زيارة نصب المحرقة.. لماذا يكرِّم العرب أجداد قَتَلَتِهم؟
بحسب ما تسرَّب من أنباء، لم تكن زيارة نصب المحرقة النازية في برلين مُدرجة على جدول أعمال اللقاء بين وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، ووزير خارجية الكيان الإسرائيلي، غابي أشكنازي، في 6 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. إلا أن الوزير الإماراتي أحبَّ زيادة جرعة التماهي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي عبر اقتراح زيارته، واضعاً نفسه في موقع الآسف والنادم على ما ليس له يدٌ في حصوله قبل خمسٍ وسبعين سنةً. واستناداً إلى جو التطبيع الذي ساد في بعض دول الخليج العربي في السنتين الأخيرتين، نستشف أن هذه الزيارة بالتحديد، تندرج في إطار السعي للانعتاق من الالتزام تجاه القضية الفلسطينية، عندما يقوم الوزير بتذكُّر أجداد القَتَلَة الحاليين متناسياً ضحاياهم من الفلسطينيين.
لا تُعد هذه الزيارة، الموقف الأول للوزير بن زايد تجاه المحرقة النازية؛ إذ بكَّر في إظهار موقفه المتعاطف مع ضحاياها من اليهود عبر تغريدةٍ، في 25 يناير/كانون الثاني الماضي، أي قبل إعلان بلاده التطبيع. ولاقت التغريدة المفاجئة، والتي أتت في ذكرى المحرقة صدىً لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي رحب بها ووصف الكلام الذي جاء فيها بالمهم. وفي حين قال بن زايد في تغريدته: “نقف مع الإنسانية في رفضها للعنصرية والكراهية والتطرف”، تناسى العنصرية الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني والمتمثلة، بشكل فاقع، بأكبر جدار فصل عنصري تُنشئه دولةٌ للفصل بين رعاياها، ورعايا الدولة التي تحتلها. كما تناسى الكراهية والتطرف اللذين يتعامل بهما الإسرائيليون مع الفلسطينيين، والتي تظهر عبر عمليات قتل الفلسطينيين وأسر أبنائهم وهدم منازلهم ومصادرة أراضيهم وضمها لكيانهم.
وتندرج زيارة نصب المحرقة ضمن السياق العام لموجة التطبيع العربي التي تَظهر هذه الأيام، بعد تطبيع دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين علاقاتهما مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ثم موافقة السودان على تطبيع علاقاته معها. كما أنها تندرج في إطار تصديق الرواية الصهيونية حول كل المزاعم التي روَّجت لها الحركة الصهيونية عن أحقية اليهود في فلسطين قبل احتلال العصابات اليهودية أجزاء منها، وإعلان إقامة دولتهم فيها، سنة 1948. وهنا تكمن الخطورة؛ إذ قد تتَّخذ الدول المطبعة، بحكم تصديقها تلك الرواية، مواقف معادية للقضية الفلسطينية ولحقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، كإجراء للتخفيف عن اليهود.
لذلك، ربما يكون ما خرج به رجل الأعمال الإماراتي، خَلَف الحبتور، في مقالة نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وتزامنت مع زيارة بن زايد النصب، أول تلك المواقف، حين صرَّح بأنه لن تكون هنالك عودة للاجئين الفلسطينيين . ونكران هذا الرجل حقاً كفلته قرارات الأمم المتحدة، لا يمكن القول عنه سوى أنه يندرج في خانة شذوذ المواقف وانعدام الرؤية الصحيحة التي بدأت تظهر في سياسة أبو ظبي في السنوات الأخيرة. كما أنه موقفٌ يمكن أن تتبعه مواقف لآخرين فتصبح ممارسةً على الأرض، على شكلِ دعواتٍ لتوطين أبناء الشعب الفلسطيني في الدول العربية التي لجؤوا إليها، مقابل تخلِّيهم عن حق العودة، وطبعاً ستتنطَّع الإمارات، وغيرها من الدول العربية، لتحمُّل تكاليف مشاريع كهذه.
وفي هذا الإطار أيضاً، إطار محاباة المحتل وزيادة ظلم المظلوم، لا يمكن فصل الزيارة وما كتبه الحبتور في مقالته، عن تصريح الأمير السعودي، بندر بن سلطان، الذي جاء خلال لقاءٍ أجرته معه قناة العربية التلفزيونية، في نفس يوم الزيارة والمقالة؛ إذ هاجم بن سلطان موقف القيادة الفلسطينية من موجة التطبيع الأخيرة. وكان موقفه من الحدَّة والقسوة لدرجةٍ دفع صحيفة نيويورك تايمز للقول عنه إنه يعدُّ تراجعاً في الدعم السعودي للشعب الفلسطيني. أما صحيفة فايننشال تايمز فراحت أبعد من ذلك في تحليلاتها، حين رأت أنه يعدُّ تمهيداً لقرار اتخذته القيادة السعودية للتطبيع مع الإسرائيليين.
وبعد التمعن في الكلمة التي كتبها الوزير بن زايد في سجل زيارات المتحف، يظهر أنه قد ألزم بلاده، ربما من دون أن يدري، في التعويض على الناجين، وذلك حين ختم رسالته بعبارة: “لن يحدث مرة أخرى”، وهو غير المُلزَم بتعويضهم لانتفاء مسؤولية بلاده عما جرى لهم. وفي هذا السياق غرَّد أحد الأشخاص على موقع تويتر يقول: إنه ربما تكون الإمارات هي التي دفعت المساعدات المالية الإضافية لمواجهة وباء كورونا. وهي المساعدات التي قررتها الحكومة الألمانية أواسط الشهر الماضي، أي بعد زيارة المتحف، والمقدرة بأكثر من 600 مليون دولار، لحوالي 240 ألف يهودي من الناجين من المحرقة الذين يعيشون في فلسطين المحتلة وحول العالم، والذين ما زالوا يتلقون التعويضات حتى الآن.
أما وقد بدت على الوزير بن زايد إماراتُ الحزن والندم، وأظهر نفسه وكأنه يتحمَّل بعضاً من وزر ما حصل لبعض اليهود، كيف له أن يتعهَّد بأن ذلك “لن يحدث مرة أخرى”؟ هل تملك بلاده القوة لحمايتهم في المجتمعات التي يعيشون فيها في مختلف أنحاء العالم؟ أم أنها ستوظِّف طاقاتها لتأمين الحماية لهم في فلسطين، البلاد التي اغتصبوها وقتلوا أهلها وشردوهم؟ كان من الأجدى به أن يتعهَّد بألا تحدث دير ياسين أخرى أو صبرا وشاتيلا أخرى، وأن يتعهَّد بتحقيق عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه التي هجَّره الإسرائيليون منها، باعتبار أن وقف القتل والعودة وتقرير المصير هي السّبل الوحيدة لوقف العنف والتوتر الذي تعاني منه المنطقة، ويطال إسرائيليين لأنه ليس سوى رد فعل على ممارساتهم.
إذا كانت خطوة التطبيع، وبعدها خطوة زيارة نصب المحرقة سبيل الإمارات لاكتساب القوة والمساهمة في تحقيق استقرار المنطقة فقد أتى الجواب سريعاً من دولة الاحتلال، حين تحدث نتنياهو، في 18 أغسطس/آب الماضي، أي بعد خمسة أيامٍ من الإعلان عن خطوة التطبيع، عن معارضته بيع الولايات المتحدة طائرات إف 35 للإمارات . أما وقف الاستيطان الذي تحدَّث عنه الإماراتيون كمقابلٍ لصفقة التطبيع، فقد كذَّبه الاحتلال الإسرائيلي حين استولى على 11200 دونم من الأراضي الفلسطينية وصادقت الجهات المختصة على بناء 3212 وحدة استيطانية في الضفة الغربية، وذلك بعد شهر من توقيع الاتفاقية بين الإمارات والبحرين والإسرائيليين. وهنا يبقى التساؤل الدائم عمن سيكون الرابح في صفقات التطبيع، تشير المعطيات السابقة في مصر والأردن أنه ليس أبناء المنطقة، بالتأكيد.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”