fbpx

ساعة وثلاثون دقيقة

0 758

(ساعة وثلاثون دقيقة) تقريباً كان يستغرق الطريق من باب بيتي شمال دمشق حتى صخرة الروشة على شاطئ البحر في بيروت، مصيف الدمشقيين وساحلهم الأقرب؛ لم يبتعدوا عن بيروت منذ كانت المسافة بينها وبين دمشق فراغاً ممتداً تتقاسمه المساحات الخضراء المزروعة بالمحاصيل الموسمية مع الجرود البكر، وحتى بعد أن أصبحت عاصمةً لدولة مستقلة منذ عام1943م، ظلّ الدمشقيون يقصدونها بشكلٍ أسبوعي، أو ضمن رحلاتٍ شهرية تتنقّل في مسارٍ ثابت كلّ مرة، الفطور في نبع الصفا أو شتورة، مغارة جعيتا، تلفريك جونية، والتسوّق في الحمرا والداون تاون لسهرة لطيفة، وأحياناً تكون سفرات علاجية لعيادات الأطباء.

خالد العظم رئيس الوزراء السوري لعدة مرات عرف بيروت قبل مائة عام، وقد كتب في مذكراته بأنه قضى مع عائلته صيفي 1916 و1917 في عاليه أحد أقضية جبل لبنان ونزل في فندق “شاهين” الذي كان من أحسن فنادقها، يسترسل العظم في ذكر تفاصيل الفندق وما يحيط به، فيخلق جواً جميلاً ومألوفاً، ويذكر بأن أكثر ما يحبه هناك كان وقت الظهر حين تطوّق مجموعات من الغيم الجبل ويطلقون عليها “غطيطة”؛ يمكن أن تجد في مذكرات ذلك الجيل الدمشقي العتيق شيئاً من بيروت ملتصقاً بذواكرهم بشدة، يعبّرون عنه برفق ومودة لمكان أثير.

بيروت كانت رئةً للسوريين يتنشقون هناك رائحة حريةٍ لا يجدونها في بلدهم، هامش الديمقراطية الموجود كان واسعاً ويفسح مجالاً للإنسان للسير متأبطاً أحلامه مهما بلغ جموحها. 

على واجهات الأكشاك تصطف عشرات الجرائد بأسمائها المختلفة، أما المكتبات فتوفر أحدث العناوين، ما هو ممنوع في سوريا تجده معروضاً بأناقة يمكن لأي عين أن تلحظه بكل سهولة. 

الدراسة في جامعات لبنان كانت مقصد الكثير ممن يتحملون نفقاتها من السوريين الذين كانوا يرسلون أولادهم للحصول على مستوى تعليمي متقدم ومتطور، والجامعة الأمريكية كانت تستقطب معظمهم (الكليّة البروتستانتية السورية/الكليّة الإنجيلية السورية سابقاً) في هذه الجامعة كان الأب السوري مطمئن عل مستقبل ابنه المشرق، وهو يتذكر أعلام مثل قسطنطين زريق وفارس الخوري خريجا الجامعة الأميركية.

بعد 2011م بدأ السوري يشعر أنه داخل سجن، بعد أن أغلقت النافذة اللبنانية في وجهه بقضبان من حديد عندما بدأنا نلمح أشباح عنصرية تلوح على الحدود بين البلدين، ربطها بعضهم بإرث الجيش السوري وممارساته في لبنان أثناء الحرب الأهلية، فيما استسلم آخرون لرؤى أنطون سعادة الطوباوية التي نادت بحلم جغرافي واسع يدعى سوريا الكبرى، سوريا التي قامت حكومة فرنسا بتقسيمها إلى دويلات صغيرة (دولة دمشق، وذلك بعد أن فصلت أربعة أقضية عن دمشق وهي (بعلبك، بقاع، راشيّا، حاصبيا) ، دولة حلب، دولة لبنان، دولة جبل العلويين وذلك عام 1920م، ودولة جبل الدروز 1921م…) وذلك بعد الانتداب الذي بدأ إثر الهزيمة في معركة ميسلون 24 تموز 1921 وأقرّ أممياً 1922م، وفي 1943 نجحت فرنسا في فصل إحدى تلك الدول ووُقّع الميثاق الوطني اللبناني وتمّ إعلان استقلال لبنان عن سوريا، ولكنه كان فصلاً جغرافياً رسَمَ خطاً أزرقاً على الأرض دون أن يتمكن من فصل العائلات التي تفرقت على جانبي الحدود ، ولم يقدر أن يعلي شأن أحد الطرفين على حساب الآخر مهما وسوس في أذنه بحجج واهية؛ وبالطبع لقي هذا الانفصال معارضة كثر أبرزهم جبران خليل جبران الذي نشر في مجلة الهلال المصرية مقاله المعروف : (لكم لبنانكم ولي لبناني) ومما قاله أيضاً: “لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش، أما لبناني فمعبد أدخله بالروح”، وهو يقصد بذلك الاتفاق بين البطريرك الحويك والجنرال غورو؛ ويكمل في وصف (لبنانكم) بأنه “ينفصل آناً عن سوريا ويتصل بها آونة” مشيراً للأجزاء الشمالية والجنوبية والشرقية التي كانت تُسلخ عنه حيناً، وتُضم إليه حيناً آخر تبعاً للتوازنات الطائفية التي أرادوها للبنان.

استقبل لبنان عدداً كبيراً من اللاجئين، كان يكفي أن يقفز اللاجئ فوق كم من الحجارة أو يعبر حقلاً أو جدولاً صغيراً ليصبح خارج حدود دولته؛ نمت المخيمات في البلدان المحيطة بسوريا، نبتت بسرعة كأعشاب الحقل وتمددت لتلامس أطراف المدن وتتداخل ضمنها، لم تكن الجهود الدولية كافية، ففاض الفقر والبؤس خارج المخيمات، ليشعر سكان المدن بالضيق والتأفف، تلقوا مساعدات كثيرة ليدعموا بها اللاجئين وجدت بعضها طريقها إليهم ولكن قسمها الكبير تبعثر أو تبخر هنا وهناك في الجيوب والحسابات السرية.

لكن العامل السوري تسلسل الى الأسواق العطشى لمهارته وإخلاصه، فاستوعبته لمهنيته ورخص أجره، وتمّ تفضيله من قِبل رب عملٍ يرغب في ضغط مصاريفه، ما شكّل ضغطاً غير مباشر على السوق المحلية التي شعرت بالخوف والتوجس من هذا اللاجئ، فتغير توصيفه عند فئة المتضررين من لاجئ إلى منافس.

يوم 27/12/2020 في منتصف الليل وإثر شجارٍ بين عائلة في بلدة بحنين ومجموعة من العمال السوريين من سكان مخيم المنية بحنين، قام مجموعة من المعتدين – كما أخبر شاهد عيان – بقطع أسلاك الكهرباء في المخيم، ومن بعدها أشعلوا النار وشردوا أهله بعد نوبة هلع سيطرت عليهم انتقاماً من العمال السوريين.

ولأن السوري لا يملّ ولا يسأم من حياته المكررة وكلامه المجتر، كان لابد بعد هذه المأساة من استعراض شهامة السوريين التي ترافقت مع دخول اللبنانيين لاجئين لسوريا قبل سنوات ليست بعيدة، ومن ثم استعرض كلمات تنديد صدرت من وجوه ثقافية لينفي عن نفسه تهمة التعميم ويبتعد عن الحكم بالعنصرية على مجتمعٍ بأكمله.

 نعم هو تصرفٌ فردي، وتصريحات جبران باسيل تجاه السوريين على الشاشات وعلى صفحات التواصل الاجتماعي تصرفٌ فردي أيضاً! 

كلّ الخوف من أن يكثر هؤلاء الأفراد ويبتلعوا ما بقي من لبنان الفكر والحرية، كلّ الخوف وأنا أقضي ساعة وثلاثين دقيقة أشاهد فيديوهات حرق لمخيمات في لبنان، عوضاً عن الوصول لأرضه.

هامش: 

بالطبع من يشتم وجود اللاجئين في لبنان ينسى أموال السوريين المودعة في البنوك اللبنانية منذ سنوات طويلة والتي زادت نسبتها بعد الحرب عام 2011م حيث قاربت 14 مليار دولار، والتي خسر السوريين أغلبها مع اللبنانيين في الأزمة المالية الأخيرة، فلا إمكانية لسحب المبلغ المودع بل يحصل على (فراطة) منه بعد تململ وسوء معاملة باعتبار صاحب الحساب سوري، فكما قال البجيرمي، تأمل يا رعاك الله!.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني