
خداع الجماهير
الخداع وسيلة يلجأ إليها صنف من البشر لتحقيق أهوائهم الشخصية، وهو أسلوب غير إنساني، يعتمد فيه المخادع على غشّ الآخرين، والمكر بهم، والتدليس عليهم، من خلال استخدام معلومات مضلِّلة لتوجيه الرأي العام بشكل يخدم مصالح معينة، ويعتمد المخادعون على وسائل الإعلام لنشر رسائلهم، فيقومون بتهيئة الأخبار وتوجيهها، لتظهرهم بمظهر القادة، ويتم استخدام الإعلام لتشويه صورة الخصوم وشيطنتهم، وخداع الناس بذلك.
ومن مظاهر الخداع أن يَعِد المخادع – خاصة في مرحلة الانتخابات والاستحقاقات – بأمور لا ينوي إنجازها، أو يوهم الآخرين ويمنّيهم بأشياء لا يمكن الوصول إليها، أو يوسوس لهم بأمور، ويغريهم بغُرور، {يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُوراً}.
وإنّ أوّل مخادع ظهر في هذه الدنيا هو إبليس اللعين، الذي جعل قَسَمَه بالله وسيلة للخداع، فخدع آدم وحواء اللذين كانا يظنان أنْ لا أحد يحلف بالله وهو كاذب، فخُدعا بالأكل من الشجرة، موسوساً لهما بحرصه على منفعتهما، وأنه ناصح لهما، مريداً لهما الخير، وأقسم لهما بالله، فصدّقاه، قال تعالى واصفاً هذا الخداع: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ. فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا}.
فالخداع من عمل الشيطان، والمخادع أخذ من الشيطان أخطر ما عنده.
صفات المخادع:
للمخادع صفات يتحلّى بها لكي يوقع الأبرياء في شرّ خداعه، ومن أبرز هذه الصفات أنه يدّعي شعارات دينية أو وطنية تجذب الناس:
فالمخادع يعزف على وتر الشعارات التي تجذب الناس، خاصة الشعارات الدينية والوطنية، فنراه يُكثر منها، ويحدِّث بها ليل نهار، وقد لاحظنا توظيف هذه الشعارات كثيراً من قبل المخادعين أفراداً وتنظيمات:
فكم من مخادع أراد أن يكسب أموال الناس، فاستغل قضية مقدّسة ما دينية أو وطنية، وتاجر بها، وكسب من وراء ذلك أموال المتعاطفين مع هذه القضية!
وكم من مخادع سياسي أراد أن يكسب الجمهور من حوله، لكي يأخذ أصواتهم في الانتخابات، فنادى فيهم في كل مناسبة واجتماع، بشعارات تستهويهم، تبدأ بشعار الكرامة الإنسانية، وتنتهي بشعار العدالة الاجتماعية، والناس المقهورة والمظلومة يحلو لها مثل هذه الشِّعارات، فتقف وراء الفرد المنادي بها أو التّيار، ظنّاً منها أنّه جادٌّ في السعي إليها، وهو في الحقيقة من المتاجرين بها الذين يبيعون ويشترون باسم الوطن، وباسم الشعب، وباسم الدّين، وبعد انتخابه ووصوله إلى السلطة نجده لا يمارس هذه الشعارات في الواقع.
استراتيجيات خداع الجماهير:
تناول الكاتب الأميركي والعالم اللغوي نعوم تشومسكي هذا الموضوع عندما تحدث عن «الاستراتيجيات العشر لخداع الجماهير عبر الإعلام»، والتي يعتمدها الحكام، وهذه الاستراتيجيات هي:
1- الإلهاء:
تعتبر عنصراً أساسياً للضبط الاجتماعي، وهي تتمثل في تحويل أنظار الرأي العام عن المشاكل الأساسية والقرارات المصيرية التي تتخذها النخب السياسية والاقتصادية. وتعتمد هذه الإستراتيجية على ضخ كمّ هائل من المعلومات والنشاطات الترفيهية، وخلق أجواء ملائمة لصرف أنظار الجماهير واهتماماتها عن القضايا الحساسة، والانغماس في التسلية واللامبالاة واللهو المستمر.
2- خلق المشاكل، ثم تقديم الحلول:
تختصر هذه الإستراتيجية بمعادلة: «مشكلة – ردة فعل – حلول»، بحيث تكون المشكلة أعظم وأخطر مما هو مطلوب تمريره وإقراراه، وتفرض هذه المشكلة حالة إرباك وقلق للناس، وربما تتسبب بمخاطر أمنية أو صحية أو اقتصادية. وبعد أن تعيش الجماهير هذه الحالة الخطيرة، يصبح تقبّلها للحل سريعاً وسهلاً، ولو كان على حساب خسارات في مجالات أخرى، حيث يصبح ما يريد الحاكم فرضه، مطلباً جماهيرياً في ظروف معينة.
3- التقهقر:
يعتمد هذا الأسلوب على استراتيجية تطبيق الإجراءات بطريقة تدريجية ناعمة، أي بالتقسيط ولمدة طويلة، فلا يعي المواطنون تداعياتها ولا يلمسون سيّئاتها.
4- التأجيل:
مشابهة لاستراتيجية التقهقر ولكنها تنفذ في القرارات غير القابلة للتجزئة، أو الصعبة التطبيق بشكل فوري، وهي تعتمد على أخذ موافقة الرأي العام شرط تأجيل البدء بالتنفيذ والتطبيق إلى مستقبل غير قريب. فمن السهل دائماً قبول تضحية مستقبليّة بدلاً من تضحية عاجلة، وهكذا تصبح الفكرة مقبولة شيئاً فشيئاً في أذهان العامة.
5- استخدام أسلوب بسيط في مخاطبة الرأي العام:
تقضي هذه الاستراتيجية باستخدام أسلوب خطابة وتواصل بسيط مع الجماهير كما لو أنها مجموعة أناس غير راشدين أو غير عاقلين ومجرد متلقّين، وذلك بغية تلافي ردات الفعل وعدم أخذ الأمور بالجديّة اللازمة وتعطيل الحس النقدي لديهم.
6- إثارة العواطف بدل التفكير:
اللجوء إلى إثارة العواطف تقنية كلاسيكية لتعطيل التحليل العقلاني والحس النقدي للأفراد، كما أن استخدام المخزون العاطفي يسمح بفتح باب الولوج إلى اللاوعي، وذلك من أجل غرس أفكار، رغبات، مخاوف، وميول معيّنة واستجلاب سلوك وردات فعل مناسبة ومطلوبة.
7- إبقاء الجمهور جاهلاً:
الحرص على إبقاء الجمهور جاهلاً التقنيّات والطرائق المستخدمة من أجل ضبطه والسيطرة على تفكيره وسلوكه، هو من شروط نجاح استراتيجيات الخداع، وهذا ما يتطلّب أن تكون درجة التعليم والتثقيف لديه متدنيّة وضعيفة.
8- تشجيع الجمهور على استساغة البلادة:
تعمل هذه الاستراتيجية على تشجيع الجمهور على تقبّل أن يكون جاهلاً وبليداً، ولامبالياً بالأحداث.
9- استبدال الشعور بالذنب بالانتفاضة:
جعل الفرد يشعر أنه هو المسؤول عن شقائه، بسبب جهله ونقص ذكائه وقدراته، هو أساس هذه التقنيّة وهكذا، بدل الانتفاضة ضد النظام، يشعر بالذنب ويلجأ إلى لوم نفسه وينخفض تقديره لذاته، مما يجعله غير قادر على القيام بردة فعل.
10- معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم:
إنّ التقدم الهائل في العلوم الإنسانية، وخصوصاً في علم النفس التطبيقي وسلوك الإنسان، خلق هوة كبيرة بين معارف العامة وتلك التي تمتلكها النخب الحاكمة، أو يمتلكها مساعدوهم ومستشاروهم، ما يسهل سيطرة الحكام والأنظمة القائمة على الأفراد.
وسيلة الخلاص من الخداع:
نرى أنّ التفكير الناقد هو السلاح الوحيد أمام الشعوب لاكتساب المناعة وعدم الانجرار وراء مخادع يرى الجماهير من جملة القطيع، وأنّ المحافظة على التفكير الناقد العقلاني والمنطقي في مقاربة الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يحفظ الجماهير من أن تكون لعبة بيد سياسي مخادع، يستغلها في سبيل مصلحته لا في سبيل المصلحة العامة.
ومن كان من ذوي التفكير الناقد فلن يُخدع، لأنه يمتلك من الوعي ما يجعله يميّز بين الأشرار والأخيار، بين الأنجاس والأطهار، بين المنافقين والثّوار، بين الصادقين والتّجار، بل لن يتمكّن أحد أو جماعة من خداعه، لأنه سيكون للمخادعين بالمرصاد، ولن يسلِّم لمن يخدعون الناس بشعارات دينية أو وطنية إذا لم ير لها أثراً في ممارساتهم وسلوكهم، فالمفكِّر الناقد لا يُخدع ولا يَخدع، حاله كحال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال: لست بالخِبّ [أي المخادع]، ولا الخِبّ يخدعني”.