دور الخانـات في الحياة الاجتماعية
تعددت الآراء في معنى كلمة (خان)، فهي تعني الحانوت أو المتجر أو منزل المسافرين.
ويرادف كلمة الخان أيضاً الوكالة والقيسارية.
تعود الخانات في نشأتها إلى عهود قديمة، ولعل بداية ظهورها كانت انطلاقاً من إقامة الآبار وما حولها من سياج على طرق القوافل، ثم تطورت إلى الأبنية الضخمة المزودة بكل الوسائل اللازمة للإقامة.
كانت الخانات على طرق القوافل تقام على مراحل محددة ولمسافات معينة لا تستغرق أكثر من مسيرة يوم واحد بين الواحد والآخر، ضماناً لراحة المسافرين وحفاظاً على أموالهم وأرواحهم من اعتداءات وعبث قطّاع الطرق، وكثيراً ما كانت تزوّد بدواب الصدقة التي تُعطى لكل من نفقت دابته أثناء السفر.
الخانات منشآت اقتصادية قديمة لها علاقة بالتاريخ والتجارة والسياسة، أخذت أشكالاً وأسماء مختلفة، باختلاف الحقب التي وجدت فيها.
منذ أن عرفت بلادنا الاستقرار الأول للإنسان، كانت تربط بين حواضرها حركة تجارية بعيدة المدى.
كان السفر ونقل البضائع مخاطرة كبيرة، بسبب الأعداء، وقطاع الطرق واللصوص، والوحوش، والقبائل البدائية التي كانت الوثائق السومرية تقول عنهم بأنهم يأكلون اللحم النيئ، ولا يعرفون دفن موتاهم. لذلك كان لابد من وجود محطات حصينة على مسارات الطرق، مبنيّة على شكل حصون صغيرة، يأوي إليها المسافرون مع دوابهم ليلاً للاستراحة. وكانت هذه الاستراحات مزروعة على طول الطريق وتفصل بينها مسافات منتظمة تتراوح بين 25 و40 كم وهي المسافة التي كان المسافر يقطعها في يوم واحد.
أما داخل المدن فقد كان المسافرون يستقرّون مع بضائعهم في المراكز الإدارية الكبيرة.
ويتطلب وجود الحركة التجارية:
• توفّر طرق سالكة.
• توفّر محطات آمنة على هذه الطرق يلجأ إليها المسافرون ليستريحوا ليلاً، هي خانات الطرق.
• وهناك محطات نهائية في المدن تُعرض فيها البضائع وتُسلّم لمشتريها، عرفت بخانات المدن.
ومع وجود الدولة المركزية القوية سادت فترة سلام تعرف بالسلام الإسلامي. وصارت القوافل تتنقل بحرية على أرض المسلمين وخارجها، وكان من أهم واجبات ولاة المسلمين تأمين حرية التجارة وضمان أمنها، ومعاقبة المسيئين إليها في كل أرجاء الإمبراطورية الإسلامية.
وبعد الفتح الإسلامي مباشرة، توطدت العلاقات التجارية الوثيقة بين العالمين الإسلامي والمسيحي. ولم تنقطع هذه العلاقات، حتى في أحلك الظروف أيام الحروب الصليبية، على الرغم من الأوامر البابوية المتكررة التي تمنع المسيحيين من الإتجار مع المسلمين، لكن ذلك لم يؤثر في الفعالية الاقتصادية المتنامية لديار الإسلام مع باقي أطراف العالم.
إن كلمة خان هي فارسية استعملها الأتراك السلاجقة، وهي تعني المكان الرفيع، وإن أقدم ذكر لكلمة خان عثر عليها، جاءت في بيت لبشار بن برد يهجو فيه بعض الناس، ويعيّرهم ببخلهم، فيقول:
قوم، إذا ما أتى الأضياف منزلهم لم ينزلوهم، ودلّوهم على الخانِ
وبعد القرن العاشر ميلادي، ظهرت الخانات بالشكل الذي نعرفه، وهي في الواقع أبنية سلطانية مهيبة كانت تحمل أسماء مؤسسيها وتقوم بالنيابة عنهم باستقبال الزوّار. وأقدم نص محفور على الحجر، بقي حتى اليوم، يؤرخ تأسيس خان العقبة. ويعود لعام 1213.
والخان عادة هو بناء مربع، متين الجدران، مؤلف من طابقين، الطابق العلوي له رواق، وللخان فناء داخلي، تتوسطه بركة ماء، أو صومعة، ينفذ إليه من باب صرحي مزين بالنقوش الجميلة. يسكن رجال الأعمال في الطابق العلوي، وتُعرض بضائعهم في الطابق السفلي. وقد حافظت الخانات على هذا الشكل المعماري في كل العهود.
لقد كانت الخانات مؤسسات حكومية وهي بمثابة فنادق ومعارض تجارية غير ريعية، أي لا يُنتظر منها أن تغطي نفقاتها، ولها أوقاف تنفق عليها مع دعم حكومي (الضيافة يتحملها السلطان)، وفاتورة الحساب يسدّدها النزيل كما يريد، حسب إمكاناته، فإذا كان معسراً فإنه يُعفى من الدفع، وإذا كان ميسوراً، فإنه يتفق مع إدارة الخان، على مبلغ اسمي، له صفة تشجيعية. وهذا ما تؤكّده لوحة محفورة على الحجر، على باب أحد الخانات، من الفترة العثمانية الباكرة، تقول اللوحة: “قد بنى هذه الواحة لوجه الله تعالى مراد جلبي، فمن منع فقيراً أو دوابه، فعليه لعنة الله، وملائكته، والناس، بطرق شتى”.
كان التجار محليين وأجانب هم أهم نزلاء الخانات. والصنف الآخر من النزلاء كان عابرو السبيل، وهم العلماء، والفقهاء، والشعراء، وطالبو المجد والشهرة، الذين كانوا يتجولون بكل حرية في أرجاء الوطن العربي والإسلامي.
وفي القرن السادس عشر، في بدايات الحكم العثماني، ظهر نوع جديد من النزلاء، وهم الأوروبيون الذين كانوا يفدون على شكل جاليات، وهي مجموعات قومية رسمية يترأسها القناصل، ويرعاها الكهّان، ويعمل فيها التجار وممثلي الشركات. وكانت هذه الجاليات تعيش منعزلة عن بعضها وعن السكّان المحليين في بعض الخانات. وكان لنشاطها أكبر الأثر في الإفساد الاجتماعي، وفي تدمير الاقتصاد العربي في ظل الحكم العثماني.
كانت خانات الفترة المملوكية في حلب متناسبة مع الحالة الاقتصادية المزدهرة، فهي أبنية متميزة، وزخارفها لائقة بالأبنية الدينية. ومن أهم نماذجها: خان الصابون وخان أبرك، وخان خاير بك. وحتى اليوم لم يُبن في حلب واجهة تضاهي واجهة خان الصابون جمالاً، أو خانات بفخامة خان خاير بك، وخان القصابية. الذي له قصة طريفة:
كان لأحد ملوك حلب بنت رائعة الجمال، أحبها أحد أمراء الجان، وبينما كان حائراً في اختيار هدية لائقة بحسنها يقدمها إليها، رعدت السماء ولمعت بالبرق، فما كان منه إلا أن قبض على ومضة من البرق، وقصقصها إلى خيوط براقة، وجعل منها وشاحا قدّمه إليها، لتزيّن به شعرها الأسود الجميل. فإذا كان كل شيء في حلب من اختراع البشر، فالقصب هو من اختراع الجان، لأن أميرهم هو الذي قصقص البرق في سمائها، وهكذا تعلّم أهل حلب صناعة القصب من الجان. وظهرت دواليب القصب، أول ما ظهرت، في خان القصابية الذي كان اسمه خان القصب، ثم انتشرت إلى باقي الخانات والأسواق كخان العلبية وسوق الباطية.
إن الخانات العثمانية حافظت على وظائف وخصائص الخانات المملوكية، ولكن عددها ازداد ازدياداً ملحوظاً بسبب تطور العلاقات مع الدول الأوروبية، ففي منتصف القرن السادس عشر سارعت الوكالات الأوروبية إلى فتح مراكز لها. كانت الجاليات الأجنبية تقيم وتعمل في الخانات.
ويعتبر خان قورت بيك أكثر خانات حلب ملاءمة للتوظيف السياحي، بسبب سهولة الوصول إليه، واتساعه، وجمال بنائه، وعدم إطلال الأبنية المجاورة على فنائه، ووجود ساحة أمام بابه تصلح لوقوف السيارات.
وهو أول الخانات العثمانية (1540) بناه أحد أبناء خسرو باشا، ويتميز بحسن إنشائه، وجمال زينته المعمارية، وباتساعه إذ تبلغ مساحته 5330 م2. وقبل الدخول في الخان، نمر بسوق صغير مربع، له مدخل مزيّن بزينة رائعة لائقة بقصر، ومنه ننفذ إلى باحة واسعة، في وسطها بركة، يحيط بها 30 مخزناً، وإيوان كبير مزخرف بسخاء يزيد من مشابهة الخان بالقصور المملوكية. وهذا أمر طبيعي لأن الإيوان وبعض أجزاء الخان كانت تعود إلى قصر الأمير أوزدمر المملوكي قبل بناء الخان وضم هذه الأجزاء إليه.
ثم حدث تطور أساسي على وظيفة الخان، فبعدما كانت الأوقاف توقف لتأمين نفقات الخان، أصبحت الخانات التجارية تدر الأرباح نظراً لإقامة التجار.
ولا شك أن هذه الخانات ساهمت بدورها في تعزير شهرة حلب في الفترة العثمانية. ومنها خان النحاسين وخان الجمرك ووقف إبشير باشا وخان الوزير وهو البناء الثاني الذي تم بناؤه في القرن السابع عشر. وهو كخانات القرن الذي سبق من أعمال أحد الولاة، بناه الوزير الكبير قره مصطفى والي حلب وأراد من بنائه أن يكون فندقاً للتجار المسافرين مع قوافلهم الآتية من البصرة وبغداد وإيران. ونستنتج أن بناء خان الوزير له علاقة بتجارة حلب الخارجية. مساحته 4560م2، وفيه 30 مخزنا في الطابق الأرضي، وغرف للمسافرين تحت الأروقة في الطابق العلوي.
ويتميز خان الوزير بنوعية زخارفه التي تُذكّر بالخانات المملوكية، كوجود الرنوك على الواجهة الأمامية، والزخارف المحيطة بالنوافذ في الواجهة الداخلية الشرقية، وهي تنويعات على مواضيع قديمة من الفترة المملوكية، يوجد مثلها في خان الجمرك. ولكننا نجد، في الوقت نفسه، أشكالاً زخرفية حديثة، من العمارة المدنية المعاصرة للخان.
وبعد أن كانت الخانات أميرية يبنيها الولاة، صار بعض المتنفذين يبنون الخانات الخاصة ويوقفونها للأعمال الخيرية.
كانت الخانات مقراً لفعاليات اقتصادية نوعية لعبت فيها الجاليات الأجنبية دوراً مهمّاً كان له أثره الكبير على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في بلادنا استمر حتى اليوم.
وخانات اليوم قد نسيت الشيء الكثير من تاريخها، ووظائفها السابقة، فهي اليوم لا تستقبل أحداً، ولا تطعم جائعاً، فهي مجرد أسواق عادية لها، في أحسن الأحوال، إمكانات سياحية.
الخسارة الكبرى التي لحقت بالخانات هي التدمير المنظم الذي قامت به السلطة في سوريا، حيث قصفت الأماكن التراثية والمعالم الأثرية والمشافي والمساجد والمدارس بالإضافة إلى الأبنية المدنية التي طالت المدن والأرياف بحجة مقاومة الإرهاب، وهي في الواقع كانت عملية تدمير تعاقب من خلالها الشعب الذي طالب بحريته وكرامته ناشداً قيام دولة مدنية ديمقراطية تهتم بالإنسان وتحافظ على تراثه الحضاري.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”