fbpx

روح العدالة

0 1٬073

هل للعدالة روح؟
العدالة تلك القيمة الانسانية المثلى، التي نبحث عنها، وتجول بها مخيلتنا، وما ادخرته من صفحات وقواميس أسلافنا، فنطرق أبواب العصور والحضارات، بما جادت به من نظم وقوانين عادلة، أو نعتقد أنها عادلة، لنتمثل بها أملا بالوصول إلى العدالة ونواميسها الطبيعية.
العدالة هي الاستقامة، وإحقاق الحق، أو أسمى من الحق ذاته، هي الهدف والمسوِّغ لأي مشرِّع في استنباط القواعد القانونية وإقرارها، حيث يحفل التاريخ الإنساني عبر حكمائه ومفكريه بالسعي لتضمين قوانينه وأنظمته قواعد عادلة من قوانين حمورابي، ومجموعة القوانين الرومانية، وحكماء وفلاسفة الإغريق، من مدينة أفلاطون، وحكمة سقراط وأرسطو، وتعاليم بوذا، إلى أن ظهرت الرسائل السماوية، التي تدعو لعدالة الانسان، لتسود العدالة الإلهية في الأرض.
تطور مفهوم العدالة الإنسانية، واستحوذ على اهتمام الدول، فكانت مبادئ حقوق الإنسان، التي أقرتها الأمم المتحدة، وعقدت الاتفاقيات الدولية والمعاهدات والقرارات الأممية، لتحقيق أكبر وأكثر تنسيق أممي لنشر مبادئ العدالة وتطبيقها على أوسع نطاق.
رسّخ المشرّع السوري مبدأ العدالة الطبيعة في قوانينه، حيث تعدّ مصدراً من مصادر التشريع. نصّت الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون المدني (إذا لم يوجد نص تشريعي، يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد، فبمقتضى العرف، فإذا لم يوجد، فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة)، ولا يستثنى قانون أو تشريع من تضمين الأسباب الموجبة لإصداره، ليس تحقيق العدالة فقط، إنما بهدف الوصول الى روح العدالة.
نعم روح العدالة، فقد تكون العدالة قاسية أحياناً، لذلك كانت الرحمة هي الصورة الأبهى للعدالة، والتي دفعت بالمشرّع لإطلاق حرية القاضي الجزائي بالصلاحيات الواسعة والمقررة قانوناً، وهي السلطة التقديرية، التي تهدف لترسيخ مبدأ العدالة الطبيعة، التي تسمو على القواعد والقوانين، وما إقرار مبدأ الرحمة كقيمة إنسانية إلا للفت نظر القضاة إلى اعتماده في أحكامهم حسب ما تقتضيه الحال. بتلك الصورة يتجلى روح العدالة فالرحمة من صفات الله الرحمن الرحيم العادل.

كان للتشريعات السماوية فصولٌ من القوانين والفروض لرفع السوية الأخلاقية للإنسان لأعلى قمم الأخلاق في جوانب ما نزال نناضل للوصول إليها، فلم تكن العدالة هي الهدف فقط، بل روحها وفحواها، فقد ورد في التشريع الإسلامي بعض الجوانب التي تدعو للرحمة في إنزال العقاب بالفاعلين، حيث كانت شروطاً مستحيلة التحقّق لتوصيف بعض الأفعال بالجريمة منعاً من إنزال العقاب، والهدف ليس منع معاقبة المرتكب، بل هدف أسمى وأعظم حيث الموازنة بين الفعل ورد الفعل ونتائجه مثل (اشتراط وجود أربعة شهود على جريمة الزنى) هذا الشرط الذي يستحيل تحققه في أغلب الأحيان ليس القصد منه تسهيل ارتكاب الجرم أو الجرم بحد ذاته بقدر ما هو حماية الأسرة وعدم التسرع في الأحكام وردود الأفعال المدمرة وقد يندم مرتكبها أحياناً لاكتشافه أنه تسرّع وأخطأ بالحكم، أيضا ما جاء بالقرآن الكريم (ولا ترموا المحصنات) تشير هذه الآية الكريمة للتفكير والتعقل وامتلاء القلوب بالرحمة والرأفة حتى لا تُظلم النساء المحصنات .

وما جاء في قول السيد المسيح (من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بالحجارة) وقال (من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر).

تلك الأمثال هي صور مشبعة بروح العدالة، فعندما تمتلك القوة وتمتلك خيار إنزال العقاب على خصمك وتعفو عنه تكون قد حققت أكبر انتصار لإنسانيتك وهذا ما جاءت به العرب في جوانب ضيقة فوصفت الرجولة بالرحمة والعفو (العفو عند المقدرة) وضربت أمثال على ذلك لتهذيب المجتمع والحض على التسامح والمحبة للوصول للعدالة المرجوة.

لكن هذا المفهوم الإنساني لم يتقنه المجتمع بشكل عام بل طغت تقاليده وأعرافه القاسية والرتيبة وقصر تفكيره في سلوكياته تجاه المرأة وانحدر الى الأسفل في مفهوم الشرف وارتكب الجرائم مخالفاً شرعه تحت عنوان الشرف فعلى عتباته سفكت دماء نساء بريئات بجهل ورجولة مزيفة.

 حملت المرأة عبء هذا الانحدار في الأخلاق وتبرير القتل تحت أعذار صُوَرية لتحقيق مآرب أخرى فأين العدالة من هذا؟ أن تتضمن القوانين تمييزاً صريحاً ضد شريحة واسعة من المجتمع أليس من التخلف أن تبقى تلك القوانين التمييزية عقبة في تحقيق العدالة والإنصاف فكيف نرتقي إلى روح العدالة الإنسانية؟

لكن بنضال المرأة السورية المستمر منذ عقود حصلت على ما تيسر لها من امتلاك نصرٍ بسيط في وجه غطرسة ذكورية للمجتمع وقوانينه فكان إلغاء المادة /548/ المتضمنة إعذار القاتل بالدافع الشريف (يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو إخوته في جرم الزنى المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد وتكون العقوبة الحبس من خمس سنوات الى سبع سنوات في القتل).

إلغاء هذه المادة بالمرسوم رقم (2/2020) وإلغاء صفة الشرف أو الدافع الشريف عن مرتكبه هو انتصار جزئي للعدالة. وسيبقى السعي على قدم وساق لإلغاء كل القوانين التمييزية التي ترسّخ وقوع المرأة السورية تحت وطأتها وظلمها فمجرد كونها تمييزية تميز بين إنسان وآخر تبعاً لجنسه (امرأة و رجل) التمييز على أساس النوع الاجتماعي (الدور) فهي أبعد ما تكون عن العدالة والحيادية المرجوة في القوانين والتشريعات.

فإذا كانت بعض الجوانب في التشريع الإسلامي مضيئة إلا إن بعضها مظلم قاتم السواد تجاه المرأة يبقيها في الجانب المظلم الهش من الحياة فتلك القواعد التي سنّها المشرع السوري في قوانينه والمستقاة من التشريع الإسلامي هي حاجز منيع في وجه تطور المجتمع وتقدمه وتزيد البعد في الوصول لتحقيق العدالة.

تطور مفهوم الحق والعدل حثَّ المجتمعات على تطوير قواعدها وأنظمتها القانونية بما ينسجم مع مبدأ العدالة الإنسانية المقررة بالقانون الدولي العام فتطور مفهومها ليشمل كل نواحي الحياة وما تتضمنه من عدالة اجتماعية وعدالة اقتصادية وعدالة سياسية وخصَّ المرأة في قسم منها بالإضافة إلى المعاهدات والاتفاقيات التي تحض الدول على تنفيذها وهو ما يحثّ المجتمعات على تعديل أو تغيير دساتيرها بحيث تحقق العدالة بعلاقتها بالأنظمة القائمة فيها وقد يصل الأمر لحد الثورات على الأنظمة عندما تكون الدساتير والقوانين السائدة فيها لا تحقق العدالة المبتغاة وما تطمح إليه الشعوب في مسيرة تطورها وارتقائها وارتشافها روح العدالة.

هنا يكمن دور المجتمع المدني كقوة ضاغطة في المساهمة والمشاركة في تغيير التشريعات والقوانين لتكون منسجمة مع مبادئ العدالة والحق والدفع بالمجتمعات الى أسمى صور العدالة واستنباط روحها لتكون الصورة المثلى لتحفيز أفرادها في سلوكياتهم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني