم ذلك بدون أي رتوش، حيث إن الله تعبدنا بحب المؤمنين وبغض الكافرين، والكافر هنا يبدأ من تارك الصلاة ومن صاحب الأفكار المتحررة التي لا يرضاها رجال الدين، ويتم تدريس الطلبة أن الله يبعث الخلق يوم القيامة فيقول يا آدم اخرج بعث النار فيقول: ومن بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون نفساً، وبوسعك أن تتصور هذا اللون من التربية الذي يكرس في نفس جيل كامل أن الشر في المجتمع يبلغ 999 بالألف! وأن هؤلاء يجب أن نمارس عليهم البغض في الله، وأن المطلوب قتالهم وإقامة الحد عليهم، ولكن حين نعجز عن استخدام أدوات القتال فإن المطلوب فقط هو ممارسة الكراهية والبغض في الله حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!!
ليس في هذا التصور أي مبالغة، فهي أرقام ينص عليها بدقة للأسف أحد أكثر الكتب شيوعاً ومقبولية في العالم الإسلامي وهو صحيح البخاري نفسه.
وحتى نتجاوز السياق النظري فإن بالإمكان مطالعة هذا الواقع عبر صور كثيرة، تابعت عرضاً على قناة الرسالة يتحدث فيه المحاضر عن تفسير الآية ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، وتناول فيه أمر المواجهة مع أعداء الله من الملاحدة والزنادقة والكفرة، طرح على الشيخ السؤال التالي: أعيش في أستراليا ولا يوجد من حولنا من يحارب الله أو رسوله ونشعر بأن لدينا من التسامح والتراحم ما كفل لنا سائر حقوقنا ولا نشعر بالحاجة إلى مواجهة أحد فكيف يمكن تأويل هذه الآية؟
كان الجواب صادماً بكل المقاييس إذ تحدث الشيخ بغضب وقال: مستحيل أن يكون أعداء الله غير موجودين، إن الله يقول ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومباشرة قال للسائل صدق الله وكذبت ظنونك، إن أعداء الله موجودون في كل مكان وعليك أن تعيد دراسة الناس من حولك بعين البصيرة وستجد أن أعداءك من حولك في كل مكان!!
فالمطلوب إذن أن تتخذ نظارة سوداء وتنظر من خلالها إلى الناس، وهكذا فالمرعوب سيرى في كل سواد ذئباً وفي كل بياض ضبعاً، وفي كل إنسان مشروع قاتل!!
في مثال آخر منحت جامعة الإمام في السعودية درجة دكتوراه لرسالة بعنوان: مسؤولية الأب المسلم في تربية أبنائه، للشيخ با حارث وهو كتاب كما يبدو من غلافه حظي باهتمام كبير وتقاريظ متعددة وهو مطبوع طباعة أنيقة، وفيما كان المؤلف يتحدث عن مسؤولية الأب في تربية أبنائه راح يتحدث عن الحب في الله والبغض في الله، وبالطبع فإن الحديث عن الحب في الله تناول الحب مع المؤمنين، وتوقعت أن يكون الحديث عن البغض في الله متركزاً على الموقف من الصهاينة والمجرمين من أعداء الدين، ولكن الحديث انصرف بشكل خاص إلى وجوب بغض المخالفين في الاعتقاد وأول من ينبغي بغضهم في الله هنا هم الرافضة والصوفية، ولكن مزيداً من المفاجأة في التفاصيل فقد مضى المؤلف إلى الحديث عن وجوب بغض تارك الصلاة وقال ما نصه: إن تارك الصلاة كافر إجماعاً، فإذا تركها جحوداً وجب قتله كفراً ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، أما إذا تركها كسلاً فإنه يستتاب ثم يقتل حداً لا كفراً، ومعنى ذلك أنه يغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين!!
وبعد ذلك قال با حارث: إن الحكام للأسف لا يطبقون حد الله في هؤلاء وهو ضرب أعناقهم ولذلك يجب على الوالد أن ينهض بالمسؤولية الشرعية في تعليم أبنائه بغضهم في الله، وهو (مكتور الخير) إذ لم يقل إنه يتعين على الأبناء تنفيذ الأحكام الشرعية فيهم باسم الرب نيابة عن الحاكم!!.
مستحيل أن تكون ثقافة كهذه تنتمي إلى الدين الذي نص فيه القرآن الكريم على تحريم الإكراه في الدين، لا إكراه في الدين، ولا إكراه في الصلاة ولا إكراه في العبادة، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
مؤلم أن تكون ثقافة البغض في الله متوجهة إلى الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، وأن تبدأ بالصوفيين والقبوريين والمخالفين في الاعتقاد، ثم تبيح دم الرافضة والناصبة، ثم المفرطين في صلاتهم وصيامهم، ناهيك عن الأديان الأخرى، وحين تأخذ ورقة وقلماً وتبدأ بإحصاء المواطنين الذين ينبغي أن نكرههم في الله ويتعين على الحاكم أن يقيم فيهم حد الله، حين ذلك ستهون أمامك كل محاكم التطهير العرقي والهولوكست وسربرينتسا والخمير الحمر!!
ليس الكلام هذه المرة من ثقافة العصور الوسطى ولا هو فتوى مدونة لمشاهير التكفيريين يعاد نشرها وتسويقها، أو سؤالات نافع بن الأزرق لابن عباس، بل هو رسالة دكتوراه تناقش في جامعة عربية محترمة وتحظى بالتقاريظ المتعددة من مراجع عربية كبيرة.
أرجو أن لا أكون في وصف بشاعة المشهد قد قضيت على غايتي في مواجهة ثقافة الكراهية، ولكن المشهد المرير يتكرر كل يوم في مخاضنا السياسي والديني، ويشكل أكبر التحديات لقيام سوريا جديدة متصالحة مع تاريخها وواقعها ومستقبلها.
إنني لا أزعم أبداً أن المجتمع متواطئ على زرع ثقافة الكراهية واستنباتها واستحصادها، بل أشير تحديداً إلى تواطئ الاستبداد السياسي والتطرف الديني، وأؤكد أن المجتمع السوري يمتلك من مقومات القيام والإخاء رصيداً هائلاً يمكنه أن يتجاوز هذه التصورات المريضة، وقد استطاع عبر تاريخه الطويل أن يطفئ نار الكراهية ويوقد قناديل الحب.
ستنتج سوريا بكل تأكيد واقعاً مختلفاً يقطع مع الماضي بخطابيه البائسين السياسي والديني، ويتوجه إلى المستقبل على أساس بناء الوطن بكل أبنائه، ولدينا أمم ناجحة عالجت جراحها ومآسيها، ونظرت إلى المستقبل نظرة مختلفة، وطوت ما خلّفته الحرب من حقد وضغينة، وتركت الماضي للدرس والعبرة والتزمت قيم العدالة والمساواة والشورى في واقعها الجديد، وهو منطق كرره القرآن الكريم مرتين في صفحة واحدة: “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون”.
هذه المادة هي مساهمة الدكتور محمد حبش في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية” التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي في سوريا، وتنشرها نينار برس بالاتفاق مع الدكتور حبش.
* محمد حبش من مواليد 1962 مدينة دمشق سوريا، أكاديمي ومفكر إسلامي، دكتور الفقه الإسلامي في جامعة أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة.
ملاحظة: سيتم جمع كل المساهمات في كتاب واحد ونشره لاحقا.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”