زلة الشاعر
ينظر إلى الشاعر- كمبدع وكفنان- على أنه أحد من يجسدون الضمير اليقظ، في كل ما يتعلق بما حوله، وكل صغائر الأمور وكبائرها – في آن – بحيث أن مواقفه تجاه كل هذه الحالات، لابدَّ من أن تكون بينة، قاعدتها الصدق، والحرص على الآخرين، عامة، بعيداً عن سراديب، ودهاليز، ومتاهات، الأنا، المعتمة المكربنة، هذه الأنا التي تقود في حالاتها المفرطة من يرتمي في شباكها، إلى مصائر غير محمودة، لأن في الغرق في لجج هذه الذاتية انفصال عن المحيط، كما أن في التفاعل الإيجابي مع هذا المحيط ضمانة من الزلل، والشطط، والسقوط، بما يجعله يترفع عن الأدران، ويكتفي بأن يأخذ ما هو مضيء من هذه الذاتية، كل ما يضيء جوانب إبداعه، والتصاقه بمن يعنيهم خطابه الإبداعي.
ومؤكد، أن صفة “الشاعر” أنى استطاع أحدهم الظفر بها، نتيجة عبقرية الموهبة التي تقترن بعمق التجربة والخبرة والثقافة، تفرد لصاحبها مكانة مرموقة لدى حاضنته الاجتماعية، بل ضمن المجتمع الإنساني، حيث أن عظماء الشعراء الذين عرفهم التاريخ، منذ القصيدة الأولى، وحتى آخر قصيدة تكتب الآن، لم يكونوا – في الحقيقة – مدعاة فخار للدوائر التي انطلقوا منها، فحسب، بل هم مدعاة تباه، وكبرياء، إنسانيين، فها نحن نستظهر قصائد شعراء كونيين، كما نستظهر قصائد آبائنا وأجدادنا الشعراء، وهو ما يوسع من دائرة مسؤولية المبدعين، عامة، والشعراء، خاصة، كي يراعوا حساسية دورهم الذي يتعدى حدود الزمان، والمكان، واللغة، ليكونوا من عداد من هم صناع الإرث الآدمي العام، وهو ما يجعلهم – هنا – منتمين إلى أسر، أكبر من حدود الخلايا الاجتماعية الأولى التي انطلقوا منها. ولعلنا جميعاً ندري أن قوانين الميراث الإبداعي، حددت لأسر هؤلاء مدة زمنية، تسقط فيه حتى ملكياتهم للحقوق العائدة من إنجازاتهم، على عكس الملكيات الفردية الأخرى، غير الساقطة، عبر التقادم.
ولكم هو جميل، أن يجد الشاعر من هو معني به، في مشارق الأرض ومغاربها، ضمن الحيز الذي تؤهله له لغة نصه، إذ يجد من هم حريصون عليه، يوجهون إليه ذبذبات نقدهم، أنى انزلق في موقف ما، لتكون أرواحهم إشارات مرور، ضوئية، يمكن الاهتداء بها، أنى انطفأت أنوار الرؤية، وهو ما يحتاج إليه ذلك الشاعر الممتلك للبصيرة، قبل البصر، الممسك بأعنة روحه، يمضي بها إلى حيث ما هو لائق بمقامه، محققاً عبر ذلك مساواة أطراف معادلة: الخاص، والعام، وهي هنا ملكة عظيمة، في متناول المبدع الحذق، الذي تخلق بالنواميس الرفيعة، متسامياً، مترفعاً عن الدنايا التي لا تؤول إلا إلى التهلكة.
ومن حق الشاعر الذي ينتمي إلى مثل هذا الأنموذج الرفيع، الأنموذج الذي يحافظ على روحانية الانتماء إلى الشعرية، أن يظن خيراً بكل من يرفد الشعر بالنصوص الإبداعية الرفيعة، انطلاقاً من يقينيته أنه لا يمكن أن تروى شجرة الفرادة الإبداعية، إلا من خلال نهلها من الماء النظيف، والينابيع الصافية، ولا يمكن لها أن تتسامق، إلا في التربة الصالحة، ولا يمكن لها أن تورق، وتنشر ضوع زهرها، ونكهة ثمرها إلا من خلال سلامتها من كل سقم، وقد تكون المفاجأة صادمة، في أن تقوم أحد كبار المبدعين، شأناً، من خلال الاحتكام إلى نصه، كي تجد أن بعض محطات نهاياته، تأتي متضادة مع فحوى رسالته، بل أن يكون ممن لا يتورعون من تحويل نصوصهم إلى أكاليل غار، ليضعوها على صدر القاتل، والطاغية، كي يتعامى عن أرخبيل الدم الذي يجري من بين أصابعه، وهو ما يجعل أي توادد سلمي، أو حربي، بل أي رثاء أنسي، أو أي ثناء غير محاجج، لمن يخذل رؤاه، وذاته، وقصيدته، نتيجة حسن النية المسبقة بمقام الشاعر، في موقع التراجع، أو الندامة، بعيد أية قراءة صائبة متأخرة …!.