fbpx

سوريا الجديدة القادمة.. خيار ليبرالي اجتماعي أم عودة لزوابع الإيديولوجية؟

2 290

تفجّر الثورة السورية في آذار عام 2011، ساهم في الكشف عن بنى المجتمع السوري، وعلاقة هذه البنى بسياق التطور بأنساقه الثلاثة (السياسي والاقتصادي والاجتماعي)، فمع هذا الكشف اتضح ارتباط البنى الاجتماعية بجوهر الثورة السورية، والتي يلخصها القول بأنها ثورة على الاستبداد بأنساقه المتعددة.

ظهر مع الثورة وفي سيرورتها، أن القوى المنخرطة بها لم تكن ذات مقدمات واحدة، ولهذا طفت على السطح تمثيلات سياسية وإيديولوجية، امتطت ظهر الثورة لأهداف ذات بعد سياسي إيديولوجي، في حين كان من المفترض أن تنهض بهذه الثورة قوى السوق البرجوازية ذات المنشأ الليبرالي الاجتماعي الوطني، أي القوى التي لها مصلحة عضوية بعملية تنمية البلاد وتطويرها.

هذه القوى الليبرالية الوطنية حاربها النظام بطرق مختلفة، وضيّق على نشاطها الاقتصادي، وفرض على قسم منها التزاوج مع فئته البرجوازية البيروقراطية، ولهذا نشأت في الظل قوى البرجوازية الطفيلية التي تعيش على السمسرة، حيث باتت من أكثر القوى مقاومة لقوى الثورة السورية، لأنها مثل النظام، ستخسر كلّ ما تجنيه من دورها ووظيفتها الناتجة من سياق يتعلق ببنية النظام الحاكم في البلاد.

إن السياق التطوري لفعل الثورة السورية لا يرتبط بنتائج سياسية واقتصادية فورية ومباشرة، بل هو يرتبط بتفكيك بنى الاقتصاد والسياسة المهيمنة على مقدرات البلاد، ويعمل على إنتاج بنى سياسية واقتصادية جديدة، بما يحقق دحر الاستبداد ومنع عودته لاحقاً، ويسمح بوضع ركائز التنمية الشاملة بكل أنساقها.

هذه المهمة التاريخية ثبت بالملموس ومن تجارب عالمية كثيرة، ومنها التجربة السوفياتية، أنها مهمة لا تستطيع قوىً تحمل إيديولوجيا اشتراكية شمولية مثل الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية أن تحملها، وأن تتبنى تنفيذها، وذلك لتعارض عميق بين الرؤية الإيديولوجية لهذه القوى وبين المهام التاريخية التي يجب أن تنهض بها، فمثل هذه المهام هي من مهام قوى الليبرالية الاجتماعية، والتي لها مصلحة مادية تاريخية بها.

إن القوى ذات البعد الإيديولوجي الشمولي، سواء الليبرالية ذات المنشأ الفكري الديني، أو الليبرالية ذات البعد القومي العربي، أو الليبرالية ذات البعد الفكري الشمولي، الذي يقول ببناء دولة العمال والفلاحين، أو أي قوى سياسية واقتصادية تعمل وفق منظور محورة الواقع حول ذاتها ومكاسبها ووجودها، إنما هي قوى تعجز عن وضع أسس التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الشاملة موضع التنفيذ التاريخي، وذلك لتناقض جوهري يتعلق ببنيتها الشمولية مع مفهوم التنمية المتحركة بفعل عوامل خارج النسق الإيديولوجي الضيَق أمام نسق الحياة وتعقيداتها.

لهذا ينبغي الدفع باتجاه أن تحمل القوى الليبرالية السورية ذات الوعي العميق بتطور البنى الاجتماعية، والحريصة على عدم ترك هوة عميقة يمكن أن تنتج من مفهوم الليبرالية الأساسي القائم على فلسفة (دعه يعمل دعه يمر).

هذه القوى الليبرالية ذات المنظور الاجتماعي العادل نسبياً، هي الأقدر على حمل مسؤولية تنمية سوريا في مرحلة ما بعد الانتقال السياسي، وهي قوى لا يجب أن تبقى أسيرة نزعات فردية أو فئوية ضيّقة، وبالتالي ليس من مصلحتها أو مصلحة تنفيذ برامج وخطط التنمية الشاملة أن تبقى أشبه بجزر سياسية صغيرة متناثرة غير فاعلة.

إن تشكيل تيار ليبرالي اجتماعي سوري هو ضرورة تاريخية، وهذا يتطلب وضع مربعات تقاطع فكري واقتصادي وسياسي بين القوى المختلفة لهذا التيار، ولهذا سيكون من البديهي أن يتشكل هذا التيار وفق خيارات بنيوية تتعلق بجوهره العميق الجامع، هذه الخيارات تذهب إلى اعتماد مفهوم الليبرالية الاجتماعية، أي الليبرالية التكافلية، التي تمنع أن تنحدر فئات واسعة من المجتمع نحو هاوية العوز وتأمين حاجات العيش الأساسية.

هذا التيار الليبرالي الاجتماعي هو أكثر قوى الليبرالية ارتباطاً بجوهره المتمثل بضرورة التداول السلمي للسلطة، والتي تماثل عملياً المنافسة الاقتصادية على مستوى الإنتاج وجودته، وهذا يعني في الشق السياسي والفكري أن تيار الليبرالية الاجتماعية هو الأقرب نظرياً ويجب أن يكون الأقرب عملياً من الخيار الديمقراطي.

إن الليبرالية إذا ما ارتكزت على قاعدة فكر ديني شمولي، فهي ستغادر جوهرها التاريخي جوهر الحريات الكلي، أي الحريات الفكرية والسياسية والاقتصادية.

وفق هذه الرؤية، لن تستطيع قوى الواقع السوري السياسية الحالية أن تنهض بمهام التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية الشاملة، لأنها ببساطة لا تملك رؤى تاريخية عن عملية التنمية الشاملة، ولأنها ستنحاز بالضرورة لإيديولوجياتها التي ثبت في الواقع أنها كانت عاجزة عن قيادة مسار الثورة وتجنيب الشعب السوري حجم تضحياته الجبارة، التي كان من الممكن اقتصارها على تضحيات غير مجانية.

لهذا يبدو أن الليبرالية الاجتماعية معنية بخيار العلمانية، وهو جزء من تكوينها البنيوي، فهي ليست ضد الدين وعقائده، بل ضد زج الدين في بنية الدولة، أي ضد أن يتصدى رجال الدين لمهام سياسية واقتصادية تتعلق بتطور البنى الاجتماعية والاقتصادية، لأن هذا التطور لا يجد أي تفسير أو فهم له ضمن الخطاب الديني المسيّس، أي التيار الديني السياسي.

سوريا الجديدة القادمة بحاجة لبرنامج شامل للنهوض بتنمية البلاد ومأسستها، دون إهمال تزامن هذه المهام مع توفير العدالة الاجتماعية عبر مفهوم التكافلية الاجتماعية، وهذا يتطلب بالضرورة وضع مربع تقاطعات سياسية وفكرية بين قوى وأحزاب الليبرالية السورية، للوصول إلى تيار سياسي ليبرالي اجتماعي، يستدرج كل القوى الاقتصادية الخاصة إلى برنامجه التنموي دون الوقوع بفخّ الربح السريع ودور السمسرة والوساطات والوكالات الهامشية.

إن منظور تصنيع البلاد ومكننة قطاع الزراعة ضمن مفهوم الحيازات الكبرى، هو قاعدة التنمية في سوريا الجديدة، وهو الطريق الأساسي لاستقرار البلاد ومنع حدوث الاضطرابات الكبرى بسبب التفاوت الكبير بمستوى الدخل الفردي.

سوريا الجديدة القادمة.. خيار ليبرالي اجتماعي أم عودة لزوابع الإيديولوجية؟فهل نشهد قريباً ولادة تيار الليبرالية الاجتماعية في سوريا، أم أن الأمر سيبقى قيد التشظي، مما يطيل بعمر الصراعات المدمرة في البلاد.

2 التعليقات
  1. نزار بعريني says

    تحليل دقيق ، يكشف اهميّة العامل الذاتي المتوافق مع طبيعة الثورة.
    الثورة في سوريا ، كما هي الحال في الإقليم ، المحكوم بسلطات استبداد، وحتّى تحقق اهداف المشروع الديمقراطي للشعب السوري، هي ، في طبيعتها ، ثورة ديمقراطية ، تسعى لتحقيق اهداف الثورة البرجوازية الديمقراطية.
    من هنا ، يصبح لوجود احزاب برجوازية ، مؤهّلة لقيادتها ، دور حاسم في إنجاحها .
    كلّ الإحترام والتقدير، أستاذ أسامة .

  2. محمد غياث مارتيني says

    اقتباس ..
    ..
    سوريا الجديدة القادمة بحاجة لبرنامج شامل للنهوض بتنمية البلاد ومأسستها، دون إهمال تزامن هذه المهام مع توفير العدالة الاجتماعية عبر مفهوم التكافلية الاجتماعية، وهذا يتطلب بالضرورة وضع مربع تقاطعات سياسية وفكرية بين قوى وأحزاب الليبرالية السورية، للوصول إلى تيار سياسي ليبرالي اجتماعي، يستدرج كل القوى الاقتصادية الخاصة إلى برنامجه التنموي دون الوقوع بفخّ الربح السريع ودور السمسرة والوساطات والوكالات الهامشية.

    إن منظور تصنيع البلاد ومكننة قطاع الزراعة ضمن مفهوم الحيازات الكبرى، هو قاعدة التنمية في سوريا الجديدة، وهو الطريق الأساسي لاستقرار البلاد ومنع حدوث الاضطرابات الكبرى بسبب التفاوت الكبير بمستوى الدخل الفردي.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني