fbpx

خوف الجماعات السكانية وكراهياتها.

0 125

في الواقع تزاحمت الأفكار في رأسي قبل أن أبدأ في كتابة رأيي.. وكنت قد بدأت وأعدت البداية تكرارا هنا.. ثم أعدت تكرارا قراءة النص الذي أرسله لي الصديق العزيز ميداس باسم اللقاء الوطني الديمقراطي في سوريا.
في النص صياغة عاطفية مؤثرة وصادقة.. وإن كنت آخذ عليها أنها تورطت في معان مثالية لا تصلح، من وجهة نظري، لمقاربة قضية تاريخية /مجتمعية، على هذا القدر من العمق والتشعب والتعقيد..
فلسنا هنا بصدد نقاش ” الكراهية ” باعتبارها مشاعر إنسانية طارئة، تكاد تكون مشاعر سوية كما الغضب والحب …. الخ.
بل نقارب مسألة تتعلق بجماعات سكانية منقسمة ومحاجزة ومتحاربة.. والعنف فيما بينها هي اللغة الوحيدة التي صبغت علاقاتها على مدى تجربة دموية مستمرة منذ ما يقارب العشر سنوات. وعليه وجدت أنني لن أستطيع أن أعيد صياغة موقفي او رأيي بميل رغائبي أو بكلام وردي.
عايشت تجربة انتفاضة شابات وشباب لبنان عام 2005.. والذين ملأوا شوارع وساحات بيروت حينها.. وكتب عنهم الراحل سمير قصير: بأنهم – رواد مقاهي وامسيات شارع مونوه / وهو شارع بيروتي في حي الاشرفية يشابه شوارع او احياء دمشق القديمة من حيث رواده الشابات والشباب من الطبقة المتوسطة والذين يشغلهم اللهو والسهر وهم أبناء زمن ثورة الاتصالات وانتشار المعرفة / –
بأنهم القسم الأكثر حداثوية وانفتاحا والتصاقا بقيم الحرية وحقوق الانسان والديموقراطية وحرية التعبير…. الخ.
هذا المشهد تكرر على مرأى مني ومنكم في ساحات إيران -تونس-مصر-ليبيا-اليمن-سوريا.. ومؤخرا العراق ولبنان ثانية.
هذا القسم من المجتمع والذي انتفض في وجه كل سلطة استبدادية تحرّم على البشر عيشا كريما.. لم يكن هو الوحيد الذي وسم انتفاضاته بسماتها اللاحقة. بل إن قسما مجتمعيا آخر أكثر اتساعا وأعمق تأثيرا وحضورا في رجحان كفة الخيارات اللاحقة لتلك الانفجارات المجتمعية .. أو لنقل الانهيارات اللاحقة لانتفاضات الشرق.. بالطبع لا يمكن اغفال كل عوامل الفشل.. ولا يمكن بحال من الأحوال جمع كل تلك التجارب في سلة نقدية واحدة – على مستوى التجربة الذاتية – بل انه لكل واحدة شرطها الخاص المحيط بها.
وما أريد أن أدقق فيه هنا، ويعني عنوان موضوعنا، ” الكراهية “.. هو أن تلك الانتفاضات لم تكن بنيتها المجتمعية متجانسة، وليست كتلة مجتمعية صماء تتصف بصفات ” صافية أو نقية ” واحدة، انما هي مجتمعات قهرية عاشت زمنا طويلا من استبداديات شرقية متراكبة مع ثقافة بطركيه متأخرة. إنها جماعات سكانية انتفضت على ” استبداد وظلم مزمن ” .. لكنها حملت هوياتها الاصلية معها. وهي هويات متأخرة غير حداثية، روابط ” القرابة ” فيها تطغى على رابط عصري حداثي سياسي ” لجماعات سياسية ” .. يستند الى قاعدة المصالح المشتركة في الذود عن عيش كريم للبشر.
عدم التجانس هذا.. وليس فقط بالمعنى الاثني والديني او الطائفي، بل بالمعنى التاريخي المتعدد والعميق أيضا.. ذهب بتلك الانفجارات المجتمعية نحو احتمالاتها العنفية والأكثر دموية والمغلقة .. في تجارب كاليمن وليبيا والعراق وسوريا..
في بلدنا سوريا كانت تلك الانقسامات حادة بين الجماعات السكانية على أساس ديني واثني..ولم تنجح تلك الشريحة المجتمعية من شابات وشباب الطبقة الوسطى في الاستمرار برؤيتها وحضورها وتأثيرها .. لأسباب كثيرة منها عنف وبطش السلطة الحاكمة.. ولكن الأهم هو طغيان وانفلات القسم الأكثر تأخرا من المجتمع في المبادرة لفرض النفوذ والسيطرة. وهذا ما يفسر تعرض ناشطي ” الثورة السورية” للتصفية والاعتقالات على يد السلطة الحاكمة وميليشياتها الطائفية ، كما على يد كل سلطات الامر الواقع خارج سيطرة النظام.. على يد الميليشيات المختلفة. ويفسر العدد الهائل لتلك الجماعات تحت تسميات إسلامية.. ويفسر احترابها فيما بينها على مناطق نفوذ وثروة كما يفسر انزياحها نحو الراديكال القاعدي الإسلامي بغالبيتها او غالبية مقاتليها. ويفسر انزياح قسم آخر من الميليشيات المحلية نحو شعارات قومية كميليشيا حزب الاتحاد الديموقراطي / فرع حزب العمال السوري كرديا وعلى الأخص بعد هجوم داعش على كوباني / عين العرب.. وصراعات مسلحة مختلفة بين الميليشيا الكردية وميليشيات إسلامية محلية أخرى.
هذا الواقع الدموي، لا يمكن تجاهله من وجهة نظري عند الحديث عن قضية تباعد ” كراهية ” واحتراب وانقسام , الجماعات السكانية السورية فيما بينها .. هذه البلاد مزقتها الحرب. ومزقتها الانقسامات المجتمعية. والتي اعيد القول انها تاريخية.. فغياب بناء مشروع الدولة الحديثة.. وانقطاع تلك التجربة على يد استبداد قومي أيديولوجي عروبي.. كرّس هذا الانقسام وعمّقه.. وحول تلك الجماعات السكانية الى قنابل موقوتة تنفجر تباعا مع اول فرصة عنف راجحة وفرتها ظروف هذا الصراع منذ بدايته كصراع وطني بين سلطة استبدادية دموية.. الى مرحلة تدويله وانتقاله نحو صراع إقليمي ودولي…وازعم ان كل عمل وطني سوري يؤسس نحو ” جماعات وطنية سياسية” تعمل جنبا الى جنب وعلى قاعدة المصالح المشتركة.. ونحو بناء عيش مشترك.. للجماعات السكانية، وأيضا على أرضية عقد اجتماعي جديد لها.. وبناء دولة حديثة.. دولة قانون ومؤسسات.. ان كل عمل من هذا النوع ازعم ان عليه ان يقرأ هذا الواقع الدموي. ويبتعد عن الاختباء خلف كلام وردي يموه هذه الصورة.. ونعود بعدها مراراالى حلقة مفرغة من التيه والمجاملات وربما ” التكاذب”.. ونختبئ خلف ادعاءات “أخلاقية” هي مجرد هراء.
نعلم جميعنا ما يعيشه أهلنا في سوريا بمختلف جماعاتهم ومناطقهم.. يعيش جميعهم حدّ الموت فقرا ومرضا.. وتحكم حياتهم سلطات الأمر الواقع وميليشياتها. ليست الكراهية جائحة للطبيعة كما كورونا فايروس.. هذا برأيي تحليل غير دقيق.. انها عملية مجتمعية تاريخية ممتدة وعمّقتها الدماء التي سالت.. ومسألة تجاوزها أيضا هي عملية تاريخية تبدأ من الآن .. وتحتاج صراحة كما تحتاج نقدا واقعيا وعقلانيا.
كل عمل مجتمعي او سياسي عليه ان يصيغ رؤيته لكيفية بناء عيشنا المشترك.. ورؤيته لشكل ومضمون الدولة السورية.. ومضامين عقدنا الاجتماعي الجديد.. رؤية المستقبل هذه تتأسس منذ الآن.. على موقف مشترك من الحرب وقواها. من قضية اللاجئين في بلدان الجوار. من قضية الفقر والعوز الذي يتشاركه كل سكان سوريا في مختلف مدنها وبلداتها وقراها.
نحن اللاجئون في أوروبا ربما نتمكن من أن نلتقي على قاعدة مماثلة.. يمكننا ربما ان نعمل على توسيع رقعة مشتركاتنا.. ربما نشاطات ثقافية نتشاركها بيننا على أساس أننا سوريون.. وليس طوائف وقوميات.. ربما نتشارك موسيقانا معا…ومناسباتنا المختلفة.. وندعو الى نشاطات مختلفة نلتقي فيها ونبدأ حواراتنا في مختلف عنوانين حياتنا…والاهم ان نشرك معنا سكان هذه البلدان الذين نتشارك أيضا معهم اليوم عيشنا.. هل ممكن هذا؟ … أظنه ممكنا.
في دمشق قبل عام 2011.. ووسط سنوات القمع السياسي.. نشطت حركة ظريفة تشاركها مئات من الشابات والشباب. انتشرت فرق المسير في الطبيعة … وتشارك الكثير من الحوارات ومن النشاطات.. هذه فكرة مثلا.
العمل السياسي الذي تدعو اليه كثير من التجمعات السورية أعلن فشله مرارا وتكرارا. ازعم ان أيا منا يحاول انجاز امر ما بذات الطريقة والعقلية ويفشل مرارا به. ثم يعيد الكرّة بذات الأدوات وذات العقلية ونفس التكرار معتقدا انه ربما ” تزبط” هالمرة.. أزعم ان من يفعل هذا اما أنه أحمق أو أنه يلهو لا أكثر.
العمل الأكثر جدارة برأيي هو التأسيس لتيار ” عقلاني”.. يعلي شأن التفكير والنقد ويطلق حرية التعبير ولا يهادن أبدا نحو كل ميل استبدادي.. ويكون الفرد قيمته الأساس.. بكل ارتباطاته مع قيم عصرية يعلي من شأنها في الدرجة الأولى.. قيم حرية وحقوق الانسان /الفرد.
ملاحظة أخيرة … بالنسبة لي طرح سؤال : هل أنت مع قانون زواج مدني اختياري مستقبلا ..يحدد هوية تيار عقلاني قد يكون متاحا بين سوريين مشتتين.. كمثال طبعا لكنه مؤسس.

مساهمة أحمد محفوظ  في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع الأستاذ أحمد محفوظ

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني