دولة داخل الدولة والمشاريع المفخخة
تكثر المشاريع المفخخة في الدول التي تفتقر إلى المؤسسات التي تدير دفة الحكم بما يخدم مصالح المواطنين.
من تلك المشاريع التي تدعو إلى الريبة، العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، ومشروع نيوم في السعودية.
العاصمة الإدارية الجديدة
في مارس/آذار 2015م أثناء اجتماع السيسي مع رئيس الوزراء الإماراتي وشيخ إمارة دبي محمـد بن راشد آل مكتوم في مدينة شرم الشيخ المصرية، تم الإعلان عن إنشاء عاصمة إدارية جديدة تكون نواة لانتقال الوزارات والسفارات والمواقع الاستراتيجية في القاهرة لمكان بعيد في عمق الصحراء الشرقية على مقربة من السويس، لتكون العاصمة المستقبلية لمصر.
التساؤل الذي يبرز إلى السطح: لماذا يريد السيسي الانتقال من القاهرة، العاصمة الأقدم لمصر منذ العصر الفاطمي؟
في كتابه “مدن متمردة” يتتبع مؤلفه ديفيد هارفي تاريخ الصراع الطبقي في مناطق الحضر/المدينة، ويرى أن المدينة، منذ قيام الثورة الفرنسية في باريس سنة 1789م وحتى ثورة ميدان التحرير في القاهرة 2011م كانت مركز قيام الثورات وانطلاقها عبر ذلك التاريخ الممتد لأكثر من قرنين.
إن شرارة الربيع العربي انطلقت من تونس إلى القاهرة إلى طرابلس إلى صنعاء إلى دمشق، ولو لم تتدخل قوى الثورات المضادة لامتدّت شرارة الثورة إلى بقية المراكز الحضارية العربية وهذا يشكّل دليلاً على قوة المدينة أو العواصم في تحريك التفاعلات الاجتماعية وجعلها تطفو إلى السطح بسرعة مذهلة، ويبدو هذا العامل هو ذاته الذي اضطر منشئي الدول الجديدة، عبر التاريخ، إلى النأي بأنفسهم عن تلك المراكز القديمة واتخاذ مراكز جديدة لهم، لا سيما إذا لم تكن العواصم القديمة مدينة بالولاء الفكري والسياسي للزعماء الجدد.
إن إنشاء الضواحي أو المدن الجديدة له انعكاسه الاجتماعي، ما يكوّن مجتمعا منعزلا ًيضم “صفوة” من الناس لهم خصائصهم الاجتماعية المتشابهة، على نقيض الروح السائدة في المدينة؛ إذ إن المدينة بطبيعتها بيئة متعددة الأوضاع والطبقات لا تنعزل فيها فئة عن أخرى.
العاصمة الإدارية الجديدة في مصر تبتعد عن القاهرة شرقاً مسافة 50 كم في الصحراء الشرقية بين القاهرة والسويس، وإليها سيتم نقل الوزارات والهيئات الحكومية والقصر الرئاسي والبرلمان والسفارات ومراكز البنوك الكبرى والمفاصل السياسية للدولة المصرية كافة، في عاصمة تبدو مصممة عمرانياً وفق خطة سابقة يسهل السيطرة عليها بشرياً وإلكترونياً وعمرانياً وثقافياً، من خلال التحكم في نوعية الفئة التي ستكون من قاطني هذه المدينة الجديدة، وهم “الصفوة” الموالية للسيسي، لا سيما وأن سعر المتر السكني في تلك العاصمة مرتفع جداً وهو ما يستحيل على المواطن المصري تحمّله.
يبدو للمتابع أن المدينة في صورتها الأولية تطوير عمراني واقتصادي، وخطة رشيدة للانتقال من القاهرة العاصمة المغلقة ذات الكثافة السكانية، غير أن هذه العاصمة الجديدة ستضمن للسلطة مزيداً من الأمان من الاحتمالات المتعلقة كافة بإمكانية قيام انتفاضة شعبية محتملة من أزقة القاهرة المتعرجة التي يصعب على أدوات السلطة الأمنية السيطرة عليها، كما يكسبها ذلك مزيداً من الوقت.
مدينة “نيوم” الغامضة
ضمن فعاليات مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” الذي انعقد في اكتوبر 2017م في العاصمة الرياض على مدار ثلاثة أيام كشف الأمير محمد بن سلمان عن “الشيء الفريد الذي سيحدث ثورة” إنه مدينة “نيوم” التي جمع اسمها بين Neo باللاتينية وكلمة مستقبل بالعربية وكان من اسمها ملخص لما يخطط له أن يكون المستقبل.
ستقام مدينة “نيوم” الاستثمارية في أقصى شمال غرب السعودية بتكلفة تقدر بحوالي 500 مليار دولار على مساحة حوالي 26 ألف كيلو متر مربع وتكون بغالبيتها العظمى ضمن أراضي المملكة على أن يدخل جزء منها داخل الحدود الأردنية والمصرية وستكون ممتدة بين البحر الأحمر بطول 468 كيلومتر وسلسلة من الجبال المحيطة بها مع سهول من الصحراء في موقع استراتيجي حيث منها سيكون المدخل الرئيسي لجسر الملك سلمان الذي سيربط بين المملكة ومصر أي بين آسيا وأفريقيا.
وكل تلك المنطقة تعتبر من الأراضي الخام حيث سيتم بناء كل شيء من الصفر ليتم إنشاء مدينة متكاملة ستوفر أفضل سبل العيش والفرص الاقتصادية للعاملين والمقيمين بها وستسعى لاستقطاب أفضل المواهب في مختلف المجالات من داخل المملكة وخارجها، والأهم أنها ستخلق طريقة جديدة للحياة تأخذ بعين الاعتبار طموحات الإنسان وتطلعاته وتطبيق أحدث ما توصلت إليه أفضل التقنيات العالمية بحسب ما أشار إليه محمد بن سلمان.
كما أن المرونة في القوانين والأنظمة التي ستحكم المدينة ستكون عاملاً أساسياً في استقطاب المستثمرين من أرجاء العالم للمساهمة في مشروع الهدف منه تركيز عصارة تطور العالم في بقعة واحدة من الأرض، ولذلك لابد من قوانين خاصة ستجلب الحالمين ببناء المستقبل.
وهنا يبرز السؤال الاستنكاري: لماذا لا تتمتع المملكة كلها بتلك القوانين المرنة، وبهذا الاهتمام لتستقطب رؤوس الأموال والمشاريع الضخمة التي تطوّر البلاد؟
الحديث عن تفاصيل المدينة أشار إلى أنها ستعتمد على مصادر طبيعية وغير ناضبة للطاقة بحيث تكون الشمس والرياح اللذان يتوفران بكثرة بالمدينة هما المصدر الأساسي لهذه الطاقة، كما تسعى إلى تطوير الأبحاث والدراسات لإيجاد الأفضل لمستقبل الطاقة والمياه.
وهناك مزايا فريدة قادمة في عالم تنقل البشر والبضائع ويشمل ذلك السيارات ذاتية القيادية وحتى الطائرات بدون طيار كذلك تطوير المطارات والموانئ البحرية، سيكون كل ذلك في أعلى المستويات التي ستعتمدها “نيوم” التي ستنافس مسارات التقدم في هندسة الجينات التي أصبحت تؤثر في مسارات مختلفة كالطب وإنتاج الغذاء والصناعات الدوائية وهذه الصناعة العلمية التي تعتمد على الأبحاث ومجاراة أرقى ما توصل إليه العلم.
وتطوير الطابعات ثلاثية الأبعاد التي تسهل العملية الإنتاجية والروبوتات التي تقوم بالكثير من الأعمال الصعبة أو الخطرة بدلاً من الإنسان، ستكون غاية وأحد أهداف “نيوم”. لذلك كان الروبوت “صوفيا” حاضراً مع الرمزية في منحها الجنسية السعودية خلال مبادرة مستقبل الاستثمار الذي أعلن عن “نيوم” خلالها.
وفي ذات المجال التقني ستعتمد المدينة على ما يسمى بالهواء الرقمي وهو الشبكات المجانية العامة للإنترنت ففي “نيوم” لا يمكن لأحد أن يكون بعيداً عن الوصول للإنترنت وكذلك سيكون هناك التعليم المجاني المستمر عبر الإنترنت ومعايير جديدة في البناء للحصول على سكن خال من الكربون ولا يمكن تجاهل تقنيات السلامة والأمن الذي ستستخدم أعلى التقنيات في هذا المجال من أجل أن يحصل القاطنون بالمدينة على أعلى نسبة أمان بالعالم.
المشروع، كما هو مقرر، سينتهي من مرحلته الأولى في العام 2025 م وسيتمتع بإدارة حرة، وبما أنه يقع بين ثلاث دول (السعودية، مصر، الأردن)، فلن تكون “إسرائيل الصديقة” بمنأى عنه، بل قد تشكّل “نيوم” بؤرة صراع جديدة أو ممراً آمناً لصفقة القرن وحيثياتها.
بين “نيوم” الحرة المعولمة والعاصمة الإدارية الجديدة (المغلقة) في مصر، نرى كيفية تشكيل دولة داخل الدولة، ليتحول المواطنون إلى مجرد “عبيد جدد” في معمعة سيطرة طغم حاكمة منقادة لمخططات استعمارية معاصرة، للحفاظ على كراسي الحكم ومواجهة امتداد الربيع العربي المتواصل.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”