fbpx

حول إشكالية التجربة الناصرية

0 741

ثمة وجهة نظر منتشرة بكثرة بين النخب الديموقراطية واليسارية بشكل عام، لدرجة تبدو معها كأنها من المسلمات في التحليل السياسي للظاهرة المعنية وذلك دون أن يتم إخضاعها للتدقيق والفحص، وتتمثل في النظر إلى التاريخ الحديث للمنطقة انطلاقاً من معطيات الحاضر، في نظرة ارتجاعية قوامها التأسيس والردح على التجربة الديموقراطية المغدورة بفعل الانقلابات العسكرية التي قامت في كل من سوريا ومصر والعراق وغيرها، وتحميل هذه الأنظمة (أنظمة البورجوازية الصغيرة) وخاصة نظام عبد الناصر باعتباره المؤسس لهكذا أنظمة، المسؤولية الكاملة عما جرى، وتتمثل هذه النظرة في اعتبار أن أساس الخراب والكوارث التي حلت ببلداننا إنما يكمن بأنظمة الاستبداد التي حكمت هذه البلدان لفترات مديدة امتدت من خمسينيات القرن الماضي حتى مطلع الألفية الجديدة، وأن غياب الديموقراطية هو السبب الرئيسي لكل الهزائم التي منيت بها شعوبنا على الصعد والمستويات كافة، وبما أن عبد الناصر كان المؤسس لأول نظام استبدادي في المنطقة، يكون بالتالي هو المؤسس والمسؤول عن كل الأوضاع المزرية التي وصلنا إليها، تتسم هذه النظرة في تقديري بالاستعجال في إصدار الحكم ، كما تتسم بمحاكمة الماضي على ضوء الحاضر ومعطياته وذلك بقطع ذلك الماضي عن سياقه التاريخي، كما أنه ليس من الصعب اكتشاف المنطق الصوري (الأرسطي) الكامن خلفها، هذا المنطق الذي تجاوزه الزمن ولم يعد يصلح لتحليل وفهم الظواهر الاجتماعية والتاريخية المعقدة عبر اختزالها إلى مقدمة كبرى ومقدمة صغرى لنستخلص من اجتماعهما النتيجة أو الحكم، وهذا ما سوف نستعرضه بالتفصيل.

وثمة وجهة نظر أخرى ترى إلى التجربة الناصرية باعتبارها إشكالية حسب تعبير الباحث المصري الدكتور رفعت السعيد، بمعنى أنه ليس من السهولة على الباحث أن يحدد موقفاً واضحاً وحاسماً منها سواء كان سلباً أم إيجاباً، هل هي اشتراكية أم رأسمالية؟، ديكتاتورية أم ديموقراطية؟، انقلاب عسكري أم ثورة؟، تتسق مع منطق التاريخ، أم تقطع معه وتصادره؟… الخ، إنها إذن عصية على الضبط والتحديد وهنا بالضبط مصدر إشكاليتها. وفي تقديري فإننا لكي نفهم ما حدث في 23 يوليو/ تموز عام 1952 لابد من البحث في الأوضاع والشروط العامة التي عاشتها مصر والمجتمع المصري  قبل هذا التاريخ، وذلك للإجابة عن الأسئلة التالية: 

– هل كان صعود البورجوازية الصغيرة إلى السلطة عن طريق الجيش في مصر أمراً حتمياً؟ وما هي الخيارات الأخرى المتاحة في تلك اللحظة التاريخية؟.

– لماذا فشلت البورجوازية المصرية في تقديم برامج واقعية للمسألتين الاجتماعية والوطنية؟.

– هل كان الخيار الديموقراطي واقعياً وقابلاً للاستمرار، وما هي حوامله الاجتماعية؟.. الخ، ثمة أسئلة كثيرة إذن، يتعين على الباحث تقديم إجابات عليها قبل إطلاق الأحكام على هذا الطرف أو ذاك.

مقدمة نظرية

تمحورت نضالات شعوبنا منذ أن دخلت بلداننا العصر الحديث حول ثلاثة مسائل أو قضايا أساسية هي: المسألة الوطنية، والمسألة الديموقراطية، والمسألة الاجتماعية، التي هي في الحقيقة ثلاثة وجوه لقضية واحدة هي قضية التقدم واللحاق بركب الحضارة السريع، وبالتالي فإن هذه القضايا لم تظهر بشكل منفصل أو متجاور وإنما هي مترابطة ترابطاً جدلياً بحيث أن أي تقدم في إحداها سينعكس إيجاباً على القضايا الأخرى والعكس صحيح كذلك، أي أن التركيز على إحدى هذه القضايا وإهمال الأخريات سيؤدي بالنتيجة إلى تراجع في القضايا الثلاث، مع ذلك نود التأكيد على الطابع النسبي لهذا الترابط، فكون القضايا الثلاث وجوهاً لقضية واحدة لا يعني أن هذه القضايا ظلت مطروحة معاً وبنفس الحدة في كل مراحل التاريخ الحديث، وإنما كانت تتقدم إحداها لتحتل مركز الصدارة، بينما تتنحى الأخرى أو الأخريات جانباً، وذلك وفقاً للظروف والشروط التي تحددها المرحلة التاريخية المعنية، فعلى سبيل المثال فإن وجود قوات محتلة أو غازية لبلد من البلدان كان يدفع بالمسألة الوطنية إلى الصدارة لتغدو القضية المركزية لهذا البلد أو هذا الشعب، بينما كانت المسألة الاجتماعية تتقدم لتصبح القضية المركزية وذلك عند وجود تناقض اجتماعي حاد بين طبقتين (الإقطاع والفلاحين) مثلاً، وبالمثل فإن المسألة الديموقراطية كانت تقفز إلى موقع الصدارة عند وجود ديكتاتورية أو استبداد يهدر قيمة الإنسان وكرامته.

عرض تاريخي

وبالانتقال من المجرد إلى الملموس وهو هنا الحالة المصرية سنجد ما يلي: قام محمد علي باشا الذي حكم مصر بين عامي (1805-1848) بأول وأهم مشروع تحديثي لمصر، بعد أن استقل عن السلطنة العثمانية وكاد أن يسقطها لولا تدخل الدول الغربية، حيث استطاع أن ينهض بمصر على الصعد كافة، العسكرية والتعليمية والصناعية والزراعية والتجارية، وقد تم إجهاض هذا المشروع من قبل القوتين العظميين في ذلك الزمن فرنسا وبريطانيا، وتجدر الإشارة إلى أنه حتى ذلك التاريخ لم تكن اليابان قد بدأت نهضتها الحديثة بعد. 

بعد هزيمة مشروع محمد علي تولى السلطة أبناؤه الذين كانوا ضعافاً يأتمرون بأمر القنصل الإنكليزي وينسقون معه في كل كبيرة وصغيرة، قام محمد علي بتأسيس الجيش المصري وتسليحه بأحسن السلاح، ليصبح الجيش منذ ذلك التاريخ أهم وأكبر مؤسسة حديثة في مصر، الأمر الذي سيخوله للعب دور مهم في تاريخ مصر الحديث، فمنه انطلقت ثورة أحمد عرابي عام 1881م، التي كانت ذات طابع وطني ديموقراطي، حيث كان الصاعق الذي فجرها هو التمييز في الترقيات داخل الجيش بين الضباط المصريين من جهة والضباط الأتراك والشراكس من جهة أخرى لصالح هؤلاء الأخيرين، إلا أنها لم تتوقف عند مطلب المساواة في الترقية والمعاملة بل طالبت بوضع دستور عصري للبلاد، وقد شارك فيها الشعب إلى جانب الجيش، وكاد الخديوي يذعن لمطالب الثوار لولا المذكرة الفرنسية/البريطانية التي حثت الخديوي على رفض مطالب الثوار وقدمت له الدعم والتأييد، وحين شعرت بريطانيا بضعف الخديوي وعدم قدرته على مقاومة الثورة تدخلت بقواتها البحرية والبرية ، ليبدأ الاحتلال الإنكليزي لمصر الذي دام أربعة وسبعون عاما (1882-1956)، كانت ثورة عرابي المحاولة المصرية الثانية للنهوض واللحاق بركب التقدم بعد محاولة محمد علي، ولكن هذه المرة بقيادة مصرية وبجهود أبناء مصر الأصلاء، وكان مصيرها مثل مصير سابقتها وهو الفشل بفعل التدخل العسكري المباشر للقوى الأوروبية أيضاً (بريطانيا).

أما المحاولة الثالثة فكانت ثورة 1919م بقيادة سعد زغلول، والتي تركزت مطالبها حول استقلال مصر وجلاء قوات الاحتلال الإنكليزي عن أرض مصر، كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت بفوز الحلفاء، وانعقد مؤتمر باريس للسلام، وحاولت القوى الوطنية المصرية المشاركة في هذا المؤتمر لتمثيل مصر والحصول على الاستقلال، إلا أن الحكومة البريطانية رفضت السماح لأعضاء الوفد المصري بالسفر خارج مصر، ما أدى إلى اندلاع الثورة، التي استمرت ثلاث سنوات، انتهت بإعلان التاج البريطاني استقلال مصر شكلياً، إلا أن القوات البريطانية بقيت جاثمة على الأراضي المصرية، وظلت مصر بالتالي منقوصة السيادة، أي أن الثورة لم تستطع تحقيق المطلب الأساسي الذي كان استقلال مصر الناجز والكامل.

وكان من نتائج الزخم الوطني الذي أثارته ثورة 1919 إنشاء أول بنك مصري، بمبادرة من الاقتصادي المصري الشهير محمد طلعت حرب، في نيسان/أبريل 1920، مع العلم أنه جرت محاولات سابقة للقيام بهكذا خطوة، كانت تعارضها بريطانيا بشدة، لكنها رضخت هذه المرة أمام الضغط الجماهيري العارم الذي شكلته الثورة، مع العلم أنه قبل إنشاء البنك كان البنك الوحيد المتحكم بالاقتصاد المصري هو البنك الأهلي التابع لبريطانيا. استطاع طلعت حرب إقناع عدد كبير من مزارعي القطن الذين كانوا يبيعون أقطانهم لبريطانيا ثم يحولون أثمانها إلى مدخرات، بأن يجمعوا مدخراتهم لتأسيس بنك وطني، وأن هذه الخطوة سوف تدر عليهم أرباحاً كبيرة، وكان هدفه الأساسي هو توظيف هذه المدخرات في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمصر، وقد بلغ عدد المكتتبين 126 مساهماً برأسمال ابتدائي قيمته ثمانون ألف جنيه. سرعان ما توسع نشاط البنك، حيث قام بإنشاء عشرات الشركات في مختلف المجالات الاقتصادية كالنقل البحري والنقل الجوي والصناعات النسيجية وقطاع التأمين وقطاع التعدين والمناجم وقطاع السينما وغيرها.

أحست بريطانيا بخطورة تعاظم دور البنك فقامت بمحاصرته واختلاق العديد من المشكلات له، وحين لجأ طلعت حرب إلى الحكومة المصرية للمساعدة، اشترطت الحكومة التي كانت تنسق مع البريطانيين استقالة طلعت حرب من إدارة البنك لتقديم المساعدة، فقدم استقالته من إدارة البنك عام 1939 ثم توفي عام1941 بعد أن لاحظ تدهور أوضاع البنك بسبب سوء الإدارة والفساد، وكانت هذه هي المرة الرابعة التي تتدخل فيها بريطانيا لإعاقة تطور البورجوازية المصرية وتقدمها، الذي يعني تطور وتقدم مصر في ذلك الحين.

ساهم بنك مصر والشركات التي أسسها في مختلف القطاعات الاقتصادية المصرية وخاصة الصناعية منها، في اتساع ونمو الطبقة العاملة الصناعية المصرية، وتركزها في المدن الصناعية الكبرى، كالقاهرة والاسكندرية والمحلة الكبرى والاسماعيلية والسويس وغيرها، وذلك على الصعيدين الكمي والنوعي، فازداد حضورها في المشهد السياسي المصري، بالتوازي مع الوهج الفكري والسياسي الذي أثارته ثورة أكتوبر البلشفية، ( تأسس الحزب الشيوعي المصري عام 1922)، وأدى إفلاس البنك بسبب التآمر البريطاني/الفرنسي عليه والضغوط التي تعرض لها إلى توقف العديد من الشركات المرتبطة به عن العمل، الأمر الذي أدى إلى خسارة آلاف العمال لمورد عيشهم الوحيد، وفاقم من حدة البطالة التي كانت موجودة أصلاً، وقد أدت مجمل هذه الظروف مجتمعة إلى نشوء حركات احتجاجية مطلبية ووطنية في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي يصفها الدكتور رفعت السعيد بالقول: “وهنا في الأربعينات تبلورت التنظيمات الشيوعية وصارعت وتصارعت وعاشت – كأي كائن دافق الحيوية – الحياة بطولها وعرضها، وأقامت مصر وأقعدتها معلنة بأعلى صوت راية البروليتاريا المستقلة”  (رفعت السعيد – الصحافة اليسارية في مصر – ص 7)

“ولم يكن قد مضى على بداية الأربعينات سوى ست سنوات حتى كانت مصر كلها تنفجر ثورة ضد الاستعمار وضد الرجعية ومن أجل الديموقراطية وحقوق الشعب، وقد تفجرت ولأول مرة في ظلال قيادة جديدة نواتها الأساسية الشيوعيون وهي (اللجنة الوطنية للطلبة والعمال” (نفس المصدر ص-8).

استمرت الاحتجاجات والإضرابات والمظاهرات بين مد وجزر طيلة أعوام نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وتعاملت معها حكومة إسماعيل صدقي بمنتهى الشدة، فأصدرت قانوناً غير دستوري لمكافحة الشيوعية، كانت البورجوازية المصرية بمنتهى الضعف إثر الضربة التي تلقتها من بريطانيا، فقامت بالتراجع عن المنجزات الديموقراطية، ولجأت الحكومة إلى العنف بشكل متزايد لمواجهة الحركة المتصاعدة في الشارع المصري.

استنتاجات

عرجت في هذه العجالة على المحطات الرئيسية في تاريخ مصر الحديث قبل ثورة 23 يوليو، وحاولت التركيز قليلاً على الفترة التي سبقت الفترة الناصرية لإظهار جملة الأوضاع والخيارات التي كانت متاحة بهذا القدر أو ذاك في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ مصر الحديث، وفي قراءتنا لهذا التاريخ نستنتج ما يلي:

1- ظلت المسألة الوطنية تحتل موقع الصدارة في مجمل المحطات التاريخية التي مر بها تاريخ مصر الحديث ( وتاريخ المنطقة بوجه عام)، وكانت هذه المسألة متراكبة مع المسألة الاجتماعية، وذلك بحكم انتماء معظم الملاك العقاريين وأصحاب العزب وأصحاب الرساميل إلى فئات غير مصرية من أتراك وشراكس وألبان وغيرهم، بينما شكل المصريون الأصلاء عموم طبقة الفلاحين، ثم جاء الاحتلال الإنكليزي لمصر ليعمق حضور المسألة الوطنية ويزيدها حدة، وكما لاحظنا فإن الصاعق الذي فجر ثورة عرابي هو قضية التمييز في الترقيات بين الضباط المصريين والضباط الأغراب، وحتى المطالب الديموقراطية التي طالب بها عرابي كإقرار دستور وتشكيل جمعية تأسيسية إنما جاءت لتكريس وضع دستوري يتساوى فيه الجميع أمام القانون والدستور(إلغاء الامتيازات الممنوحة للأجانب).

2- أن كل مشاريع التحديث والنهوض التي قامت بها البورجوازية المصرية قد تم إجهاضها من قبل القوى الغربية، من خلال شتى أشكال التدخل السياسي والاقتصادي والعسكري المباشر، كان على البورجوازية المصرية لكي تنجح في مشروعها بتحديث مصر أن تقيم وتفرض سلطتها الخاصة (ديكتاتوريتها) على أرضها وسوقها الوطني، هذه السلطة التي من المفترض بها أن تكون موجهة ضد القوتين الرئيسيتين الكابحتين لمشروعها، وهما سلطة الاحتلال البريطاني من جهة، وطبقة الإقطاع من جهة ثانية، كان عليها أن تخلع الطربوش وما يمثله من منظومة قيم وأفكار وتقاليد وعادات ومصالح كما فعل أتاتورك في تركيا، لكنها لم تفعل، وما كان في مقدورها أن تفعل؛ وذلك بسبب عمق العلاقة التي كانت تربطها مع طبقة الإقطاع، وكان عليها أن تعتمد في نضالها ضد الاحتلال على طبقة الفلاحين من خلال تثوير هذه الطبقة ودمجها بمشروعها الوطني، لكنها لم تفعل أيضا لنفس السبب، لقد أدركت هذه البورجوازية أهمية أن تقيم سلطتها وتسيطر على سوقها، لذلك حاولت المستحيل من أجل تحقيق استقلال مصر وجلاء القوات الأجنبية عنها، لكنها اعتمدت أسلوب المطالبة والاستجداء والضغط، الذي لا يصل إلى حد المواجهة الشاملة مع الاحتلال، وراهنت على مساعدة القوى الأوربية الأخرى لتحقيق هذا الهدف كفرنسا وألمانيا، ورفضت الثورة كأسلوب وأداة في الوصول إلى هدفها، ومن يراجع وثائق الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل ومحمد فريد بعد هزيمة ثورة عرابي ودخول قوات الاحتلال البريطاني أرض مصر، هذا الحزب الذي قاد العمل الوطني في تلك الفترة، ومهد التربة لانبثاق ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، سيجد موقف الحزب الرافض لفكرة الثورة بما هي ممارسة العنف للوصول إلى الهدف، الأمر الذي تجلى في موقفه من ثورة عرابي؛ إذ اعتبرها ثورة رعاع وفوضويين وجلبت الويلات لمصر!!!، وهنا تكمن مأساة البورجوازية المصرية والعالمثالثية بشكل عام، ذلك أنها لم تدرك استحالة التطور الرأسمالي الكلاسيكي على الطريقة الأوربية بعد أن وصلت الرأسمالية الأوربية إلى مرحلة الإمبريالية، وأنه لا سبيل إلى التطور والتقدم إلا بالمواجهة مع هذه الإمبريالية.

3-إن فشل ثورة 1919 في تحقيق استقلال مصر كان مرده في تقديري إلى عدم قدرة البورجوازية المصرية على تحشيد القوى اللازمة لانتصار الثورة، بالتوازي مع شراسة المحتل البريطاني وإصراره على البقاء في مصر، وبشكل خاص عدم القدرة على جذب طبقة الفلاحين إلى ساح النضال الوطني، لعدم تبني حل واضح للمسألة الزراعية، يتمثل في شعار( توزيع الأراضي على الفلاحين)، وذلك بالضبط بسبب تحدرها من طبقة الإقطاع وتحالفها معها كما أسلفنا، بل نستطيع القول بسبب الشراكة  البنيوية بينهما حيث كان معظم الرأسماليين المصريين يملكون أراض واسعة، وقد حرصت بريطانيا على تشجيع الرأسماليين المصريين للاستثمار في الزراعة فقط، لكي تظل مصر بلداً منتجاً للمواد الخام (القطن) الضرورية للصناعة البريطانية (هذا الأمر يفسر مناهضتها لبنك مصر الذي حاول دخول قطاع الصناعة بقوة)، وعلى الرغم من أن الفلاحين قد شاركوا في المرحلة الأولى من الثورة، إلا أنهم انكفؤوا فيما بعد لعدم تلقي التشجيع اللازم من قادة الثورة، والحقيقة أن قيادة الثورة قد نظرت بريبة لتحرك الفلاحين وخشيت من أن تتحول الثورة إلى ثورة اجتماعية، وهذا ما لا يتوافق مع مصالحها وأهدافها. 

4- إن فشل ثورة 1919 في تحقيق الاستقلال الناجز وبالتالي السيادة الوطنية على القرار السياسي، قد جعل إمكانية نجاح تجربة بنك مصر شبه مستحيلة، ذلك أنه حتى تكلل هكذا تجربة بالنجاح يتوجب فرض قوانين حماية جمركية لتشجيع الصناعات المصرية، وهذا لم يحصل بسبب هيمنة بريطانيا على القرار السياسي المصري، الأمر الذي سمح باستمرار تدفق البضائع والرساميل الأوربية إلى السوق المصرية، وجعل الصناعة المصرية تدخل منافسة غير متكافئة مع الصناعات الأوربية، مع العلم أن محمد علي باشا كان قد وضع قوانين حماية جمركية في زمنه لتشجيع الصناعة المحلية، وكان إلغاء هذه الحماية أحد الشروط التي وضعتها بريطانيا وفرنسا عليه بعد هزيمته عسكرياً، وهذا معناه باختصار فشل أي محاولة للنهوض الاقتصادي بدون امتلاك القرار السياسي المستقل.

5- كان من نتائج ثورة 1919 إقرار دستور للبلاد وجمعية تأسيسية، وهي منجزات ديموقراطية مهمة، واتسمت العقود الثلاثة التي أعقبت الثورة بحرية الصحافة وتعدد الأحزاب وحق التظاهر والتجمع الذي يكفله الدستور، إلا أن هذه الحقوق كانت تتقلص ويتم انتهاكها من قبل السلطة، خاصة حين يتعلق الأمر بحقوق الطبقة العاملة التي ازداد حضورها في المشهد السياسي مع بداية الأربعينيات، كما أن طبقة الفلاحين التي تشكل النسبة العظمى من المجتمع المصري، لم تكن مستفيدة من هذه الحالة الديموقراطية، ولم تكن مدركة لأهميتها في ذلك الحين، ذلك أن معظم أبناء هذه الطبقة كانوا محرومين من التعليم، فالمشاركة في العملية الديموقراطية تحتاج إلى حد أدنى من التعليم والثقافة كما نعلم جميعاً.

6- جاء إعلان وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين في الثاني في نوفمبر/ت2 عام ،1917 وما أعقبه من هجرة متزايدة لليهود إلى فلسطين، والذي توج بقيام دولة الكيان الصهيوني في الخامس عشر من أيار 1948 على جزء من أرض فلسطين، كقاعدة متقدمة ودائمة للمشروع الغربي، الأمر الذي أدى إلى تعميق وترسيخ موقع الصدارة للمسألة الوطنية بما شكله هذا الكيان من تهديد دائم لشعوب المنطقة، وما أحدثه من جرح عميق في كرامة هذه الشعوب، الأمر الذي سيترك آثاره البعيدة في حياة ومستقبل ومصير شعوب المنطقة. وجاءت هزيمة 1948 وقضية الأسلحة الفاسدة التي كانت بحوزة الجيش المصري، التي زودته بها بريطانيا، لتزيد من مشاعر الغضب والاحتقان داخل صفوف الجيش، ولتؤكد مرة أخرى أن استقلال مصر وجلاء قوات الاحتلال البريطاني عن أرض مصر بات هو المهمة الرئيسية أمام الشعب المصري وقواه الوطنية.

7- منذ نشوء الحركة العمالية في مصر والأحزاب البورجوازية تحاول السيطرة عليها ومنعها من تشكيل تعبيرات سياسية خاصة بها، كما أن مراقبة هذه الحركة ومتابعتها لم تغب يوما عن اهتمام البريطانيين (يمكن الرجوع إلى كتاب “الحركة العمالية المصرية في ضوء الوثائق البريطانية” للدكتور رؤوف عباس حامد) لإدراك مدى الاهتمام والمتابعة البريطانية للحركة العمالية المصرية، وعلى الرغم من كل هذه الجهود البورجوازية لاحتواء الحركة العمالية، إلا أن هذه الحركة أبرزت قوتها واستقلاليتها منذ أواسط الأربعينيات كما لاحظنا، وأخذت تلعب دوراً مستقلاً ومتميزاً في المشهد السياسي بقيادة (لجان العمال والطلبة).

8- تفاقمت المسألة الزراعية مع تقاعس البورجوازية عن تقديم أي حل لها في برامجها، الأمر الذي هيأ الظروف اللازمة لتحالف طبقتي العمال والفلاحين، وهو ما ظهرت بوادره في الصحافة اليسارية في تلك الفترة، ومن أشهرها مجلة “روح العصر” ذات التوجه الماركسي ومجلة “العصور” التي أسسها وكان يرأس تحريرها المفكر النهضوي إسماعيل مظهر عام 1929 الذي حاول تأسيس حزب إصلاحي باسم “حزب الفلاح” يكون ممثلاً لطبقة الفلاحين المصريين، إلا أنه قوبل بالرفض الشديد من رئيس الحكومة الوفدي مصطفى النحاس آنذاك، عندها سعى إلى اللقاء مع كادر مجلة “روح العصر” ذات التوجه الماركسي وقام الطرفان بتأسيس “حزب العمال والفلاحين” حيث تم نشر برنامجه الكامل في العدد (17) من مجلة “روح العصر” وبتوقيع اللجنة التحضيرية لحزب العمال والفلاحين، إسماعيل مظهر. تشير هذه الواقعة إلى درجة الرجعية والتشدد التي كانت تبديها البورجوازية المصرية كلما تعلق الأمر بتنظيم طبقة الفلاحين وبالصراع الطبقي بشكل عام.

الحالة المصرية قبل 23 يوليو، والخيارات المطروحة

يتبين لنا مما سبق أنه مع مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم كان المجتمع المصري قد دخل حالة انسداد تاريخي، فالبورجوازية لم تعد قادرة على الاستمرار في السلطة بسبب الضربة التي تلقتها مع إفلاس بنك مصر من جهة، والتدخل البريطاني المستمر في شؤونها من جهة ثانية والضغط الشعبي المتعاظم من جهة ثالثة، الأمر الذي جعلها عاجزة عن تقديم حلول أو برامج للمسألتين الأساسيتين المطروحتين بحدة على جدول أعمال التاريخ؛ أعني المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية، وأمام هذا الانسداد كان هناك في تقديري خياران لا ثالث لهما:

– الأول هو ثورة اجتماعية قاعدتها الجماهير الشعبية المفقرة من العمال والفلاحين والطلبة وصغار الكسبة، وبقيادة “لجان العمال والطلبة” هذا التنظيم الذي أثبت قدرته ونجاحه في تنظيم وقيادة المظاهرات والاحتجاجات التي حدثت في أواخر الأربعينيات.

– الاحتمال الثاني هو صعود البورجوازية الصغيرة عن طريق الجيش، وهو ما تم عبر تنظيم الضباط الأحرار الذين يتحدر معظم أفراده من البورجوازية الصغيرة والمتوسطة.

نجاح الاحتمال الأول كان سيؤدي إلى نظام “ديكتاتورية البروليتاريا” على النمط السوفييتي، ونجاح الاحتمال الثاني كان سيؤدي إلى أو أدى إلى نظام “ديكتاتورية العسكر”، وكما هو واضح ففي الحالتين الضحية الأولى هي الديموقراطية، هكذا سقطت الديموقراطية في مصر دون أن يبكي عليها أحد كأنها كائن لقيط بلا أم أو أب، وسننتظر حوالي عقدين من الزمن هما عمر التجربة الناصرية ذاتها، حتى يتخرج أبناء الطبقات الشعبية من الجامعات وتتشكل أنتلجنسيا جديدة لتعود المسألة الديموقراطية وتحتل الصدارة في المطالب الشعبية والمجتمعية.

كانت الولايات المتحدة الأمريكية تراقب الوضع عن كثب عبر سفارتها ومندوبيها، وكذلك بريطانيا عبر وجودها المباشر، وقد ساعد الطرفان على نجاح الخيار الثاني كونه أهون الشرين، فقد كان الهاجس الأكبر للسياسة الأمريكية هو وقف المدّ الشيوعي في مختلف أنحاء العالم، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمنطقة شديدة الحساسية بالنسبة للغرب، من هنا فإن وجود نظام عسكري لا يحمل برنامجاً واضحاً، وقابل للتعامل مع الغرب سيكون الحل الأمثل بالنسبة للغرب مقارنة بنظام يحمل برنامجاً اشتراكياً وفي علاقة استراتيجية مع الاتحاد السوفييتي، بل أكثر من ذلك فإن أمريكا بخبرتها عن الانقلابات العسكرية قد علقت آمالاً عراضاً على انقلاب عسكري يحدث في بلد كمصر، لكنها سرعان ما خابت آمالها عندما أخذ النظام الجديد منحى راديكالياً، وتحول من مجرد انقلاب عسكري إلى ثورة بكل ما للكلمة من معنى، (تسمية الثورة لانقلاب 23 يوليو تأتي من حجم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي نتجت عنه)، وفي تقديري أنه ما كان له أن يستمر في السلطة لولا هذا التحول، فالمهام التاريخية التي كانت مطروحة أمام الثورة (الاحتمال الأول) هي نفسها، وأي تطور أو تغيير لا يستجيب لهذه المهام سيسقط عاجلاً أم آجلاً، من هنا نستطيع أن نوصف الاحتمال الأول بأنه ثورة العمال والفلاحين بقيادة عمالية، بينما الذي حدث (الاحتمال الثاني) هو انقلاب عسكري بقيادة البورجوازية الصغيرة، تحول إلى ثورة وطنية بمضمون اجتماعي. استطاع عبد الناصر التصدي للمسألة الوطنية بكفاءة واقتدار مستنداً إلى الالتفاف الشعبي الواسع حوله، فكان قرار تأميم قناة السويس عام 1956 الذي حاولت بريطانيا وفرنسا إفشاله من خلال العدوان الثلاثي بالاشتراك مع إسرائيل، لكن العدوان فشل في تحقيق أهدافه، الأمر الذي أعطى قوة إضافية للنظام الجديد وانتهى بجلاء ما بقي من القوات البريطانية عن أرض مصر، وكان فشل العدوان الثلاثي إيذاناً بأفول دور بريطانيا وفرنسا على المستوى الدولي وتسليم دفة قيادة النظام الرأسمالي العالمي للولايات المتحدة.

لن أدخل في تفاصيل الإجراءات التي اعتمدها عبد الناصر والقرارات التي اتخذها طوال فترة حكمه التي امتدت من 1954 حتى وفاته في أيلول 1970، ولكن يمكن القول بأن هذه الإجراءات شكلت استجابة مقبولة للمسألتين المطروحتين بحدة آنذاك أقصد المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية، وفي تقديري لو نجح الاحتمال الأول فسوف يقوم بنفس الإجراءات كإطار عام مع اختلاف ربما بالتفاصيل، ساهمت قوانين التأميم وتحديد سقف الملكية الزراعية باستفادة ملايين الفلاحين المصريين فازداد الإنتاج الزراعي، وأدت سياسة مجانية التعليم العام والجامعي، وإحداث جامعات جديدة إلى إتاحة الفرصة أمام أبناء مختلف طبقات الشعب في الحصول على التعليم العالي وشغل الوظائف المهمة في الدولة، التي كانت حكراً على أبناء الطبقة الأرستقراطية، كما ساهم بناء السد العالي بمساعدة الاتحاد السوفييتي في زيادة المساحات الزراعية المروية، والحد من آثار فيضان النيل السنوي، كما تم إنشاء القطاع العام الصناعي وتوسع ليشمل مختلف المجالات بفضل الدعم الحكومي وسياسة الحماية الجمركية، هذا على الصعيد الداخلي، أما في السياسة الخارجية فقد كان عبد الناصر سنداً داعماً لكل حركات التحرر في أفريقيا والوطن العربي، حيث دعم الثورة الجزائرية والثورة اليمنية، ويسجل له قدرته على تحجيم الدور السعودي، الذي لم يأخذ أبعاده ليصبح مهيمناً على الساحة العربية إلا مع رحيل عبد الناصر، كما تلاقى مع حركات التحرر الأخرى في تأسيس منظمة عدم الانحياز، التي استفادت من ظروف الحرب الباردة والصراع بين القطبين من أجل تحصيل بعض المكاسب لشعوبها.

باختصار فإننا إذا أردنا توصيف طبيعة النظام الاقتصادية والسياسية قلنا إنه نظام رأسمالية الدولة الوطنية، وهو نفس النظام الذي كان قد أنشأه محمد علي مع حفظ الفروقات التاريخية، هو ليس رفضاً للتطور الرأسمالي وإنما دعماً له عبر إجراءات فوقية وبما يستجيب لحاجات المجتمع المصري في التطور والتقدم، وبالتعارض مع مصالح المراكز الإمبريالية، ساهم في تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي وتوسيعه من خلال إدماج مختلف شرائح المجتمع في السوق، الأمر الذي أدى إلى زيادة الانتاج والاستهلاك في آن معاً. 

عبد الناصر والديموقراطية:

بداية يجب التمييز بين الديموقراطية كمفهوم عام، والديموقراطية السياسية التي هي جزء أساسي من النظام الديموقراطي العام لكنها لا تستغرقه، ذلك أنه يتم المطابقة بيت المفهومين حين يتم الحديث عن الديموقراطية في أغلب الأحيان، فالديموقراطية تصبح منقوصة ومشوهة مالم تأخذ بعداً اجتماعياً، من هنا أود التأكيد على أن النظام الديموقراطي الذي كان سائداً في مصر قبل ثورة 23 يوليو كان مقتصراً على الديموقراطية السياسية، فهو مثلاً لم يكن يشمل ديموقراطية التعليم، إذ ما أهمية حرية التعبير لشعب أبناؤه محرومون من التعليم، إنها أشبه بالقول حالياً بحق كل فرد في امتلاك قناة فضائية، لكن تكلفة القناة الفضائية هو عشرة ملايين دولار مثلاً، فالمستفيد من هذا الحق هو فقط من يملك أكثر من عشرة ملايين دولار في المجتمع، وهم نسبة ضئيلة بكل تأكيد، هذا الأمر يفسر لنا لماذا سقطت الديموقراطية دون أن يبكي عليها أحد، إذ لم تكن النسبة العظمى من الشعب مستفيدة من هذا النظام أو مدركة لمزاياه، وإنما كان ذلك حكراً على الطبقة الأرستقراطية المسيطرة، بل إن هذا النظام ارتبط في أذهان الناس بالأرستقراطية وامتيازاتها وهذا ما يفسر جزئياً العداء الذي أبداه الضباط الأحرار للديموقراطية، بهذا المعنى يمكن القول بأن الإجراءات الاجتماعية التي اتخذها عبد الناصر مثل قرارات التأميم والإصلاح الزراعي ومجانية التعليم بكل مستوياته هي إجراءات ديموقراطية بالمعنى العام، أتاحت الفرصة أمام أبناء الطبقات الدنيا في المجتمع المتمثلة بالعمال والفلاحين للمشاركة في الحياة العامة والشأن العام، لكن هذه الفرصة ظلت منقوصة ولم تكتمل عندما تم إلغاء الحياة السياسية من المجتمع.

من المفهوم أن تقوم سلطة جديدة باتخاذ إجراءات استثنائية احترازية في بداية حكمها، وذلك لترسيخ قواعد الحكم الجديد، وتزداد هذه الحاجة إذا أخذت السلطة الجديدة بعداً طبقياً مختلفاً عن الطبقة التي كانت مسيطرة سابقاً، وذلك لشل قدرة الطبقة المهزومة على مقاومة التحولات والإجراءات التي تتخذها السلطة الجديدة والمتعارضة مع مصالح هذه الطبقة، وهذا أمر شائع في التاريخ كما أعتقد، ولكن تكون هذه الإجراءات ذات طابع مؤقت تزول تدريجياً مع استقرار الوضع الجديد، وقد يأخذ ذلك أشهراً أو حتى سنوات تبعاً للظروف التاريخية الملموسة، وفق هذا المبدأ يمكن فهم مصادرة الحالة الديموقراطية التي كانت سائدة قبل 23 يوليو/تموز 1952 ، لكن الأمر بالنسبة لنظام عبد الناصر قد أخذ طابع الديمومة والاستمرارية، بحيث أصبحت الأوضاع الاستثنائية هي الوضع الطبيعي، فقد استمر النظام في إلغاء الحياة السياسية طوال فترة حكمه، وأطلق العنان لأجهزة المباحث في مراقبة وضبط أي نشاط سياسي حتى ولو كان نشاطاً مؤيداً للنظام!!!، وهذا مالا يمكن فهمه أو تبريره تحت أية ذريعة أو حجة، الأمر الذي أدى إلى تصحر الحياة السياسية، ونشر حالة من السلبية وعدم الاهتمام بالشأن العام عند شريحة واسعة من المجتمع، كانت قد استفادت من الإجراءات الاجتماعية للنظام لكنها حرمت من حق الدفاع عن هذه المكتسبات عندما تعرضت هذه المكتسبات للخطر في فترة لاحقة، إن الغياب الدائم للديموقراطية السياسية كان السبب الرئيسي وراء مجمل الأخطاء التي رافقت التجربة الناصرية على الصعيدين الوطني والاجتماعي، وبذا تكون الناصرية نفسها قد دفعت الثمن الأكبر لاستبدادها وطغيانها، فبعملية الشخصنة التي جرت للتجربة والحكم تكون قد حكمت على نفسها بالموت مع موت الزعيم، وهذا ما حصل فعلاً فقد تسارعت إجراءات الانقلاب على كل المنجزات الناصرية بعد موت عبد الناصر، دون أن تلقى مقاومة جدية وفاعلة من أنصاره، هكذا لم يمض أقل من عقد على رحيل الزعيم حتى كانت التجربة ومنجزاتها في مهب الريح.

إن التجربة المصرية تؤكد لنا ما ذكرناه في مقدمة البحث حول الترابط الجدلي بين المسائل الثلاثة التي ذكرناها أقصد؛ المسألة الوطنية والمسألة الديموقراطية والمسألة الاجتماعية، بل هي قد أكدت هذه المقولة مرتين، الأولى عندما سقطت التجربة الديموقراطية قبل 23 يوليو لأن الحكومات الديموقراطية المتعاقبة أدارت ظهرها للمسألتين الوطنية والاجتماعية، والثانية حين سقطت المنجزات الوطنية والاجتماعية للتجربة الناصرية عندما أدارت ظهرها للمسألة الديموقراطية.

كلمة أخيرة

لا تشكل المرحلة التي تلت عبد الناصر استمراراً لمرحلة عبد الناصر كما يحلو لبعضهم أن يراها، وإنما هي انقلاب عليها، صحيح أن السادات كان نائباً للرئيس عبد الناصر، وصحيح أيضاً أن عناصر المرحلة الساداتية قد خرجت من رحم المرحلة الناصرية، لكنها مع ذلك شكلت انقلاباً شاملاً على المنجزات التي حققتها الناصرية على الصعيدين الوطني والاجتماعي، وكما أرى فإن هذا الانقلاب ما كان له أن ينجح لولا هزيمة حزيران 67 وبالتالي هو ثمرة من ثمارها، مثلما كان انقلاب 1970 في سوريا أيضاً أحد نتائج هذه الهزيمة، لا يغير من هذه النتيجة قيام حرب تشرين/اكتوبر 73 التي كانت المحطة الضرورية لتحريك الصراع مع العدو الصهيوني ووضعه على سكة (السلام) الذي توج باتفاقات كامب دافيد، والتي شكلت انقلاباً جذرياً على الناصرية على الصعيد الوطني، فيما ساهمت إجراءات الانفتاح الاقتصادي بالإجهاز على القطاع العام أهم منجزات الناصرية الاقتصادية والاجتماعية، وما كان هذا وذاك ليحدث دون إطلاق يد الإسلام السياسي الممول خارجياً، والذي كان السادات نفسه أول ضحاياه.

ما أود التأكيد عليه بناء على ما سبق أنه من الخطأ النظر إلى تجربة صعود البورجوازية الصغيرة إلى سدة الحكم نظرة سكونية ثابتة، فهذه التجربة بالمحصلة هي جزء هام من تاريخنا مرت عبر محطات مختلفة، أو هي صيروة أدت إلى ظهور البورجوازية البيروقراطية، التي انفصلت عن طبقتها الأم وانقلبت على أهدافها، وهذا ما يفصل فيه المفكر الراحل مهدي عامل في كتابه “مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركات التحرر الوطني”، مع تأكيدنا أن هذا التطور الذي حصل ليس حتمياً من حيث الاتجاه، وإن كان قد تم في مختلف الساحات بنفس الطريقة، وإنما هو مرهون بجملة عوامل داخلية وخارجية، يأتي في طليعتها قوة الطبقة العاملة ووزنها السياسي، والتوازن الدولي بين قوى الثورة العالمية من جهة وقوة الإمبريالية العالمية، وكلا العاملين كانا لصالح هذا التحول الذي حصل، بل إن هذا التحول في سوريا ومصر قد تم بتحريض خارجي عنيف (حرب حزيران 67)، يذكر بالتدخلات الغربية المتكررة لمنع تقدم مصر والتي أسلفنا ذكرها في بحثنا هذا.

يتبين لنا مما سبق الدور الحاسم للعامل الخارجي (الغرب الإمبريالي) في تحديد مسارات التطور التاريخي الحديث لبلدان المشرق العربي بشكل عام ولمصر بشكل خاص، بما يتوافق مع مصالح هذا الأخير، مستفيداً من كل العوامل الداخلية وموظفاً إياها لتحقيق أهدافه (مصالحه).

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني