fbpx

رؤية المبدع

0 314

ثمة عنصر جدُّ مهم، بالنسبة إلى المبدع، والعملية الإبداعية، على حد سواء، يتعلق برؤيته للحياة، والمجتمع، وهو العنصر الذي لا يتم الحديث عنه، على نحو مباشر أثناء الدراسات والبحوث النقدية الجديدة، وذلك بسبب الانصراف إلى النص، وتجاهل خصوصية الناص، أو الاقتصار على قراءة الأفكار التي يقدمها النص معرفياً، ضمن حدوده، بعيداً عن موقع هذه الأفكار في منظومة مفاهيم الشاعر.

وتتشكل رؤى أي مبدع – عادة – اعتماداً على جملة روافد تبدأ بثقافته البيتية، وتربيته الأسرية، مروراً بالشارع، والحي، والمدرسة، والمؤسسة الفكرية التي سينحاز إليها، ومدى علاقتها بالثقافة الاجتماعية العامة من حوله، مواءمة أو تضاداً، على حد سواء، حسب موقفه من هذه الثقافة، والمحفزات التي تضعها.

ولا يمكن لرؤى أي مبدع، أن تنضج دفعة واحدة، لأنها تكتسب تدريجياً، إلى الحد الذي تحقق فيه شكلاً نهائياً، فهي دائمة التطور، فيما إذا امتلكت نقاط ارتكاز سليمة، وقاعدة فكرية راسخة، بحيث تكون مرجعيته، التي ينطلق منها أثناء أي محاكمة ذاتية، وهو يشيّد عمارة نصه الإبداعي، مادام النص الإبداعي ليس مجرد شكل وإنما هو شكل ومضمون، وإن كان جوهر المضمون في الإبداع يختلف عنه في الحياة اليومية، لأن الإبداع حده الذي يسمو إلى مصاف جمالية عالية.

وعلى هذا الأساس، فإنه لمن المفترض أن تكون للمبدع رؤاه المائزة، التي تعتمد على الثقافة والتجربة، في آن، فالرؤية لا يمكن أن تكون صائبة، دقيقة، فيما لو كانت مجرد تراكم فكري لدى حاملها، كما أنها تظل ناقصة كذلك، فيما لو كان قوامها مجرد تجربة، غير محصنة بالفكر، كما أن التفاعل البشري مع إنجازات التجربة لا تكون في سوية واحدة، بل تتفاوت بين شخص وآخر، وهي كذلك في عالم المبدع، حيث نكون أمام مستويات مختلفة، من التفاعل مع التجربة.

والمبدع الأصيل قادر على صناعة الرؤية، والإسهام في دعم الحياة الفكرية بأسس جديدة، أصيلة، ذات صلة وثيقة بالحياة والواقع، وفتح آفاق جديدة أمام الإنتلجنسيا، والنخب الإبداعية، بل والعالم كله، إلى الدرجة التي يمكن للمفكر والفيلسوف أن يرجعا إلى الإبداع، وأن ينهلا منه، ويستفيدا منه، وما أكثر من استفاد من شكسبير وأبي تمام والمتنبي والمعري وابن عربي والسهروردي والخاني وغيرهم كثيرون، أصبحوا عناوين فكرية.

وثمة نقطة خطرة هنا، وهي أنه قد تكون شبكة الرؤية لدى المبدع غير ناضجة، وعلى سبيل المثال، ثمة من يستطيع رسم لوحة إبداعية، في أبهى صورة جمالية، بيد أن لوحته تلك، خاوية من المضمون، تكاد ألا تكون لها أية وظيفة أخرى، ما ينعكس سلباً على البعد الجمالي الفني لهذه اللوحة، وهو الحكم نفسه الذي يشمل قصة ما، أو رواية ما، أو قصيدة ما، ما لم يكن مبدعوها ينطلقون من رصيد رؤيوي، يمكنهم من منح إبداعاتهم البعد الدلالي الفكري، ليكون في خدمة الإنسان، وقضاياه.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني