حول طبيعة المأزق البنيوي في سياسات السيطرة الإقليميّة الأمريكية!
الجزء الأوّل:
أولاً: مقدمة:
رغم كلّ ما كشفته الحروب الإقليميّة المستمرّة منذ الثامن من أكتوبر 2023 من حقائق، خاصة تناقض أهداف الحرب العدوانية الإسرائيلية السياسية في غزة والضفة ولبنان وسوريا مع سياسات إدارة الولايات المتّحدة الديمقراطية، مازالت تعبيرات العقلية السياسية المسيطرة ترفض رؤية الوقائع – وما توجّبه من ضرورات البحث عن أسباب التناقض الواقعية في مصالح وسياسات السيطرة الإقليميّة التشاركية الأمريكية، وكيفيّة تجييرها لمصلحة نضال شعوب المنطقة التحرري الديمقراطي. من نافل القول أنّ عقلية “تطابق المصالح” التي تعبّر عنها فكرة “التحالف الأمبريالي الصهيوني” من جهة النخب المؤدلجة، و دعاية “أولوية الأمن القومي الإسرائيلي” في خطاب المسؤولين الأمريكان، تمنعان رؤية الفارق النوعي في مصالح وسياسات الدولتين الحليفتين عندما ترتبط العلاقات بما بات رأس أولويات السياسات الأمريكية تجاه الإقليم منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي – توفير شروط تمدد أذرع ونهج مشروع السيطرة الإقليمية الإيراني، علما أنّ هذا التناقض الخاص لم يقتصر على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بل وشمل علاقات واشنطن بمرتكزات سيطرتها التاريخية السابقة لمرحلة إطلاق المشروع الإيراني – خاصّة تركيا والسعودية.
بناء عليه، أعتقد أنّه ستكون أولوية إدارة ترامب حماية شبكة أذرع النظام الإيراني في سوريا والعراق واليمن وطهران؛ ولا يضعف من واقعية هذا الاستنتاج أنّه سيكون مضطرا للاعتراف لإسرائيل (دون تركيا والسعودية، لأسباب ترتبط بطبيعة أوراق القوّة الإسرائيلية الداخلية وليس بحاجة الولايات المتّحدة لدور إسرائيلي إقليمي “إيدولوجي” مزعوم!) بالوقائع الجديدة التي صنعتها آلة الحرب الإسرائيلية رغما عن إنف إدارة بايدن، وما أدّت إليه من تآكل مرتكزات المشروع (الإيراني في فلسطين، ولبنان وسوريا)، وأنّ اعترافه سيكون على حساب مصالح الشعب الفلسطيني المنكوب، الذي أجهض آماله السياسية بحل الدولتين منذ 1995 تقاطع سياسات ونهج اليمين الصهيوني و الإسلاموي!.
أمّا كيف ستفعل ذلك، صوناً لأهداف وآليات مشروع سيطرتها الإقليميّة بالدرجة الأولى، فهذا ما أحاول معرفته في دراستي التالية التي أسعى في أجزائها المتتالية لكشف ما باتت حقائق موضوعية، ومرتكزات عسكرية وسياسية ميليشاوية، شكّلت موضوعيا وذاتيا، حربيّا وسياسيا، “حلقات نار” على تخوم وفي مواجهة منافسي وخصوم المشروع الإيراني – الأمريكي الأقوى – إسرائيل وتركيا والسعودية – وترسّخت قواعدها في تكامل سياسات وجهود نظام الملالي والولايات المتّحدة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بالاعتماد على أدوات ووكلاء، باتوا في السياق والصيرورة، سلطات أمر واقع محلية، على نموذج القيادة المركزية في طهران.
لا شك في أن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة يعني أن تحولاً سيطرأ على سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط. لكن التساؤلات الملّحة التي ينبغي على الوعي السياسي النخبوي الديمقراطي والوطني، محاولة مقاربة إجابتها الموضوعية تبقى:
إلى أيّة درجة سيكون هذا التحوّل الإيجابي لصالح قضايا شعوب فلسطين وسوريا ولبنان ممكنا من منظور المصالح والسياسات الاستراتيجية في مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية التشاركية، وهل سيكون كافياً وحاسماً لإيجاد حلول جذرية للمعضلات التي نتجت أصلا عن آليات السيطرة الإقليميّة التي تمارسها الولايات المتّحدة منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي؟
هل يُدرك ترامب شخصياً طبيعة أسباب ومستويات الأزمة المركزية في الإقليم، وما نتج عنها من تهديدات باتت تطال الأمن القومي لجميع دول الإقليم المركزية – إيران وإسرائيل وتركيا والسعودية، بعد تفشيل العراق ولبنان وسوريا واليمن…؟
هل يدرك هذا الرئيس الاستثنائي طبيعة الفرص المتاحة لإيجاد حلول شاملة أو جزئية، مؤقّتة أو استراتيجية؟
في ضوء إنجازات وإخفاقات فترة حكمه الأولى (2016-2020) يمكن الاعتقاد أنّه حتى الآن لا يبدو أن هناك مؤشرات تدلّ على امتلاك ترامب إدراكاً كافياً لطبيعة التحدّيات الاستراتيجية التي تواجهها سياسات واشنطن في علاقاتها الإشكالية مع “حلفائها” من جهة أولى، ولا الفرص الاستراتيجية المتاحة لإيجاد حلول، من جهة ثانية؛ وهو ما يوضّح طبيعة أهميّة الطاقم الحكومي التنفيذي الذي سيعمل على تشكيله في رسم سياسات واشنطن الإقليميّة، وآليات تنفيذها!
ثانياً:
1- في طبيعة مأزق سياسات الولايات المتّحدة البنيوي!
بعيداً عما تصنعه وتروّجه أبواق مراكز البحوث ووسائل صناعة الرأي العام من ثقافة سياسية غير موضوعية تسعى بالدرجة الأولى لتغييب حقائق أهداف وطبيعة أدوات سياسات السيطرةالإقليميّة الأمريكية، تبيّن الوقائع المادية أنّ المعُضلة المركزية التي تواجه إدارة ترامب مركبّة، و تأتي على عدّة مستويات استراتيجية، تتمثّل بشكل رئيسي في مواجهة عواقب ما نتج عن آليات تنفيذ أهداف مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية الإيرانية التشاركية (الذي وضعت خططه وأطلقت صيرورته إدارة كارتر الديمقراطية منذ النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي)، سواء على مستوى مواقع “حلقات النار” على تخوم الدول المركزية (تركيا والسعودية وإسرائيل)، أو على مستوى ما نتج عن تكريس أدواتها الميليشياوية في سلطات أمر واقع من عواقب تفشيل الدولة الوطنية في العراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة (حل الدولتين)، وقد شكّل تاريخياً وراهناً أكثرها فاعلية حماس وحزب الله والحوثي و حزب العمال الكردستاني التركي قبل 1999، وجناحه المتمركز في قنديل، وفرعه السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني!.
٢- في طبيعة الحل الاستراتيجي!
بناءً على تحديد جوهر وتمظهرات مأزق السياسات الأمريكي الإقليمي، ينبغي أن تتخذ خطوات وإجراءات الحل المعاكس ( في حال حصول قرار استراتيجي في واشنطن!) خارطة طريق أمريكية، بأدوات العصا والجزرة المناسبة، وبالتنسيق مع شركاء الولايات المتّحدة الأوروبيين والدوليين، تتضمّن خطوات وإجراءات تفكيك الأذرع العسكرية والسياسية لقواعد حلقات النار بدءا من مركزها الرئيسي في إيران، ومرورا في العراق وسوريا ولبنان، واليمن، لصالح سيطرة مؤسسات الدولة الوطنية الديمقراطية المركزية!.
من نافل القول أنّ في تنفيذ خطوات وإجراءات هذا الحل الاستراتيجي استحالة، طالما تجد الدولة العميقة التي تقف خلف سياسات واشنطن في الكونغرس والبيت الأبيض أنّ في هيمنتها على الإقليم إحدى أهم مرتكزات سيطرتها الإمبريالية العالمية، وطالما تجد في قطع مسارات التحوّل الديمقراطي وتفشيل دوله أفضل شروط تثبيت وديمومة آليات هيمنتها التشاركية!.