fbpx

حوار مع الأديب السوري عبد الرحمن مطر.. أدب السجون: الوجه والواجهة.. هموم وقضايا

0 115

حاوره: زكريا بوغرارة

يشكّل أدب السجون في العالم العربي أقوى أنشغال للكتاب الأحرار الذين خاضوا تجارب دامية وأليمة في غيابات السجون من أجل الكلمة الحرة والرأي والموقف، والاصطفاف، ومعارضة الأنظمة الوظيفية الشمولية. لهذا يجد هذا الأدب الإنساني ألقه وبريقه من تلك الأقلام الثائرة المتحررة من ربقة السلطة القمعية.

تصوير ونقل المعاناة في متاهات السجون وإماطة اللثام عن المسكوت عنه في الأماكن الضيقة المغلقة المعتمة.. مهمة شاقة وعسيرة، لهذا لا يضطلع بهذه المهمات النبيلة إلا القلّة من الكتاب والأدباء الذين عايشوا العتمة، وعاشوها، ورووا عنها ما لم يرى الآخرون.

هذا الأدب الماتع، كالجمر الكامن تحت الرماد.. كلما هبّت عليه الريح زاد توهجا واشتعالا، هو ما يشغلنا ونحن نفتح ملف أدب السجون: الوجه والواجهة في وطننا العربي الكبير، أو السجن الأكبر الذي يتسع ليضم بين جوانحه كافة الأحرار ممن عشقوا الكلمة الحرة وآمنوا بالحلم.. وتطلعوا للحرية في زمن العبيد

 من أجل ذلك سعينا للحوار مع الأديب السوري عبد الرحمان مطر أحد الذين كتبوا عن تلك العتمة الباهرة، من خلال تجربة قاهرة..

نظراً لانشغالاته العديدة المتصلة بالأدب والفكر والمعرفة، أنتظرنا طويلا إلى ان أنجزنا هذا الحوار الماتع عن أدب السجون، وقضاياه ومهمومه.. هموم الانسان الحر، في زمن السجون والقهر …

بطاقة تعريفية بالأديب عبدالرحمن مطر

كاتب وصحفي من سوريا، مقيم/ لاجئ في كندا منذ عام 2015، شاعر وروائي. عمل في الثقافة والإعلام في سوريا وليبيا. وهو باحث في العلاقات الأورو-متوسطية، وقضايا حقوق الإنسان، وناشط في قضايا الحريات والمجتمع المدني. مؤسس ومدير مركز دراسات المتوسط، والمنتدى الثقافي السوري المتوسطي (SEEGULL).

مدير تحرير ”أوراق” مجلة رابطة الكتّاب السوريين.

ينشر البحوث والمقالات في الصحافة العربية.

نشر خمسة كتب، هي:

الدم ليس أحمر (قصص مشتركة 1983)، أوراق المطر – شعر 1999، وردة المساء – شعر 2000، دراسات متوسطية 2001، سراب بري – رواية 2015.

يصدر له بالإنجليزية قريباً:

– رواية سراب بري – ترجمت بدعم من (PEN Canada).

– الطريق إلى الحرية – مع آخرين – قصص الكتّاب في المنفى، بمبادرة من (PEN Canada).

– اعتقل خمس مرات وأمضى حوالي 10 سنوات في السجن بسبب الرأي وحرية التعبير.

تتناول روايته “سراب بري” تجربته في السجن السياسي والتعذيب والحرمان وسوء المعاملة والقمع.

عضو رابطة الكتاب السوريين (عضو المكتب التنفيذي) وجمعية الصحفيين.

عضو رابطة القلم الكندية (PEN Canada).

عضو اتحاد الكتاب في كندا (TWUC).

عضو الرابطة الكندية للصحفيين (Caj).

حائز على جائزة تمكين المجتمعات: الالتزام بالفنون، مهرجان متعدد الثقافات 2021/تورنتو – كندا

ملخص حول رواية ”سراب بري .

تتناول الرواية حياة السجن، بكل ما فيها من مكابدات ومعاناة. وتركز على أربعة مسائل أساسية هي: ”التعذيب – القهر – الحرمان – انتهاك حقوق الإنسان وحرياته”. وذلك عبر تقسيم النص إلى زمنين: من الاعتقال إلى الحكم، والثاني فترة السجن المؤبد، في جزءين و38 فصلاً.

كما تتناول بعض لمحات من أحداث الربيع العربي، الذي مزّق سطوة الطغاة، رغم فداحة الخراب وعظمة التضحيات.

تدور أحداث الرواية، في مكان محدد هو السجن، وإن تعددت أماكن الاعتقال. دون أن تغفل التداعيات المتصلة بالحياة العامة، والمجتمع الذي تتناوله.

عامر عبدالله، كاتب وصحافي، يتم اعتقاله من الشارع، وسط النهار، لأسباب سياسية، ليتعرض بعدها لشتى أنواع التعذيب والقهر، على يد المحققين، ثم يخضع لمحاكمة صورية غير عادلة، ليجد نفسه وسط المجرمين الجنائيين كعقوبة مضاعفة، يقضيها في عذابات الحرمان من الحرية والأسرة والعدالة.. وغيرها.

إضافة إلى أساليب القهر المادية والمعنوية، التي يستخدمها السجان، مثل الانتهاكات البشعة لآدمية السجين، وحالات القهر والاغتصاب والجنون، التي يتعرضون لها في المعتقلات والسجون.

يظل عامر عبدالله الشخصية المحورية، وفي كل فصل ثمة شخصيات يضيفها إلى الحدث الروائي، لتسرد صورة من الحياة المرّة والمهينة التي يعيشها السجين، في ظل القهر والاستبداد من جهة، والجهل والمرض والرذيلة من جهة ثانية.

يرى المؤلف هذا العمل، شهادة حية على تجربة عاشها خلف القضبان، كتبها داخل الأسوار، ونجح في تهريبها ورقة.. ورقة. وهو أيضاً شهادة تفضح القمع والاستبداد الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية خاصة سوريا وليبيا.

إلى الحوار:

ماذا يمثل أدب السجون لكم؟؟

ثمة مسألتان في هذا السياق، أجد من المهم الإشارة إليهما في معرض إبداء رأيي، أو وجهة نظري حيال أدب السجون، وما يمكن ان يمثله بالنسبة إليّ، أو بمعنى آخر، كيف أنظر إليه.

من الناحية الإبداعية، فإن أدب السجون هو واحد من أشكال التعبير، ويمكن أن يكون منتمياً إلى أحد الأجناس الأدبية السائدة، من رواية، أو نص شعري، نثر، أو مذكرات، وغير ذلك، وقد يكون مزيجاً بين جنسين أدبيين أو أكثر، تبعاً لأسلوب الكاتب، وضرورات الكتابة احيانا. وبالتالي، فإن النظرة إليه، تأخذ جانباً نقدياً ومعرفيا متصلاً بالقيمة الأدبية والجمالية للنص الأدبي، أياً كان جنسه، وأسلوبه، وصيغته، وموضوعه. متخيّلاً كان أم واقعياً.

يحيلنا ذلك، إلى المسألة الثانية، والمتصلة بمحتوى الكتابة وجوهرها. فأدب السجون يعدّ اليوم – في العالم العربي – من الموضوعات الرئيسة التي ينشغل بها عدد من الكتّاب المهتمين، أو الذين لديهم إبداعات في هذا المجال الأدبي، وهم قلّة، غير ان لكتاباتهم تأثيراً مهماً في الحياة الثقافية العربية. ويغطي هذا الاتجاه الأدبي، أو يهتم بجانب مهم القضايا الجوهرية المتصلة بالنضال السياسي والاجتماعي من أجل الحريات والحقوق، في مجتمعاتنا العربية، التي تعاني من سطوة الإستبداد، والحرمان من الحريات، ومصادرة الحقوق.

يكشف أدب السجون عن المعاناة الإنسانية الكبيرة، التي يتعرض لها المعتقلون، عبر ممارسات السلطة الوحشية، في القمع، ونشر الخوف والرعب في المجتمع، كما يكشف عن تجارب حيّة أو حقيقية، عاشها الكاتب، أو عاشها أبطال عمله الأدبي، كالرواية مثلاً.

ما ينبغي الإشارة إليه، إلى أن أدب السجون، هو تجربة إبداعية، فيها من الواقع، ومن الصدق في استعادة التجربة وتصوّرها، وانعكاس الألم، ونقل لحقيقة الأحداث، ما يتفوق على أي متخيل، يمكن للمرء أن يتصوره، لشدّة اتصاله بنقل وقائع الألم إلى حيز التعبير الأدبي، وهذه مسألة ينبغى الإلتفات إليها، في دراسة أدب السجون، ومقاربته نقدياً.

كروائي أبدع في الكتابة عن أدب السجون ماذا أردت أن تقدم من خلال روايتكم الموسومة سراب بري كأديب ومعتقل سياسي سابق؟

بلا شك، أردت أن أقدم تجربتي في الاعتقال والسجن، كمساهمة مني ككاتب وصحافي عاش تلك التجربة المرّة، وتأسيساً على أهمية دور الكاتب في أن يكشف الممارسات السلطوية الممنهجة في قمع المجتمعات، وفي قهرها، وفي محاولة إذلالها، بسبب التعبير عن رأي ثقافي أو فكري، أو بسبب موقفٍ أو انتماء سياسي، هو حقٌ أصيل لكل فرد في المجتمع. ساهمت كثير من الأعمال الأدبية روائية أم سيرية، أم شعرية، في رصد أوجه الألم والمعاناة التي يعيشها المعتقل، وأسرته، ومجتمعه المحلي الصغير. وهو ما يُعدّ مهمة أمام الكاتب في الانحياز للناس، والتزامه بقضية الحريات، وفي تعرية الأنظمة القمعية وأدوات استبدادها.

من هنا، فإن روايتي “سراب بري” التي كتبتُ فيها جزءاً يسيراً من تجربتي، وهي تتناول حياة السجن، بكل ما فيها من مكابدات ومعاناة. وتركز على أربعة مسائل أساسية هي: “التعذيب – القهر – الحرمان – انتهاك حقوق الإنسان وحرياته”. وذلك عبر تقسيم النص إلى زمنين: من الاعتقال إلى الحكم، والثاني فترة السجن المؤبد. وتدور أحداث الرواية، في مكان محدد هو السجن، وإن تعددت أماكن الاعتقال، دون أن تغفل التداعيات المتصلة بالحياة العامة، والمجتمع الذي تتناوله.

هذا العمل – بالنسبة لي – هو شهادة حية على تجربة عشتها خلف القضبان، كتبتها داخل الأسوار، ونجحت في تهريبها ورقة.. ورقة. وهو أيضاً شهادة تفضح القمع والاستبداد الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية، دون استثناء، وهي جميعها تتشابه في ذلك، وتتعاون في تبادل خبرات القمع والقهر والتعذيب.

بعيد ثورات الربيع العربي، كثر الحديث عن نهاية أدب السجون وبداية أدب الحرية، ولكن لم يدم التفاؤل طويلاً إذ شهدنا ولادة جديدة لأدب السجون ربما لا تزال صفحاته لم تكتب بعد أو أنها ماتزال حبيسة المعتقلات والسجون، برأيكم هل يمكن لأدب السجون ان ينتهي ومتى وكيف؟

الأدب، هو حالة مستمرة بصورة عامة، طالما أن الحياة فوق هذه الأرض قائمة، وأدب السجون هو أحد صور الإبداع الأدبي. أفهم المقصد من سؤالك، عما إذا كنا سنشهد يوماً نتوقف فيه عن الكتابة في الموضوعات السجنية، وأن نحتفي بالحرية، على سبيل الأمل. لا أعتقد أننا سنشهد يوماً كهذا، طالما هناك معتقل رأي واحد على وجه الأرض. خاصة بالنسبة لنا في العالم العربي. وطالما هناك آلام وأوجاع نجمت عن ذلك، وأن هناك فاشيون مستبدون. الكتابة هي شكل من أشكال النضال من أجل الحرية، ومن أجل التذكير الدائم بأولئك الذين ما يزالون وراء الأسوار، يتعرضون للتعذيب، والحرمان، ويستشهدون تحت التعذيب، دون أن يعلم بهم أحد، حتى ذويهم.

الربيع العربي، انبثق من قلب معاناة الشعوب، من أوجاعها، ومن توقها وعطشها التاريخي إلى الحرية. سوف يبقى بشارة أمل وخير في تاريخنا، وسوف تخلده الأعمال الأدبية. ومن وجهة نظري، سوف تشهد الرواية العربية، والإبداع العربي، مزيدا من الكتابة في استلهام قضية الحرية. صحيح أن الربيع العربي، تم الانقلاب عليه، وتطويقة، غير أن ما تغير، قد تغير، لم يعد مكاناً للخوف، تطور الوعي الجمعي بأهمية الحرية، سوف يبقى دلالة للمضي قدماً. لن تتمكن أعتى ديكتاتوريات القمع أن تعود إلى تكميم الأفواه ومنع حرية التعبير. لقد تجاوزنا ذلك، ضحى شبابنا بأرواحهم من أجل ذلك، ومن أجل المستقبل.

الكتابة هي واحدة من أدوات الوعي، والنهوض به، سوى أنه يعزز الذائقة الجمالية، لكنه أيضاً يغذي توقنا الدائم للتعبير عما نشعر بهن وعما نريده. وعن رأينا في كل شئ من حولنا.

النهوض الثوري محاصر، والكتّاب مضطهدون بصورة أو بأخرى، والكتابة تتعرض للخنق أيضاً، عبر رقابة وسائل الإعلام، وعبر منع النشر، أو الحدّ منه، وعبر منع توزيع الكتب، ومنها كتب أدب السجون، بشكل خاص.

ما يزال هناك الكثير والكثير، لم يدوّن بعد في أدب السجون. لم أكتب أنا سوى الشئ اليسير، ماتزال جروحي عميقة، وأتطلع لكتابة ما أستطيع في أدب السجون. لكل سجين رأي، قصة ورواية، يجب أن تنقل إلى الناس. يجب أن يتعرف المجتمع إلى القتلة، السجانون وإلى قادتهم السياسيين والأمنيين، الذين يرتكبون جرائم فظيعة بحق الإنسانية.

هل نحن بالفعل في منعطف أقسى من كافة ما مر في منعطفات السجون التي أبرزت لنا كل ما تزخر به مكتبة الأدب مما كتب في أدب السجون؟

عالمنا العربي، لديه تاريخ غني، في السجون والمعتقلات السياسية، وفي مايجري داخل أقبيتها وزنزاناتها، خاصة في القرن العشرين، إلى اليوم في العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين. لدينا رصيد كبير من كتب أدب السجون، خاصة في الرواية، التي تناولت السجن السياسي، بسبب الاحتلال الأجنبي، في مصر، حيث تعد رواية “وراء القضبان” أول رواية عربية في أدب السجون صدرت عام 1949 للكاتب أحمد حسين. وكذلك الروايات التي تناولت العسف والاضطهاد والاحتلال، والأسر في فلسطين.

لكن الجزء الأكبر من أدب السجون، يتناول تجربة الاعتقال والقمع والقهر من قبل الأنظمة الوطنية، خاصة بعد الاستقلال. وتعد العراق وسوريا والمغرب، أكبر وأهم منتج لأدب السجون اليوم.

ما الفروق في رأيكم بين أدب السجون في الماضي والحاضر مع العلم أن أدب السجون حسب ما عبرتم كان من زمن سحيق بل في صدر الإسلام وضربتم مثلا بسجن الحطيئة وما جرى من قصته مع عمر بن الخطاب؟.

ما يعلق بالذاكرة الجماعية إن اتصل الحديث عن أدب السجون هو القمع والقهر والتعذيب، كيف ترى أدب السجون في العهد الإسلامي الأول وما تلاه في العصور الاموية والعباسية، وواقعنا الراهن؟.

تاريخياً، يُعدّ كتاب “عزاء الفلسفة” للمفكر الإيطالي أنيكيوس بوئيثيوس، من أقدم الكتب المعروفة في أدب السجون، كتب داخل السجن، قبل أن يُعدم مؤلفه عام 524 م.

أما فيما يتصل بالعهد الإسلامي، لم أجد في الحقيقة، ما يمكن اعتباره أدب سجون، وفق حدود اطلاعي ومعرفتي. لكننا نتذكر قصائد الشاعر أبي فراس الحمداني في الأسر، وهي ماتعرف بالروميات، وأهمها “أراك عصيّ الدمع”.

غير أنه يتوجب الإشارة، إلى حوادث كثيرة في العهد الإسلامي، إبان الدولتين الأموية، والعباسية، وبصورة خاصة الأخيرة، بشأن ما يمكن تسميته – وفقاً لمصطلحات اليوم – باضطهاد المفكرين والكتّاب، والفلاسفة، خاصة أولئك الذين اختلفت آراؤهم مع خلفاء المسلمين، والولاة، أو أصحاب المذاهب، في قضايا مختلفة، مثل ابن رشد والمعري، والطبري، وجابر بن حيّان، وابن جبير، وغيرهم. وعلى الرغم من ذلك، لم يتعرض أحد منهم إلى السجن بصورة مباشرة، ومن تمّ سجنه، قتل، وبالتالي لم يتمكن من كتابة المحنة التي مرّ بها.

إلاّ أن القرن العشرين، شهد انتقالاً مهماً، لجهة اضطهاد الكتّاب والمفكرين، في العالم الإسلامي (العربي خاصة)، وتمت ملاحقتهم من دول الاحتلال، ثم لاحقاً من الدول الوطنية المستبدة، وبذلك، ظهر أدب السجون في المنطقة العربية، وتعاظمت محنة الكتّاب والمفكرين من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، الذين تعرضوا للملاحقة الأمنية والاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية، وبدأ أدب السجون بالنمو بصورة كبيرة.

في واقعنا الراهن، يُعتبر أدب السجون، واحداً من أهم ملامح الإبداع الأدبي العربي. وقد أبدع كتّاب عرب كثيرون روايات، ونصوص أدبية مهمة في أدب السجون، قلّ نظيره في العالم المعاصر اليوم، في دول أخرى من العالم. لقد أنتجت التجارب المريرة والقاسية، أدباً عظيماً، هو أدب السجون.

برأيكم لماذا الروائيون العلمانيون هم الأكثر إنتاجا في أدب السجون بينما الإسلاميون وهم أكثر مكوثاً في المحن والسجون لم يكن لهم إلا النزر اليسير في هذا الأدب؟.

هذه ملاحظة مهمة، ولكن قبل الإجابة، دعني أختلف معك، في هذا الطرح. الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، لا تنظر بمعيار إسلامي وعلماني، إلى معارضي سلطتها القمعية، حسب اعتقادي. السلطة تنظر إلى جميع المثقفين من سياسيين، وقادة أحزاب وأصحاب رأي، وإعلاميين، يساريين، قوميين أو إسلاميين، كأعداء رئيسيين لها، بدون أي نقاش أو تفضيل. المعيار الأساسي لديها: أن تكون معنا، أو ضدّنا. لذلك، فالجميع هم في السجن، أو خارج السجن، غير مرغوب فيهم لدى الأنظمة، يحاربون، ويلاحقون ويعتقلون ويُقتلون.

مرّت فترات تاريخية معروفة، مثلاً في مصر أو سوريا، أو بلدان المغرب العربي، كانت تشنّ فيها الأنظمة حملات اعتقال ضد تيار معين، ثم تأتي فترة لاحقة تطال تياراً آخر. وبالفعل، مرّة العلمانيين هم الضحايا، ومرّة الإسلاميينن وهكذا. ويقضي جميع أولئك أحكاماً أو فترات طويلة في السجن، والمعيار الوحيد للسلطة في ذلك هو الانتقام والمعاقبة، وليس لكونه إسلامياً أو علمانياً.

فيما يتصل بجوهر السؤال، فأنت محقٌ تماماً في رأيك. نعم، نجد أن غالبية أدب السجون قد أنتجه كتّاب غير إسلاميين. هذه مسألة مهمة ينبغي في الحقيقة دراستها، بشكل علمي. وأن نطرح السؤال على الكتّاب الإسلاميين ممن تعرضوا إلى تجربة السجن: لماذا؟ وهل يحول الالتزام الديني – مثلاً – دون الإبداع الأدبي، أو أنهم يجدون الانشغال بالأدب، قد يُضعف التزامهم الديني؟.

هنا، يجب الإشارة إلى أن أدب السجون بصورة عامة، ليس مبنياً على انتماء كاتبه الاجتماعي والسياسي، وأنه فوق مثل هذا التصنيف، مع أن كثير من أدب السجون، يشير إلى الإسلاميين، والعلمانيين بوضوح تام، كضحايا للأنظمة القمعية.

نلاحظ كثيراً أن عدة ألقاب تسبق بعض الأسماء، فهذا “القاص والكاتب والشاعر”، وذلك “الناقد والمسرحي والروائي”.. إلَخ. فهل أنتم مع “احتراف” الأديب لفنٍّ واحد؟ وما مدى تأثير عدم الاحترافية والتخصص على المشهد الإبداعي؟.

لكل كاتب اتجاه إبداعي رئيس، خاصة في البدايات التي يذهب إليها، وينطلق منها، كجنس أدبي. هذا أمر طبيعي جداً. ومن الطبيعي أيضاً – مع تطور التجربة الإبداعية – أن يُجرب الكتابة، أو أن ينتقل للكتابة في جنس أدبي آخر، أو أن يجمع بينها. الإبداع عالم مفتوح على التجارب، على التطور، وعلى توليد الأفكار والنصوص، دون أي قوانين، أو اشتراطات تضع له حدوداً أو قيوداً وإلا فإن جوهر الإبداع سوف يكون معطلاً أو معاقاً. للكاتب حريته التامة في اختيار الشكل الأدبي كوسيلة تعبير، بالصورة التي يراها ملائمة له.

عدم الاحترافية، لن يؤثر على المشهد الإبداعي سلباً. والنص الإبداعي الجيّد هو ما يفرض نفسه. ثمة كتّاب نجحوا في الشعر، وهم روائيون.. والعكس. لقد بدأتُ بالشعر، وأصدرت كتابين شعريين، وما تزال لدي عشرات النصوص غير المنشورة. وما كنتُ يوماً أتصور أن أكتب الرواية. لكن تجربة السجن، هي التي دفعتني بقوة لأكتب روايتي “سراب بري” لأنني شعرتُ بأن الشعر، لا يمكنه أن يعبر عما أردت قوله والتعبير عنه، مما عشته في الاعتقال والسجن.

من هو الأديب الحق؟ ومن هو الناقد الحق؟

لا أستطيع، أن أطلق رأياً معيارياً أصف فيه، بصورة قطعية من هو الأديب الحق، من عدمه. هناك أدب جاد وملتزم، إذا كان لي أن أقول ذلك. ليست هناك مواصفات جاهزة، هناك معايير أدبية ذات طابع علمي. إنما هناك، أدباء ملتزمون بقضايا مجتمعاتهم، وأكثر قرباً من الناس، وفي التعبير عنهم، عن مشكلاتهم، وعن عوالمهم. من يكتبون أدب السجون، هم من أولئك الذين تشكل مسائل الحريات والحقوق والمعتقلين، قضايا جوهرية بالنسبة لهم.

أما الناقد، فهو الذي يعتمد الطرائق العلمية، في نتاجه النقدي، في دراسته للنصوص الإبداعية، ونحن نتحدث عن الأدب، وأدب السجون بصورة خاصة. الناقد الموضوعي، هو الذي لا يُخضع جهده النقدي، والنصّ الذي يتناوله، لمعيار مزاجه الشخصي، أو المزاج العام.

ما مستقبل أدب السجون في ظل قمع ثورات الربيع العربي وارتداد الكثير من الأنظمة إلى ماضي التعذيب والانتهاكات، الحالة السورية نموذجاً؟.

ثمة سياقين هنا: أمر جيد، أن نقول بأن مستقبل أدب السجون – إذا جاز لنا استخدام تعبير “مستقبل” – هو مبشر جداً، فنحن نشهد مزيداً من النتاج الإبداعي، في الرواية والشعر تحديداً. وقد كان للربيع العربي ولا يزال، دوراً كبيراً، فاعلاً ومؤثراً، في الإبداع الأدبي، ومحركاً على الكتابة في أدب السجون. وقد شهدنا بالفعل، ظهور كتّاب جدد في عالم الرواية العربية، ومنهم من بات يُعرف اليوم بروايته الأولى في أدب السجون.

السياق الثاني، إنه من المؤسف حقاً، إن المنطقة العربية، تشهد استمرار الأنظمة المستبدة، على الرغم من انهيار بعضها، بتأثير ثورات الربيع العربي. غير أن قمع هذه الثورات، الذي يأتي في سياق الردة عنها، أو في ظل سياسات إجهاضها، من قبل قوى إقليمية ودولية، سوف يجعل المنطقة مرشحة لتشهد مزيداً من القمع، وانتهاكات متواصلة للحقوق والحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير، وحرية التجمع، وحرية تكوين الجمعيات المدنية، والأحزاب السياسية.

المنطقة مرشحة لمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، وهو ما يترافق مع استخدام العنف المفرط من قبل الأنظمة بصورة خاصة، وكذلك التنظيمات المسلحة، أيّاً كان اتجاهها السياسي، قومياً أم دينياً. أي أننا نشهد اليوم، وغداً استمرار الملاحقة والاعتقال، والقمع. خاصة وأن الأنظمة الاستبدادية، لم تجد في المجتمع الدولي، وفي القانون الدولي، من يفرض عليها، وقف انتهاك الحريات والحقوق، وإلزامها بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومعرفة المصير المجهول لعشرات الآلاف منهم. سوريا مثال واضح وقريب جداً.

ما دور أدب السجون في فضح انتهاكات الأنظمة الوظيفية من خلال تجربة أدب السجون في سوريا، وهل استطاع أن يُظهر مظلومية الأسرى، كما فعل أدب السجون الفلسطيني، حيال القهر الصهيوني؟.

يلعب الأدب – عامة – دوراً مهماً، في تكوين الأفكار، وفي تشكيل وجهات النظر، أو في لفت انتباه الرأي العام إلى قضية ما. هو دور قد لايظهر تأثيره إلا مع مرور الوقت، ببطء شديد، غير منظور. غير أن أعمالاً أدبية، في أدب السجون، قد تُحدث تأثيراً مختلفاً ومغايراً للسائد. هذا ما لمستُه وخبرتُه خلال السنوات الماضية من عمر الثورة السورية، إذ ساهمت بعض الروايات التي تنتمي إلى أدب السجون، مثل رواية خليفة مصطفى “القوقعة”، في تقديم الوجه القمعي الحقيقي لنظام الاستبداد الأسدي، من خلال رواية قصص التعذيب والقمع والقتل داخل السجون والمعتقلات. وأدى ذلك إلى تغيير جذري في مواقف بعضهم مما يجري في سوريا، لجهة كشف الحقيقة التي تغيب عن الكثيرين لأسباب كثيرة.

نعم، إن أدب السجون، يقوم بدور مهم، في فضح الانتهاكات الجسيمة، لأنظمة الاستبداد أينما كانت، وخاصة في سوريا. من خلال تناول ما لايعرفه الناس عامةً عما يحدث خلف الأسوار وفي الزنازين المظلمة: أي حياة القهر والتعذيب والحرمان التي يعيشها المعتقل، أو السجين.

ماصدر خلال السنوات العشر الأخيرة من كتب في أدب السجون السوري، يعدّ شهادة مهمة حول الانتهاكات المنظمة التي يقوم بها النظام الأسدي، لدينا كتاب بسام يوسف “حجر الذاكرة”، ورواية راتب شعبو “ماذا وراء هذه الجدران” وكتاب ياسين الحاج صالح “بالخلاص ياشباب”، وكتاب محمد برو “ناجٍ من المقصلة”، ورواية معبد الحسون “قبل حلول الظلام”. وجميعها، على درجة كبيرة من الأهمية، من حيث توثيق جرائم النظام، وفي فضح جرائمه، التي تعدّ وفق القانون الدولي: جرائم ضد الإنسانية. وهي – إضافة لذلك، ذات قيمة أدبية عالية، كنصوص إبداعية متميزة، حتى في تلك المؤلفات التي تأخذ سياقاً سياسياً في الكتابة. ونلاحظ هنا، أن جميع أولئك الكتّاب، هم سجناء سياسيون سابقون، وهذا أيضاً مؤشر مهم. واسمح لي هنا، أن أضيف إلى تلك الأعمال، روايتي “سراب بري”.

بنظرة شمولية نجد أنَّ هناك تبايناً في النتاج الإسلامي للأجناس الأدبية: فالشعر يتصدر المشهد دائماً، ثم تأتي القصة والرواية، ثم المسرح. فهل لذلك أسبابٌ ترونها؟ وهل تتحقق هنا أهمية “الكمّ”؟

كان الشعر، كما أشرت في سؤالك، هو الذي يتصدر المشهد الأدبي، حقيقة. سواء كان على صعيد الأدب العربي، أم الإسلامي. إلا أن الصورة اليوم، قد تغيرت كثيراً، وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وبصورة أكثر، خلال عشرية الربيع العربي، حيث بدأت الرواية تتصدر المشهد، وكتب السيرة، الأقرب إلى النص السردي الروائي، ومن ثم شهدنا تطوراً ملحوظاً في مجال البحوث والدراسات الاجتماعية والسياسية. وانخفض بصورة ملحوظة، صدور أعمال شعرية. ولكن – أيضاً – ثمة مؤشر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إلى استعادة الشعر بعض عافيته، بإقبال بعض دور النشر، على نشر الشعر، وبصدور أعمال جديدة، مميزة.

هل أنت راض عن مسيرتك الأدبية، وهل حققتم كل ما كنتم تطمحون له في هذه الرحلة الأدبية متعكم الله بالصحة والعافية.

دون تردد، لا. مايزال لدي الكثير مما يجب أن أقوله وأكتبه، خاصة في أدب السجون. أنا مقلّ بطبيعتي، ومقصّرٌ أيضاً، ومتمهلٌ في النشر. وآمل أن أحقق بعض ذلك، إذا كان في العمر بقيّة.

ممتن وشاكر لكم إتاحة هذه الفرصة الثمينة، للحديث عن أدب السجون.

نشر هذا الحوار على جزئين في موقع أدب السجون

رابط الجزء الأول:

رابط الجزء الثاني:

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني