حين يقتل المعنى معاني الحياة
لست أعلم تاريخاً محدداً لبدء نظر الإنسان في الكون والحياة ومظاهر الوجود، وانطلاق خياله في البحث في الأسئلة الوجودية الكبرى، من أنا؟ من أين أتيت؟ لماذا أتيت إلى هذه الحياة؟ من خلقني؟ لماذا خلقني؟ ما الذي يريده مني؟ إلام سأصير بعد الموت؟ هل أفنى أم أعيش خلود النفس؟ لكن تاريخ الأديان والكشوفات الأركيولوجية تخبرنا بأن الإنسان بدأ بالتفكّر في هذه القضايا منذ ملايين السنين، من خلال تفسير الرعد بغضب السماء والمطر برضاها، حتى بدأ يسبغ على هذه الظواهر المادية من تصوراته البدائية وفيض مخياله أوصافاً للروح الخفيّة أو القوى العلويّة عبر وصفها بالآلهة. والتاريخ زاخر بذكر وتعداد ثقافات وديانات الشعوب والأمم التي عبدت الشمس والكواكب والشجر والأصنام بل وتلك التي كانت تعبد آلهة متعددة تخص الحب والخصب والحرب والغضب وغيرها كما نقرأ في سيرة الهنود والإغريق والفرس والعرب والمصريين القدماء.
ومع مرور الزمن يتطور الفكر البشري ويعرف المدن والصناعة والملوك والجيوش والدول فتنشأ الحضارة فعلياً وينشأ معها زمن الإمبراطوريات والفتوحات العسكرية وكسب الأراضي وفرض الأديان والآلهة على الآخرين، كما فعل البابليون بالشعب السومري حين فرض حمورابي الإله مردوخ على كل الأراضي السومرية وكما سوف يفعل لاحقاً الإسكندر الأكبر (السياسي والقائد العسكري الكبير) حين أعلن نفسه مخلّصاً وابناً للآلهة (آمون المصري) و(زيوس اليوناني) ووضعهما على شكل قرنين على تاجه أو خوذته لأنه عرف أن حكم العالم لا يتم دون حكم مصر واليونان.
من هذا الاستهلال نرى كيف تحوّل الدين عبر العصور من إضفاء المعنى على الحياة وإنهاء القلق الوجودي وطمأنة الروح بقصة الخلود والنجاة من العذاب إلى وسيلة لتطويع الأمم وقهر الآخر..
يظهر ذلك جليّاً في الأديان الإبراهيمية الثلاثة والإسلام واحد منها، فلدى ظهور النبي محمد عليه السلام كانت دعوته لا تخرج عن توفير الإجابات للإنسان الحائر القلق على مصيره، كانت رسالته بسيطة تقوم على الدعوة للإله الواحد الذي ليس كمثله شيء، وإتمام مكارم الأخلاق ومصفوفة من الشرائع والعبادات والمعاملات. ودليلنا على بساطة دعوته أنه لم ينصّب نفسه ملكاً كما فعل كل أنبياء بني إسرائيل كسليمان وداوود وشاول ولم ينشئ سجوناً ولم يوصِ بخليفة بعده، بل قال قبل وفاته (تركتكم على المحَجّة البيضاء لا يزيغ عنها إلّا ضال).
يأتي من هم بعده فينشئون الدولة ويقسمون البشر إلى فسطاطين (دار الإسلام ودار الحرب)، فيدخل الإسلام عصر السياسة ومعترك السيادة، فينسى الناس أول مرة المعنى الذي جاء الإسلام لأجله وهو مدّ الإنسان بطاقة روحية هائلة تعينه على شقاء الدنيا وترسم له طريق الخلاص.
ففي حين أنّ الإسلام جاء لإرساء ثقافة التعارف بين الشعوب والأمم، نرى المسلمين اليوم في أسفل التقييم الأممي في تبنّي التسامح وقبول الآخر. نعم المسلمون اليوم ينكرون الآخر ويستنكرونه بدل أمر التعارف الإلهي، فهاهم يرفضون فكرة أن رحمة الله وسعت كل شيء حين يجاهرون بتكفير الآخرين، وينصبون أنفسهم بديلاً عن الله في أرضه. وفي ذاك ينبري المفتون والمشايخ في عدم جواز الترحّم على الكثير من المفكرين والفلاسفة والتنويريين والمصلحين والمناضلين بدعوى عدم إيمانهم بالله الواحد وكأنّهم شقّوا صدور الناس أو اطّلعوا على سرائرهم أو كيف عاشوا الساعات الأخيرة من حياتهم.
لم يأتِ الدين ليقتل البهجة والفرح بالحياة وفيها حين أوصى أتباعه بعدم التعلق بأهدابها وزخرفها، بل جاء ليقول إن غاياته الأسمى أهم، والأهم لا يلغي المهم. بينما نجد أئمة المسلمين حاربوا الفرح بكل أشكاله من موسيقى وفنون وسياحة وحب، ثم يقولون إن الله جميل ويحب الجمال وهم ذاتهم من يقتلون كل معاني الجمال في الدنيا، وكأن المسلم هو شخص عسكري مستعد ومستنفر للمعركة دائماً ولا يجوز له أن يتراخى ويسترخي ويحب ذاته حتى لا يأخذه العدو على حين غرّة.
وكذلك نرى التيارات الإسلامية في كرهها للديمقراطية مع العلم أنّهم يقرّون بصحة حديث النبي (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) وكأن شكل نظام الحكم ليس من شؤون دنيانا! ولست أعلم تناقضاً بين دين يرسم شاخصات طريق للجنة والنار في الآخرة يتعارض مع رسمنا نحن لشاخصات طريق يكفل لنا اتّباعها الحصول على أكبر قدر من العدالة وتكافؤ الفرص في الدنيا. ولعلّه من المضحك أن نضطر لتقديم أدلة على حديثنا والواقع الإسلامي يفقأ العين بتراكم ترسانة فقهية ضخمة تدعو إلى الخلافة في قريش حصراً فإن لم يكن فبخير المسلمين خليفةً.
ليس ما سبق وحسب بل لننظر إلى أحوال المسلمين حول العالم حيث يرسف معظمهم في الفقر والتخلف والجهل قياساً بالمؤشرات العالمية الخاصة بجودة التعليم والشفافية والغنى وأكثر الشعوب سعادة وأكثرها احتراماً لحقوق الإنسان وحريات الصحافة والتعبير.. ما السبب في إهمال المسلمين تحسين حياتهم؟ لماذا استسلموا للفساد وسوء شبكات الصرف الصحي وقلة نظافة الشوارع والمرافق العامة؟ لماذا لا يوجد في معظم العالم الإسلامي ضمان صحي واجتماعي؟ أليس بسبب الفقه الإسلامي الذي شكلته السياسة عبر التاريخ والذي يقول بأن كل ما يصيبك هو قدر مقدور من الله وما عليك سوى الصبر والاحتساب. من الذي أنتج فقه (الجبريّة) وأن الغنى والفقر قدر والزواج نصيب والحاكم شخص اختاره الله ولا اعتراض على حكمه، إذ نحن مسيّرون في غالب شؤوننا وربما كلها؟
حين يكون الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له كما يقول ماركس، يصبح الدين ملاذاً وحاجةً روحيّةً لا تحتاج إلى براهين عقلية وأدلّة علمية مادية. عندها يكون هو المعنى وهو السعادة وحب الذات والآخر، أما حين نخلطه بالسياسة ونسبغ عليه من ذواتنا الأنانيّة من أجل أن يصير الإنسان ملك الأرض والسماء فإن الدين سيصبح معنىً قاتلاً لكلّ معاني الحياة، إذ من غير المعقول أن تكون سعادتك في شقاء الآخر وراحتك في عذابه وفرحك بحرمانه من النعيم وارتواء ظمأ روحك في تصوّر عطش الآخرين.