fbpx

سوريا الجديدة .. نظام لا مركزي إداري موسّع وليبرالية سياسية

0 550

مقدمة :

سوريا المنتظرة، أو سوريا الجديدة بعد الحرب، هي سوريا التي سيتمُّ استبدالُ نظامها السياسي الاستبدادي بنظام حريّات ومؤسسات ديمقراطية.

ولما كان الصراع قائماً بين مشروعين سياسيين، أحدهما يريد تأبيد البنى السياسية والاجتماعية القائمة على ركائز دولة شمولية، تحتكر السلطة والاقتصاد والثقافة والعمل، وثانيهما مشروع سياسي يريد تفكيك هذه البنى، وإطلاق أفقٍ سياسي جديد، يفتح الأبواب أمام تطور البنى الاجتماعية والاقتصادية، ويساهم في تطوير علاقات مجتمعية ضمن إطار مجتمع مدني، ووفق نظامٍ سياسيٍ جديدٍ، تنتهي منه المركزية الشديدة، التي سمحت بتشكيل قاعدة الاستبداد والقمع والقهر الاجتماعي.

هذه الدراسة تذهب إلى البحث في الضرورات التاريخية لولادة نظامٍ سياسيٍ جديدٍ في سوريا، يقوم على مفهوم اللامركزية الإدارية الموسّعة، والذي يحتاج إلى بنى اجتماعية اقتصادية، تحمل رؤية ليبرالية. بنىً قادرةً على بناء سوريا الجديدة، دون ارتدادٍ سياسيٍ واقتصاديٍ إلى ما قبل مرحلة الصراع والحرب.

اللامركزية الموسّعة ضرورة لبناء سوريا الجديدة :

أثبتت فترة حكم ” حزب البعث العربي الاشتراكي ” والتي قفز فيها الحزب إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1963، أن آلية الحكم الجديد هي الهيمنة على قيادة الدولة والمجتمع، وأن ” السلطة الجديدة ” لا تقبل بالمشاركة السياسية، أو بتداول السلطة عبر الانتخابات.

وقد تبلورت الصورة أكثر بعد أن قفز حافظ الأسد إلى الحكم بانقلابه الذي أطلق عليه تسمية ” الحركة التصحيحية ” عام 1970. إذ عمد الأسد إلى وضع دستورٍ جديدٍ للبلاد في الثالث عشر من آذار عام 1973. وقد نصّت المادة الثامنة من هذا الدستور على أن ” حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية، تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية “(1).

ولبيان هيمنة نظام حافظ الأسد، حصر دستوره الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية بنفسه عبر المادة الرابعة والثمانون، والتي تنصُّ ” يصدر الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية عن مجلس الشعب، بناءً على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، ويُعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه “(2).

هذه الهيمنة الدستورية هي التي أعطت نظام حافظ الأسد القدرة على مركزة الحكم بصورة شديدة، وجعل محور هذا الحكم هي مصلحة بقاء هذا النظام بغضّ النظر عن النتائج السلبية الكثيرة لمركزة السلطة، وما سبّبته من إرباك للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وهذا يسمح بالقول أن دستور عام 1973 هو دستور تمّ تفصيله لتأبيد السلطة غير الشرعية، والتي لم تأت إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية شفافة، يتنافس فيها مرشحون عن القوى السياسية.

ولمنع هذا الأمر، ومنع حدوث مركزةٍ سياسيةٍ جديدةٍ، تُربكُ التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، سيكون الحل بالضرورة هو البحث عن مخرجٍ لمنع هذه المركزة، وهذا يمكن التوصل إليه عبر آليات عمل تتبعها الأمم المتحدة في تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015، بحيث يجب أن تقوم العملية السياسية برعاية الأمم المتحدة لتطبيق القرار المذكور ” لإجراء إصلاحات دستورية بإشراف الأمم المتحدة. العملية السياسية يجب أن تؤدي إلى المحاسبة والعدالة الانتقالية ومصالحة وطنيّة جدّية “(3).

هذه الإصلاحات الدستورية يجب أن تعبّر عن الضرورة السياسية الملحّة لتطور بناء الدولة السورية الجديدة، التي ستنتج بعد الحرب. فالبلاد التي غاب عنها برنامج تنموي واضحُ المعالم خلال عقود حكم النظام الشمولي، ستكون بحاجة إلى شكل نظام حكمٍ جديدٍ، يتمتع في المناطق الإدارية بصلاحيات واسعة على مستوى اتخاذ القرارات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا الشكل هو إعادة تقسيمٍ للسلطة بين المركز والمناطق الإدارية ( المحافظات )، يتيح للمحافظات رسم خطط تطورها التنموية وفق مواردها وقدراتها إضافةً إلى التنسيق مع المركز. ويمكن القول أنّ  اللامركزية تصبح ضرورة لبعض الدول من خلال فكرتها الجوهرية، التي تقوم على توزيع السلطة وأدوات الحكم بين الحكومة المركزية والإدارة المحلية “(4). هذا التوزيع للسلطة يسمح بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية والاقتصادية في البلاد. ويمكن القول أن السوريين جرّبوا على فترات طويلةٍ نظام الحكم المركزي، واكتشفوا أن تطور مناطقهم لا يتمّ إلا وفق مشيئة الحكومة المركزية في العاصمة، التي تستأثر بكلّ السلطات فعلياً. هذا الأمر خلق تفاوتاً بيّناً على مستوى الخدمات المقدمة للسكان بين منطقةٍ وأخرى، وتحديداً على مستوى البنية التحتية من طرقٍ ومراكز صحيّة ومدارس ومنشآت اقتصادية. لذا يمكن القول أن مركزة القرار غيّبت بشكل فعلي التنمية الشاملة والمستدامة للبلاد على المستويات الرئيسية ( السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي …).

لهذا فإنّ سوريا الجديدة بحاجة إلى نظام حكم لا مركزي إداري موسّع، حيث يمكن اعتبار ” أن الخيار ليس المركزية الطاغية أو التقسيم أو الفدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي تُضمّن فيه صلاحيات الحكومة المركزية في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصادية الرئيسية، حكومة قادرة على حلّ القضايا المعلّقة والشائكة، إنه أيضاً النظام الذي يضمن في الوقت نفسه أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي “(5).

الحاجة إلى ليبرالية سياسية :

خضعت سوريا في عهد البعث إلى نظام اقتصادي يمكن تسميته ” الطريق غير الرأسمالي إلى الاشتراكية ” أي أن الوصول إلى دولةٍ اشتراكية لا يمرّ بالضرورة عبر مرحلة الرأسمالية التي تقودها الطبقة البرجوازية. إذ أن الدولة التي تلعب هنا دور ربّ العمل، تستطيع تحويل المؤسسات الانتاجية الوطنية إلى مؤسسات عمل اشتراكية بعد إحداث تراكمات اقتصادية. هذا الفهم قاد البلاد إلى مأزق حقيقي على صعيد بناء التنمية الشاملة. وهذا ما دفع بنظام البعث وتحديداً في عهد حافظ الأسد إلى منح القطاعين الخاص والمشترك  مساحةً أكبر في الاقتصاد السوري. هذه الرؤية هي رؤية قصيرة المدى على المستويين السياسي والاقتصادي، فالاقتصاد قد ينمو في دولةٍ غير ديمقراطية، ولكنه لا ينمو في دولة تلعب دور ربّ العمل الرئيسي في الاقتصاد. ولعلّ هذا التناقض العميق بين البنية الاقتصادية القائمة وبين التنمية الاقتصادية المطلوبة هو من يقف خلف تفجّر الاحتجاجات الشعبية، هذه الاحتجاجات نشأت نتيجة الإحساس بازدياد الهامشية يوماً وراء يوم.

إن توجه النظام الحقيقي في السنوات العشر ما قبل الانتفاضة الوطنية، كان يمكن تلخيصه على الصورة التالية : ليبرالية اقتصادية جديدة لا ضفاف لها، ضمن بنية سياسية لا تتوافق مع مفهوم الليبرالية عموماً. بل هي بنية سياسية مغلقة على ثنائية ( القهر الاجتماعي والفساد الإداري ). وهذا يتناقض فعلياً مع مفهوم الليبرالية السياسية، التي تحتاجها البلاد لإطلاق عملية التنمية الشاملة. لذلك يمكننا تلمس أن ” الليبرالية هي عبارة عن حركةٍ ” تهدف للوصول إلى تحقيق العدل والاحساس بالحرية في اتخاذ جميع قرارات الحياة، وتسعى لتحقيق الوعي التام بجميع أمور الحياة في المجتمع “(6).

من هنا يمكن فهم مصطلح الليبرالية ( liberalism ) الذي اشُتق من مفردة لاتينية هي ( liber ). والتي تعني الحر. هذه الليبرالية تندرج ضمن منهجٍ سياسي واقتصادي، يؤشّر على مساحة حرية وحقوق الفرد على المستوى الشخصي والسياسي والمدني. هذا المصطلح يتعارض مع بنية سياسية مغلقة يمثلها النظام السياسي السوري. ولا يمكن فهم شرط الحرية في الليبرالية دون الارتكاز على قاعدة الفصل بين الدين والدولة، وهذا ما يُطلق عليه تسمية ” العلمانية “. ولهذا فالليبرالية تُبعد المنطوق الإيديولوجي عن سياق تطور البنية التي تشتغل عليها، وفق حرية الفكر والعقيدة وحركة الأسواق.

إذاً لا يمكن لبنيةٍ سياسية مغلقة تتصف بوحشية اقتصادية ( النهب + الفساد الاقتصادي والإداري + القهر الاجتماعي ) أن تنهض بمهمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهذه المهمات ليست مهمات لهذه البنية السياسية المغلقة، وإنما هي مهمات يحملها تيار الليبرالية السياسية، التي تؤمن بتداول السلطة وحرية الفكر والاجتماع. وهذا الأمر هو من وضع البنية السياسية المغلقة التي يمثلها النظام السوري أمام طريق مسدودة لتطوير الاقتصاد والبنى الاجتماعية، بما يخدم آليات التطور المجتمعي عبر عملية التنمية الشاملة.

لذلك يمكن التوصيف بأنّ ” الليبرالية عبارة عن مذهب فكري وسياسي واقتصادي، كما أنها نوع من الفلسفة السياسية التي تقوم على فكرٍ واحدٍ يسمّى الحرية “(7).

إن غياب الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية يعني بالضرورة قطع طريق التطور الطبيعي أمام البنى الاجتماعية الفاعلة في الانتاج الاقتصادي والفكري العلمي .. الخ. هذا القطع يراكم من المشكلات الناتجة عنه، مما يجعل هناك تعارضاً حقيقياً بين علاقات سياسية واقتصادية مغلقة وبين بنى اجتماعية تعيق تطورها هذه العلاقات، وهذا ما يجعل من الليبرالية السياسية حلّاً منطقياً لبنى اجتماعية تمّ منع تطورها، مما دفع بالأمور إلى الانفجار الاجتماعي.

وحين نقول ليبرالية سياسية، فنحن نقصد قيماّ ديمقراطية تخصّ تداول السلطة، والفصل بين السلطات، وتحقيق مفهوم المواطنة. كذلك تعني احترام الحقوق الأساسية، والحريات العامة، وسيادة القانون. إضافةً إلى مبدأ التعددية على قاعدة الإنصاف والمساواة بين الأفراد جميعاً.

وفق هذه الرؤية يمكن القول أنه قد ” أصبحت الليبرالية تعني الحرية والحقوق والضمانات الدستورية بكلّ أنواعها، بالإضافة لحكم الأغلبية في ظل حقوقٍ واضحةٍ للأقليات الاجتماعية والسياسية “(8).

إنّ ما تحتاجه سوريا هو الليبرالية السياسية التي تدرك حاجات المجتمع على صعيد التنمية والحريات. وهذا يعني إعادة انتاج السياسة في البنى الاجتماعية التي تمّت مصادرتها من قبل نظام اقترنت فيه النيو ليبرالية مع الديكتاتورية تحت مقومات سياسية بعيدة عن المساءلة القانونية، ومن خلال إفساد القطاعات الاقتصادية   

العامة والخاصة في البلاد.

الاقتصاد في سوريا الجديدة وأنماطه الضرورية :

الانتقال من الاقتصاد الخاضع لسلطة الدولة إلى اقتصاد جديد يلبي حاجات التطور الاجتماعي، يفترض عقداً اجتماعياً جديداً، يقوم على أسسٍ تجعل من تدخل السلطة السياسية في حياة البلاد ذات حدودٍ تسمح للأفراد بممارسة نشاطاتهم المختلفة، وخاصةً النشاط الاقتصادي، الذي سيرتكز على قاعدة الحقوق التي يؤسس لها. في هذه الحالة يكون للدولة دور وهدف أساسي يتمثّل بحماية حقوق الأفراد من خلال مبدأ  (الدولة الحارسة) . وبذلك تكون إرادة الناس واتفاقهم هي المصدر للتنظيم السياسي للدولة، التي تخضع بالأساس إلى رأي الأغلبية عن طريق تعاقدها مع الآخرين لتكوين المجتمع السياسي المنظّم. هذه الحالة تفترض وجود أنماطٍ متجاورة من الاقتصاد في حالة سوريا الجديدة، بحيث تنتج علاقات اقتصادية جديدة من خلال النظام اللامركزي الإداري الموسّع.

إن حالة الحرب التي تعيشها سوريا خلّفت أوضاعاً اقتصادية غير طبيعية، ويمكن القول أنه ” في خضمّ الحرب الجارية تمّت إعادة تشكيل اقتصادٍ موازٍ مختلفٍ عن سابقه، رغم أنه لم تختف فيه سياسة القساوة والمحسوبية العائلية الأسدية، المتمثلة في شراكة ذات طابع سياسي بين الدولة والشركات، ميّزت الاقتصاد السوري ما قبل 2011 “(9).

إن قراءة المؤشرات الاقتصادية ستسمح بالبحث عن خيارات حقيقية لطبيعة وأنماط الاقتصاد الجديد في البلاد بعد الحرب. هذه المؤشرات تدلُّ على اقتصاد متهالكٍ ” إذ بلغ مستوى المنتج المحلي الإجمالي في عام 2015 38% من المنتج المحلي الاجمالي لسنة 2010. وحسب تقديرات معهد ( SCPR ) فإنه حتى نهاية 2015 كان الفقد في المنتج المحلي بحدود 163 مليار دولار. وقُدرّت خسارة احتياط رأس المال ب 67 مليار دولار. وإذا عرفنا أن نسبة البطالة وصلت في نهاية عام 2015 إلى 53% حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل 2.9 مليون عامل، في الوقت الذي بلغت فيه نسبة السكّان الذين هم تحت خط الفقر إلى 83% من السكان “(10).

هذه اللوحة القاتمة لوضع الاقتصاد في سوريا، تتطلب وضع سياسة اقتصادية جديدة، تعيد استقطاب الكفاءات ورؤوس الأموال الهاربة خارج البلاد، هذه السياسة الاقتصادية لن تكون ذات جدوى بدون الانتقال بالبلاد إلى وضعٍ سياسي جديدٍ، يتسم بضمانات سياسية وتحديداً ذات طابعٍ دستوري جديد، يوزع السلطة بغير الطريقة التي كانت عليها قبل الانتفاضة وأثناء الحرب. ويمكن التأكيد ” أن من أخطر ما يعانيه المجتمع السوري هو هجرة الكفاءات وأصحاب الشهادات، إذ نحو 70% من حملة الشهادات هاجروا إلى بلاد المهجر، فيما يقدّر أن 15% من الأطباء والمهندسين صاروا في أوربا”(11).

ولعلّ الدولة السورية الجديدة المنشودة ومن خلال إعادة انتاج دستور وطني جديد لها، سيتقلّص دورها التدخلي إلى حدود إدارة استشراف الشكل الأمثل للاقتصاد الوطني، والذي يحتاج إلى أنماطٍ متعددةٍ متضافرةٍ على اعتبار أن البلاد ستخرج من محنة الحرب وهي في حالةٍ من شللٍ كبير في كلّ مناحي حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

إنّ وجود نظام لا مركزي إداري موسّع، يعني أن تتوزع السلطة بين المركز والمحافظات على أرضية بناء دولة مدنية تداولية السلطة، بحيث يكون للبلاد نظامان للبرلمان، أحدهما على مستوى البلاد، والآخر على مستوى المحافظة الواحدة. وفي هذا النظام البرلماني تكون مهمة برلمانات المحافظات هي انتخاب حكومات محلية ومراقبة عملها بما يتعلق بتنفيذها لبرامج التنمية والخدمات والتعليم والصحة والثقافة .

أما الحكومة المركزية فستكون مسؤولة عن كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية والدفاع عن البلاد والاشراف على قاعدة فصل واستقلال السلطات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ). ولهذا يجب أن ينصّ الدستور الوطني على حريّة النشاط الاقتصادي للأفراد ضمن قوانين لا تهدّد السلم الاجتماعي، بل تكون ذات جدوى على صعيد تراكم الرأسمال وعائداته الوطنية.

هذه الحالة تتطلب اقتصاداً حرّاً منتجاً للسلع يعتمد على قدرات البلاد وثرواتها الزراعية والطبيعية. ويعتمد على وجود أطر عملٍ واضحةٍ لحماية العاملين في حقول الاقتصاد المختلفة وحقول العمل. أي ستكون هناك نقابات مستقلة تنتمي إلى منظمات المجتمع المدني، وتكون هذه النقابات والجمعيات واضحة الأهداف والشرعية في الدستور.

ولهذا يمكن أن يكون هناك ” أشكال متعددة من الأنماط الاقتصادية، وأحدها يمكن أن يكون اقتصاداً تضامنياً بحيث ” يسعى الاقتصاد التضامني إلى التوفيق بين أهداف النمو والتنمية الاقتصادية من جهة، ومبادئ الانصاف والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى. ويجعل الانسان في صلب اهتمامات عملية التنمية، وفوق أي اعتبارات اقتصادية صرفة مثل الربح أو التراكم “(12).

الاقتصاد التضامني ليس اقتصاداً بديلاً عن الاقتصاد الحر، بل هو رافد حقيقي له، ويمكن اعتباره اقتصاداً قادراً على خلق التوازن الاجتماعي من خلال اغلاق هوّة التفاوت بين الفئات الاجتماعية بعامة. ويستطيع الاقتصاد التضامني تحرير النمو المدمج، والذي تتركز ثماره لدى الطبقات الغنية فقط، بل تتوزع على شرائح واسعة من المجتمع، تدمجهم في الحياة الاقتصادية. ويمكن للحكومات المحلية وفق نظام اللامركزية الإدارية الموسّعة أن تلجأ إلى نظام إضافي هو نظام القطاع المشترك في بعض الجوانب. أي القطاع الذي تتشارك به الحكومات المحلية مع القطاع الخاص لإنجاز مشاريع اقتصادية أو خدمية تندرج ضمن تطوير المناطق.

إذاً نستطيع استشراف سوريا جديدة خارج دائرة الصراع، وهذا ما يجعلنا في وضع انتهاج اسلوبٍ جديدٍ لإدارة البلاد واقتصادها، وفق نظامٍ لا مركزي إداري موسّع.” بحيث يمنح القانون الجديد حرية العمل والابداع والتطوير للقطّاع الخاص في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات وغيرها. وبحيث تعمل الحكومة المركزية بالتضافر مع حكومات المحافظات على دفع عجلة البحوث العلمية الوطنية بما يخدم عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

لقد جرّبت سوريا في العقد الأول من الألفية الجديدة ما أطلق عليه النظام السوري اسم اقتصاد السوق الاجتماعي، وفي ظل غياب دولة مستقرة سياسياً ذات حكومة منتخبة، بدت تجربة اقتصاد السوق الاجتماعي وكأنها فتح جديد للنهب المنظّم من قبل فئات وشرائح قوى السوق الاقتصادية المتشاركة والمتحالفة مع النظام السوري. هذه التجربة لعبت دوراً مسرّعاً للانفجار الشعبي على هذه السياسات بما حققته من زيادة في عدد العاطلين عن العمل وازدياد عمليات النهب والفساد في الدولة والمجتمع. إذ تبيّن أنه ” خلال سنوات التجربة السوية رأى عدد كبير من الخبراء والمراقبين عدم جدوى تبني اقتصاد السوق الاجتماعي كبديل لنهج الاقتصاد الموجّه، الذي تتبعه سوريا منذ ستينات القرن الماضي، إذ لم يتمكن هذا النموذج من حلّ الأزمة الاقتصادية التي ضربت الحالة المعيشية للمواطن السوري، الأمر الذي أدى إلى تزايد نسبة البطالة وتفشي ظواهر الفساد، وغياب قانونٍ خاصٍ بغسيل الأموال، يمكن محاسبة الذين أثروا عبر مواقعهم في السلطة وما اقتطعوه من المال العام” (13).

إذا يمكن القول أن سوريا الجديدة بحاجة إلى حرية أسواق وعلاقات اقتصادية إلى جانب أنماط اقتصادية تساهم في استقرار البنى الاجتماعية من خلال التوازن بين حاجات الناس وعملية التنمية الاقتصادية الشاملة.

أهمية الدمج الاجتماعي الوطني :

ليس من الخطأ القول أن ” الإنسان هو أثمن رأسمال ” كما قال ذلك المفكّر كارل ماركس. فلا حضارات بدون اجتماع الناس حول أهداف مشتركة توحدّهم في العمل والثقافة والفكر والحياة الاجتماعية، فإذا غابت القيم الجمعية بين الأفراد والجماعات المتعددة، تكون الروابط فيما بينهم قد ضعُفت، وتخلخلت البنى التي تسمح بوحدتهم ووحدة أهدافهم.

إن خلخلة البنى التي تربط جماعات المجتمع تعني تفكك الروابط الجامعة بينهم. وهذا يؤثّر في السياق العام على المقدرة على بناء المؤسسات المجتمعية الناظمة للحياة السياسية التي تسهّل التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع، وترسّخ أسس التماسك والاندماج الاجتماعي، وتعمل بشكل حثيث على خلق الانسان الحر والواعي والمنتج والقادر على خدمة الصالح العام. لذلك فإن الرأسمال الاجتماعي هو جزء من ثروة ومقومات المجتمع، التي تنعكس ايجابياً على نوعية حياة أفراده.

إنّ المناطق السورية التي تضررت من الحرب والاستقطاب والتهجير وقعت تحت تأثير سلبي، خرّب بنيتها المجتمعية، وأضعف الروابط بين مكوناتها، وأدّى ذلك إلى شروخ حادة في العلاقات الاجتماعية.

إن الاستبداد السياسي والتطرف الطائفي والقومي وانتشار مظاهر العنف والاستغلال أثّر على الأفراد عموماً وعلى المرأة بشكلٍ خاص، رغم الأعباء المترتبة عليها.

لقد تراجع التعاون بين الأفراد لحلّ مشكلاتهم في الكثير من المناطق نتيجة عدّة عوامل أهمها انتشار وسيطرة القوى المسلحة والأمنية، والتي اخترقت البنية المجتمعية وفرضت عليها نظاماً أمنيّاً مبنيّاً على الخوف والاخضاع وكراهية الآخر.

عبّر الحراك المجتمعي الذي انطلق في عام 2011 م عن الاختناق الكبير في مختلف جوانب التنمية المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية، وعكس التناقض الحاد بين المؤسسات القائمة وما يصبو إليه المجتمع. ولعبت قوى التسلط المحلية المتمثلة بالاستبداد السياسي والعصبيات والتطرف وقوى التسلط الخارجية دوراً حاسماً في عسكرة النزاع، واستغلال العنف الدامي والاستثمار في تسييس الهوية.

أدّت المعدلات المرتفعة من النزوح واللجوء والهجرة إلى تغيرات في بنية المجتمع والأسر، وشهدت العلاقات والروابط المجتمعية تفككاً، ترافق ذلك مع فقدان القدرات وامتهان الكرامة والرزوح تحت هاجس الفاقة والفقر وتحت خطر تهديد الحياة، مما أدّى إلى انهيار الثقة المجتمعية والشعور بالأمان. وفقد النازحون واللاجئون ممتلكاتهم ومواردهم ومصدر أرزاقهم.

وقد عرّف البنك الدولي رأس المال الاجتماعي بأنه ” المؤسسات والعلاقات والمعايير التي تشكّل التفاعل الاجتماعي في المجتمع، ويؤكد أن التماسك الاجتماعي عامل أساسي في التنمية الاقتصادية والمستدامة”(14).

ويحتاج الدمج الاجتماعي إلى مشاركة كل الأفراد في اتخاذ القرار، وهذا يعتبر عتبةً أولى وضرورية لزرع الثقة بين الأفراد، مما يعطي فعالية جديدة تتسم بالرضا بخصوص المشاركة في اتخاذ القرار.

إن الدمج الاجتماعي عملية تحتاج إلى إرادة تتوفر لدى كل الفرقاء، وتحتاج إلى توفر مؤسسات تعمّق هذا الاندماج وتوسعه، وهذا ما يجب العمل من أجله لولادة سوريا الجديدة.

خاتمة :

نستطيع القول باختصار شديد أن سوريا تتجه إلى ولادة جديدة، لا تعيد انتاج البنية السياسية والاجتماعية السابقة، وتحديداً خلال مرحلة الحرب. لقد اكتشف السوريون هشاشة روابطهم خلال حكم الاستبداد، وأن هذه الهشاشة مصدرها سياسات النظام، التي تقتل بناء علاقات مجتمعية على أسس وطنية ديمقراطية، تحترم الآخر، وتقرّ بحقوقه في الحياة والكرامة والديمقراطية.

سيجد السوريون أن وقتاً طويلاً قد هدروه، وهم يقاتلون تحت رايات إيديولوجية، تفرقهم ولا تبني سوريا الواحدة التي تتسع للجميع.

ثبت المراجع :

  • net/constitutions-in-syria دستور سوريا 1973
  • wikisource.org/wiki/1973 دستور سوريا 1973
  • aksalser.com/news وثيقة أمريكية جديدة تتحدث عن صلاحيات الرئيس ونظام الحكم في سوريا 14 سبتمبر / أيلول 2018
  • omrandirasat.org حول المركزية واللامركزية في سوريا – بين النظرية والتطبيق 
  • سبتمبر / أيلول 2018
  • org اللامركزية الموسعة لسوريا المستقبل 9/2/2017 د. عبدالله تركماني
  • com ما هي الليبرالية
  • com ما هي الليبرالية تعريفها وأهدافها
  • Arab-esr.org المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية – الليبرالية وتحولاتها – تأثيراتها على الفكر العربي 10/9/2017
  • aljumhuria.net/ar/content اقتصاد سوريا بعد الحرب إلى أين 18/12/2018 
  • alquds.co.uk اقتصاد سوريا – الوضع الحالي وسناريوهات للمستقبل
  • com/archives/6 1902 اقتصاد متهالك وبطالة تصل ل78% بسبب الحرب شذى خليل – 10 فبراير 2018
  • aljazeera.net/encylopedia/economy تعرّف على مفهوم الاقتصاد التضامني 24/10/2016
  • net سوريا واقتصاد السوق الاجتماعي 4/11/2017
  • http://www.worldbank.org/prem/poverty/scapital/schowmeatsl.htm

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني