fbpx

حين تكون معلماً في مخيمات الشمال السوري المحرّر.. يعني أنك ستجوع

0 909

في يوم توزيع النتائج النهائية وقف معلم الصف الرابع وقال: بعد معاناة فصل كامل وجدت أن العلامات متدنية جداً، والمستويات منخفضة نوعاً ما، باستثناء 5 طلاب من أصل 25 طالباً كانوا مجتهدين فتفوقوا.

قرر المعلم معرفة أسباب تقصيرهم وسبب تأخرهم الدراسي فسأل أول طالب:

يا أحمد ما سبب تدني علاماتك؟ 

يقول المعلم: قام الولد وهو مصاب بخجل وارتباك، فلمحت نظرة حزن عميق في تقاسيم وجهه البريء.

فرد عليّ زميله وأجاب: يا أستاذ لقد مات والده، وتزوّجت والدته وتركتهم، وتتولى جدته العناية بهم وتقوم بتربيتهم هو وأخوه الأصغر وليس لديهم معيل.

خجلت من الولد، وطيبت خاطره ببعض الكلمات وانتقلت إلى طالب آخر بالقرب منه واسمه عبيد وسألته نفس السؤال؟ قال: عندما أنتهي من دوام المدرسة وأرجع الى البيت أقوم بجمع بقايا ومخلفات بلاستيكية من حاويات القمامة وبعض الحطب إن وجدتها، من أجل أن نتدفأ عليها فوالدي فقير، وهو منتسب إلى أحد الفصائل في عفرين، ولا نراه إلا نادراً وليس لدي من يعلمني.

انتقلت إلى الطالب الذي يقف بجانبه وسألته نفس السؤال الذي سألته لزميليه. فقال: والدي يعمل بمحل للمعونات ودوامه يبدأ مع طلوع الشمس ولا يأتي إلا عند العشاء وأنا أذهب إليه عند عودتي من المدرسة ولا نعود إلا في وقت متأخر من الليل.

انتقلت أسأل التلاميذ في المقعد الخلفي، وقلت لأحد التلاميذ: وأنت ماذا بشأن علاماتك المتدنية؟ أجابني إن أمه توفيت ووالده تزوج ولا أحد يهتم به وبإخوته. 

انتقلت لطالب كان مجتهداً ومتفوقاً اسمه عماد، وسألته: لماذا تراجع مستواك الدراسي؟ وما سبب غيابك الشهر الماضي عن المدرسة؟. فأجاب كنت في قطاف الزيتون مع أهلي في عفرين. سألت الذي يجلس بالقرب منه في المقعد ذاته نفس السؤال واسمه بلال قال: كنت أعمل مع أسرتي بتكسير الجوز من الصباح حتى المساء، وليس لدينا وقت للراحة أبداً.

دمعت عيني وانفطر قلبي عليهم.

انتقلت إلى طالب جديد في الصف، وصل حديثاً منذ ما يقارب 3 أيام اسمه أحمد من دمشق لم يكن يملك، وثيقة علامات (جلاء)، وكان طالباً ذكياً ومتفوقاً، لفت نظري منذ اليوم الأول فهو يحفظ 6 أجزاء من القرآن الكريم.

كان ينقل بعض الدروس من السبورة، وكنا في درس اللغة الإنكليزية، كان يبكي، فظننت أنه يبكي لأنه لم يحصل على علاماته النهائية، فقلت له في الغد سأعطيك وثيقة علاماتك (جلاء) فقال صديقه هو يبكي لأنه لا يعرف اللغة الإنكليزية ولم يدرسها سابقاً لأنه كان يعيش في السعودية، ووالده توفي منذ 3 سنوات ولم يبق لهم معيل أو كفيل، وأجبروا على القدوم إلى تركيا، ودخلوا إلى سوريا وسكنوا في المخيمات، والولد لم يحضر أي درس في اللغة.

واقع مرير جداً وظروف قاسية، وأيام صعبة لا تنسى وأحوال تبكي الحجر وجروح لا تندمل، وقلوب لا تجد من يجبر كسرها وحرب لا تعرف نهايتها، وفي كل حقيبة يحملها الطالب على ظهره تجد قصة مؤلمة تثقل كاهله بدل الكتب، والأقلام.

المعلمة رجاء الحراكي وهي متطوعة في مدرسة من مدارس ريف حلب، تقول: كنا معينين في مدارس ريف إدلب الشرقي ولكن القصف الشديد على المنطقة أجبرنا على الانتقال الى ريف حلب وأجبرنا على العمل بشكل تطوعي وفي حال رفض المعلم العمل يفقد حقه في التعيين ويمحى رقمه الذاتي من سجلات التربية ما يجبر المعلم على القبول بالعمل بشكل تطوعي أو سيكون مجبراً على إعادة المسابقة وقد يفقد فرصته.

وتضيف الحراكي: ونتيجة الدعم الذي استهدف بعض المدارس، وتم بشكل عشوائي فلدينا منظمات تقدم 120 دولاراً راتباً للمعلم وأخرى تقدم 170 دولاراً ومنظمات منحتها 150 دولاراً واليوم نقدم خدماتنا في التعليم كمتطوعين ونتيجة لظروف النزوح تحملنا أعباء إضافية مثل إيجار منزل وغير ذلك.

أعمل في مدرسة تضم 750 طالباً وطالبة ينقسمون على فوجين أحدهما للذكور والآخر للإناث من الصف الأول حتى الصف التاسع والمعلمون يعملون بشكل تطوعي من الشهر السابع 2020 ولدينا معلمون يأتون من مناطق بعيدة، إما باستئجار سيارة مغلقة، أو سيراً على الأقدام.

أما المعلم مروان وهو مدرس من إدلب فيقول: المدرسة تعمل بشكل تطوعي منذ بداية الفصل الأول لا يوجد لها داعم وتفتقر إلى جميع وسائل التعليم من قرطاسية وكتب وألعاب، وأقلام للكتابة على السبورة، ودون أن يتلقى المعلم أي أجر كان، وهذا الشيء حتماً ينعكس على مستوى الطلاب وتعليمهم وهناك فرق بين معلم يكون مشغولاً بالتدريس، ومعلم مشغول بتأمين أبسط مقومات الحياة لأسرته ولنفسه، وطبعاً هذا واقع أغلب المدارس في المخيمات.

في مكان آخر، يروي الأستاذ بشار وهو مدرس في إحدى مدارس المخيمات التابعة لمنطقة أطمه في الشمال السوري: أنا متطوع منذ عام كامل حيث كانت المدرسة تتلقى دعماً من منظمة وطن في العام الماضي، وبعض زملائي يأتون من مناطق بعيدة ويتركون أسرهم دون قوت يومهم، وقد وصل الأمر بأحد المعلمين أن باع قطعة من أثاث منزله حتى يشتري مادة البنزين لدراجته الآلية، فهو يسكن في سرمدا بعيداً عن المدرسة التي يعمل بها في المخيم بمسافة 25 كم، وقد تخلت المنظمات عن دعم بعض المدارس بشكل نهائي، ويقتصر الدعم على مدارس معينة، أو حلقة دون أخرى، وحتى الدعم المقدم، يعتبر ضعيفاً جداً مقارنة مع ارتفاع الأسعار الفاحش.

وحدثنا الأستاذ بشار عن فقر المدارس بالكتاب المدرسي والوسائل التعليمية والقرطاسية، وتوقف المنظمات والجهات الداعمة عن تقديم المنح ما سينعكس سلباً على الطلاب بالدرجة الأولى، وعلى الوضع المعيشي للمعلم بالدرجة الثانية وبالتالي تعاني المدارس من انعدام الكادر التدريسي المؤهل بسبب عدم وجود الدعم المادي. 

يضيف المعلم: ولا ننسى الأثر السلبي على طلابنا حيث تم تغيير ثلاثة معلمين خلال شهر واحد في أحد الصفوف نتيجة عدم وجود دعم ما يجبر المعلم على ترك العمل، والبحث عن مدرسة تتلقى دعماً، حيث أن المعلم يأتي من مسافات بعيدة، وعندما يعلم أن المدرسة غير مكفولة، ونتيجة ضيق المعيشة فإنه يتخلى عن العمل، وهذا سبب فشلاً كاملاً في قطاع التعليم، ونتيجة لهذا الوضع دخل الطالب في حالة تشتت ذهني جراء تبدل المعلم ما أضعف مستواه الدراسي.

ويستدرك بشار: مدرستنا يرتادها ألف طالب وطالبة على فوجين من الصف الأول إلى الصف التاسع، وفي كل فوج يوجد 30 معلماً حيث كنا نتلقى الدعم من منظمة وطن، وقد توقف المشروع التعليمي وحالياً المدرسة غير مكفولة.

يرى بشار أن الحل بيد المنظمات الإنسانية التي تقدم الكثير من الدعم لمشاريع إنسانية أخرى، وتكرس مبالغ كبيرة لمشاريع الدعم النفسي وغيرها، والتعليم له أهمية كبرى حيث أنه يرقى بالمجتمع الانساني بجوانبه كافة، والحكومات يقع عليها دور تأمين دعم مادي لقطاع التعليم من خلال إيرادات المعابر، ومن خلال فرض نسبة معينة أو كتلة مالية على المنظمات الإنسانية التي تقدم خدمات في مجالات غير التعليم.

تحدثنا مع الأستاذ أنس قاسم مدير تربية حلب الذي قال: إن منظمة مناهل كانت تغطي الحلقتين الأولى والثانية وفي حال تم إحداث مدرسة جديدة نرفع اسمها ويتم دعمها ولكن للأسف في العام الدراسي الماضي في بداية عام 2019 و2020 توقف الدعم عن الحلقة الثانية وكان تبرير المنظمة أن شركائهم الداعمين قد أوقفوا الدعم وتم توجيه الدعم للحلقة الأولى وتخلوا عن الحلقة الثانية والثانوي وباشرنا الدراسة في العام الماضي واستمر معلمو الحلقة الثانية والثانوي بعملهم تطوعاً، وأكملوا العام الدراسي دون أي دعم من أية جهة وفي العام الحالي 2020 و2021 استمرت المنظمة على وضعها في دعم الحلقة الأولى، وبقيت الحلقة الثانية بدون دعم فقامت إحدى المنظمات (سيريا رليف) بتقديم منحة 200 $ في أول العام للمعلمين المتطوعين وحتى اللحظة لم يتلق المعلمون أية مساعدة أو التزام وقمنا بالتواصل مع عدة جهات مانحة، ولكن للأسف بدون أي نتيجة.

في بداية العام كانت التربية تطلق وعوداً للمعلمين، قامت التربية بإبلاغ مدراء المدارس أنه مع بداية الفصل الثاني سيكون هناك دعم، وكلها كانت وعود من الجهات المانحة، ونتيجة لتأخر الجهات المانحة بالإيفاء بتعهداتها قام المعلمون بالتواصل مع بعضهم ونظّموا إضراباً. 

قام مدير تربية حلب الحرة بجولات على عدة مدارس وكانت كلها مغلقة بشكل كامل بسبب عدم تلقي المعلمون رواتب ما دفعهم إلى القيام بهذا الإضراب، الذي دفع مدير التربية للتواصل مع عدة جهات مانحة بالإضافة لمنظمات إنسانية تعمل في مجال التعليم كما تواصل مع وزارة التربية ولم يتلق أي استجابة أو تعاون.

وأضاف الأستاذ أنس قاسم لنينار برس:

نحن عاجزون كمديرية عن تغطية النفقات لأن قطاع التربية قطاع مستهلك ويحتاج إلى دعم كبير، مع العلم أننا في مديرية حلب لدينا أكثر من 500 معلم متطوع، والأوضاع كارثية وبالنسبة للكتب تم توزيع الكتاب المدرسي بنسبة 100% ولن يبقى طالب دون كتاب، لقد تم منح الدعم للكتاب المدرسي عن طريق قطر الخيرية، ولا يزال التوزيع مستمراً ليشمل كل المدارس على مستوى الحلقتين الأولى والثانية.

وأضاف مدير تربية حلب: إن المديرية تحمل الجهات الرسمية كامل المسؤولية ونحن وصلنا إلى مرحلة بتنا معها عاجزين عن تقديم أي دعم للمعلمين، وحمل المنظمة الداعمة مسؤولية مشروع الحماية والمكتبة حيث تعتبره المنظمة خطاً أحمر لا يمكن الاستغناء عنه لأنه من ضمن المشروع، ونحن لن نتدخل حتى لا نوقف الدعم عن الحلقة الأولى، وبالنسبة للراتب فكرنا في تشكيل صندوق تكافل، وقلنا بدل أن يأخذ المعلم 120$ في الحلقة الأولى فليأخذ 70$ ويضع 50$ في صندوق التكافل من أجل معلمي الحلقة الثانية، ولكن ونتيجة حصول المعلمين على البريد الإلكتروني للمنظمة قاموا برفع شكاوى للمنظمة تتعلق بصندوق التكافل. 

وقال الأستاذ أنس: إن المنظمة رفضت الأمر رفضاً قطعياً، ونحن من خلال العقد المبرم مع منظمة مناهل تم الاتفاق على بند يمنعنا من اقتطاع أي جزء من المنحة المقدمة للمعلم، ونحن لا نملك صلاحية الضغط أو إجبار المعلمين على الاشتراك بصندوق التكافل، بالمقابل تواصلت مديرية تربية حلب مع الحكومة المؤقتة، وطلبنا منهم تأمين سلة إغاثية للمعلمين المتطوعين، ولم نتلق أي رد من المسؤولين المختصين بمجال التعليم، وقطاع التربية بحاجة لدعم ورعاية واهتمام أكبر من الجهات الراعية والقادرة على تمويل قطاع التربية والتعليم كمنظمات اليونيسف والأمم المتحدة ولو أننا خصصنا 100$ لكل معلم متطوع فسيكون المبلغ 50000$ وهو مبلغ كبير حقيقةً ولكن بإمكان المؤسسات الفاعلة والكبيرة تبني المبلغ والقطاع بكامله.

إذا كانت هذه معاناة طلابنا ومعلميهم فما بال وزارة التربية تصم الآذان عن سماع تنهدات المعلمين، وصرخات أولياء الأمور وإلى متى ستبقى المنظمات، والجهات الداعمة تغض الطرف، والكل يضع في أذنه قطعة من طين، وفي الأخرى قطعة من عجين وكأن الأمر بات لا يعنيهم.

كنا فيما مضى طلاباً نردد قم للمعلم وفه التبجيل/ كاد المعلم أن يكون رسولا.

ولكن اليوم، لسان حال الطالب ينعي حاله، وحال معلمه فلم يعد يحمل الطالب كتباً وأقلاماً، ولم يعد معلمه يحمل حقيبة لوثتها أصابع الطباشير الملون، فكلاهما بات يبحث عن لقمة مبللة بالدموع.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني