fbpx

حين كنت رسالة لجهة ما.. طريق خناصر، مشاهدات من مدينة حلب

2 556

بعد معاناة ورحلة مليئة بالتوتر وصلنا حلب الغربية، وهي تسمية ازداد تواترها بعدما حصل في حلب وهو انقسام يشبه الانقسامات الكثيرة التي لحقت بالسوريين.

حلب الشهداء، هكذا أسميتها، قفز لمخيلتي وذاكرتي بيت شعر للحارث بن حلزة:

لمن الديار عفون بالحبس آياتها كمهارق الفرس

حلب الآن أصبحت (مهارق الفرس)، مدمرة مهترئة وبائسة حزينة شاحبة كأم ثكلت أبناءها.

مفجع جداً أن تصف مدينتك التي تحب بهذه الصفة أو تراها بهذه الحالة المؤلمة والتعيسة.

الخوف هو الصفة الغالبة والمشتركة بين كل ما هو موجود في هذه المدينة، حتى حجارتها بان عليها الحزن والتعب، متعبة هي حد الإنهاك.

المعارض خائف يخشى أن يُفتضح أمره فيساق إلى أقبية الموت المؤلم، يخشى الوشاية أو انكشاف عمل قام به.

حتى الشخص المؤيد للنظام بات يخشى من أمور كثيرة، منها موت يفتعله هذا النظام المجرم على شكل تفجير أو استهداف، ليلقي التهمة على معارضيه (الإرهابيين)، ولا يهمه من وكم وكيف يموت مؤيدوه فهم بالنسبة له أشياء يتم استخدامها وقت الحاجة.

كذلك الخوف من أن يعتقل بسبب تشابه الأسماء أو وشاية من أحد أصحاب الخط الجميل، وهي صفة تطلق على من يمتهنون الوشاية للنظام وقد عمل نظام الأسد على تربية هؤلاء ودعمهم طوال فترة حكمه.

تعددت أسباب الخوف لديهم والمجرم واحد.

رائحة الموت منتشرة في الأزقة والطرقات، تحت المعاطف ومقاعد المقاهي التي هجرها روادها وحافلات الأطفال، كل من في المدينة ميت مع وقف التنفيذ، وتأجيل صعود الروح.

ساحة سعد الله الجابري، صورة رأس النظام معلقة وهو يبتسم تلك الابتسامة البلهاء التي تسبب للناظر إليها تلوثاً بصرياً ورغبة بالتقيؤ إذا ما قارناها بالمشهد المحيط من دمار ورائحة الموت المنتشرة في الطرقات.

نظرتُ إلى ياسمين وهي تغمض عينيها حتى لا تقع على تلك الصورة، كررت النظر إليها وإلى الساحة ودون أن أتكلم سمعت وفهمت ما كنت أريد أن أقوله.

ذكريات أحاديثنا وجلساتنا السابقة والحديث كثيراً عن ساعة الصفر والزحف لساحة سعد الله الجابري والتي انتظرناها كثيراً كثيراً لكنها لم تأت.

على الطرف الآخر من الساحة، كان عمي رحيم ينتظرنا بقلق وخوف.

رحيم: الحمد لله على سلامتكم يا صبايا.

الله يسلمك عم.

حقيقة كانت هي المرة الأولى التي أشعر فيها بضرورة أن يُقال لي هذه العبارة. كان رحيم طوال مسيرنا يتمتم ويلعن هذا الحال الذي وصلنا إليه. وقد أصرّ على مرافقتنا فيما جئنا لأجله بذريعة أن هذه المدينة لم تعد آمنة للنساء.

– على أساس آمنة للرجال يا عم.

رحيم: ما حدا مأمن ع حالو فيها غير أولاد الكلب ونظر حوله بعد كلمته الأخيرة.

مضينا لشأننا وأنهكنا وخارت قوانا حتى أنهينا كل الأمور التي جئنا من أجلها لنعود سريعاً. فما عدت أطيق المكوث في حارات وطرقات معشوقتي حلب.

حلب كانت كالحبيب الخائن الذي استبدل محبتوته الطاهرة بعاهرة تبيع الهوى بالعلن. لم أعرف هل أحقد عليها أم أبكي أم أتركها أمضي أم أبقى. كل ما أعرفه أني أشتاقها وأفتقدها ولا أجدها.

اتفق رحيم مع سائق (تاكسي) ليقلنا إلى ما بعد دوار (الرئيس) أطلق عليه الأهالي اسم (دوار الصنم) في إشارة واضحة لما حاولت السلطة صناعته عبر عقود من الزمن لإسكانه ذواكر الناس من تقديس للطاغية، أكملنا طريقنا حيث تنتظرنا حافلة لتقلنا إلى القرية التي هربنا إليها من القصف والموت الذي أحاط بنا سابقاً إثر قصف النظام للمناطق التي خرجت بمظاهرات تنادي بإسقاطه.

انطلقت بنا السيارة، بجانب السائق يجلس رجل أسمر اللون سمرته تميل للصفار، هزيل الجسد، تكاد عظام وجهه من شدة البروز أن تمزق جلده المتجعد الملتصق بها عنوة.

بدأ السائق يلقي بعض النكات التي اعتبرتها سمجة كالذي يلقيها، لا أعرف سبب شعوري ربما لأنه لا مكان للضحك في هذا المشهد السريالي المحيط بنا. كان رحيم يضحك ويحدث السائق..

أنا وياسمين كنا نستمع ولا يحق لنا المشاركة بوجود العم رحيم الذي يَعتبر أي مشاركة للمرأة في هذه الحالة هي قلة حياء وتربية، نظرة لم يغيرها كل ما جرى وربما تحتاج سنوات لتتغير، أما ذاك الرجل النحيل فقد كان واجماً، وكل ما مررنا بحاجز بدا عليه الارتباك محاولاً الالتصاق بالكرسي حتى لا يرى من نمر بهم.

وصلنا إلى دوار (الرئيس الصنم) حيث كان الحاجز بانتظارنا.

طلب السائق الهويات الشخصية، كنت قد اعتدت أن أستخدم هوية أختي نجلاء التي تشبهني كثيراً عند مرورنا على الحواجز.

أعطيت الهوية لرحيم فقال لي هذه هوية نجلاء، فما كان مني إلا قمت بقرصه بفخذه فاحمرّ لونه وخاصة أنفه البارز.

غاب السائق عدة دقائق وعاد ووجهه لا يطمئن بالخير، فتح باب السيارة وطلب منّا النزول.

بدأت نبضات قلوبنا تتسارع ترتطم ببعضها بعضاً والشحوب اعتلانا جميعاً، ثم أردف قائلًا (النسوان لا تنزل) تنفسنا الصعداء مع خوف باقٍ على الآخرين رفاق الرحلة. وحبسنا نصف النفس الآخر المتبقي.

الرجل الجالس بالمقعد الأمامي التصق به وكأنه ذاب بداخل شقوق قماشه المهترئ، طلب منه السائق النزول لكنه رفض وبدأ يرتجف ويتنفض كأن مس من الجن بداخله.

اتجه الضابط نحو السيارة وفتح الباب وخاطبه بلهجة عرفت أصل صاحبها من خلالها. قال له انزل يا عبد القادر كانت القاف مقيتة، كقاف تلك الطغمة التي كانت تحكمنا وتمعن في قهرنا وإذلالنا.

وفجأة ودون سابق إنذار بدأ عبد القادر يصرخ ويبكي بكاءً تهتز له الجبال ويصرخ لا ترجعوني لهنيك، ببوس رجلك يا سيدي لا ترجعوني وبكى وبكى كثيراً، بدأت أنا وياسمين نبكي لبكائه، ورحيم اكفهر وجهه. واختنقت عبرته داخل مقلته فهو لا يجرؤ حتى أن يبدي تعاطفه معه.

بعد غياب دقائق عاد السائق يحوقل ويضرب كفاً بكف، وقال إن عبد القادر كان معتقلاً وخرج أمس من المعتقل ولكنه لا يحمل ما يسمى بورقة كف البحث عنه وأن علينا أن نغادر بدونه.

سألته: كيف نغادر ونتركه لهم.

السائق: اي هم مو وحوش حتى يأكلوه. (لا يجرؤ إلا أن يقول هذا)، بداخلي أقول له لا، حاشى أن تظلم الوحوش فهي تقتل لتأكل، أما هؤلاء يقتلونا ليستمتعوا َيتسلوا، لأننا لا نستحق الحياة بنظرهم.

السائق: هو لو حاكي إنو وضعه هيك كنت عرفت أتصرف لأن الضابط حموي وابن حلال لكن حسبنا الله ونعم لم يكمل السائق كلامه حتى جاء صوت من الداخل ينادي السائق لينزل مسرعاً وقد اصطدم بباب السيارة وتعثر من خوفه.

عاد السائق وهو أقل خوفا وارتباكاً، قلتلكن الضابط ابن حلال رح يطالعلو ورقة كف البحث وبدها ساعتين لتطلع، إذا بدكم ننتظره أو نمشي.

دون أي تردد أجبنا ثلاثتنا ننتظره.

نزل السائق وبقينا في السيارة.

رحيم: إي يا خانم ليش عم تفيشي بهوية نجلاء إختك؟

لأنها شبهي، وبعد شغلي بالمناطق المحررة غالباً أصحاب الخط الجميل كتبوا فيي قصيدة عصماء لذلك وجب الحذر.

رحيم: الشبه بين الإخوة مو بس حلو وطلع مفيد كمان.

– نعم نعم يا عماه ونجلاء بسببي لم تعد تتجرأ أن تأتي إلى هذه الديار.

مضت ثلاث ساعات كانت ثقيلة خرج بعدها عبد القادر مكسوراً وواجماً كما كان في بداية الطريق.

استمر الصمت لفترة من الزمن انتظرنا حتى تخطينا الحاجز لمسافة أمان تحمل كثيراً من الألم والذهول والشرود.

نظر إلينا عبدالقادر نظرة يصعب قراءتها، مزيج من الخوف والشكر والامتنان والقهر وعدم التصديق بأنه نجا من العودة إلى ذاك المكان.

– أنا والله زلمة درويش على باب الله، بشتغل سائق شحن وقفوني على الحاجز ونزلوني وأخدوني ما عرفت لوين وليش، بعدما قتلوني وعذبوني وسلخوا جلدي وحرقوني عرفت إني متهم بتهريب متفجرات للـ (الإرهابيين علي حد قولهم). صرلي سنة وسبع شهور من فرع لفرع وبالأخر اكتشفوا إنو تشابه أسماء.

كنا نستمع إليه ولا نملك ما نواسيه به، إلا دموع مآقينا والحسرة التي تحرقنا وتكوينا.

كشف عبد القادر عن بطنه.

يا إلهي، بطنه بدت كأرض معركة مرت منها جحافل المغول، الزيت المغلي حفر أخاديد فيها، وكتل اللحم المتجعد كأنها جثث مُثِلَ بها بأبشع طرائق التعذيب.

أغمضت ياسمين عينيها ووضعت رأسها على كتفي وبكت، بكت كثيراً، أما رحيم فقد أطرق برأسه ولم ينبس ببنت شفة.

انتقلنا للحافلة التي ستقلنا للريف الشمالي، وأخبر سائق التكسي سائق الحافلة بوضع عبد القادر ليتدبر أي طارئ قد يحدث في الطريق.

وصلنا حاجز الراموسة (حاجز الموت كما كنا نسميه) المار به مفقود والخارج منه مولود.

جمع السائق كل البطاقات الشخصية ومن بينها هوية نجلاء، وسلمها في حزمة واحدة لعناصر الحاجز وأعطانا حرية البقاء في الحافلة أو النزول لأن الأمر سيطول.

نزلنا من الحافلة، كانت هناك عشرات الحافلات والسيارات تقف على الحاجز والكثير الكثير من السوريين ينتشرون حول حافلاتهم وينتظرون الإفراج عن بطاقاتهم.

قد يطول الأمر لساعات وربما يحل الليل ونحن على الحاجز ولا يحق لأحد أن يعترض أو يتذمر، هذا الأمر لم يكن يحدث بسبب تخلف أجهزة النظام بل إن هذه المعاملة القذرة، ليست إلا جزءاً من سياسة القمع والإذلال التي كان النظام يتبعها مع شعبه.

بدأنا بالتجول أنا ورحيم وياسمين.

صوت ينادي (استنى عندك.. وقف) ويقترب منا، وضع يده على كتف رحيم وهو يناديه سالم هذا أنت يا سالم؟ التف رحيم إليه وهو مصعوق.

– أنا رحيم ولست سالم.

كان عمي سالم من رجال الشرطة الذين انشقوا عن النظام وقد لفق لهم النظام تُهم الإرهاب ووضع اسمه على قائمة المطلوبين، وهو شديد الشبه بعمي رحيم.

أصرّ المجند أن الذي أمامه هو سالم.

تقدمت إليه وقلت هذا عمي رحيم، عن أي سالم تتكلم؟

كان المجند قد أدى بعضاً من خدمته مع عمي سالم في نفس المخفر الذي كان يخدم به قبل انشقاقه.

لذلك فقد التبس عليه الأمر بسبب الشبه الكبير بينهما.

كان ينظر بتمعن وتركيز في عيني رحيم ويتفحص تفاصيل وجهه، وقال له: مزبوط أنت مو سالم.. أنت عيونك خضر وسالم عيونو زرق وعندو حبة حلب بوجهو.

تنفس رحيم الصعداء مرة أخرى وزال الشحوب عنه قليلاً.

جلس على الرصيف اقتربت منه همست له فضحك ضحكة بصوت مرتفع، كنت أعدت عليه نفس عبارته (الشبه بين الإخوة مو بس حلو ومفيد كمان، مووووو).

قرر رحيم بعد أن نجا هذه المرة ألا يعود إلى حلب الغربية إطلاقاً.

فربما في مرة قادمة لن ينجو من شبهه لسالم وهذه تهمة كفيلة بأن يغيب لسنوات وسنوات في المكان الذي بكى عبد القادر خوفاً من العودة إليه وقد لا يعود.

يتبع..

2 التعليقات
  1. الحلبي says

    جميلة هذه الرسالة

  2. فايز باشا says

    سرد متماسك مليء بالذكريات الموجعة
    تحياتي سيدة هناء
    اتطلع الى قراءة المزيد من كتاباتك

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني