fbpx

حقوق الإنسان بين الخصوصيّة والكونيّة

0 281

يركّز كثير من الباحثين والدّارسين على إشكاليّة التّنازع والتّضاد بين الخصوصيّة الثّقافيّة والكونيّة العالميّة لمفهوم حقوق الإنسان، ودارت معركة الـتّأصيل لهذه الحقوق بين الإسلامييّن والاتّجاهات اللّيبراليّة والعلمانيّة من جهة أخرى، وهي اتّجاهات تنزع نحو استقطاب واستيعاب المفهوم الغربيّ الّذي أصبح مفهوماً أمميّاً في الحاصل القانونيّ والحقوقيّ وذلك من خلال مرجعيّة غربيّة ومحوريّة كونيّة ولكن من منظور فلسفيّ غربيّ يحاول تلمّس مقاربات أنسنيّة كلانيّة في فلسفة الإنسان وحقوقه، وهذا مالا ينكره الغربيّون أنفسهم كالفقيه الفرنسيّ FREDREK SUDRE الّذي يقول: ” إنّ الإعلان العالميّ من صنع غربيّ بطريقة انفراديّة والتّأكيد على العالميّة هو التّأكيد على أنّ المفهوم الغربيّ مفهوم عالمي”، وهذا عبارة عن إشباع للإحساس بالتّفوّق الغربيّ، وهذا واضح في كلّ السّياقات المؤسّسة للمواثيق الحقوقيّة، وأغلب الوثائق الدّوليّة هي نتائج وإفرازات ظروف تاريخيّة غربيّة متجاهلة خصوصيّات وقيم الحضارات الأخرى، ومن حقّ الدّول الّتي لم تشارك في صياغة الميثاق أن تحترم وتطبّق القواعد التّي لا تخالف تقاليدها الرّاسخة.
وفي هذا السّياق يرفض كثير من هؤلاء الكتّاب والمفكّرون العرب اللّيبراليون الثّنائيّة التّصوريّة للحقوق بين مرجعيّة إسلاميّة ومرجعيّة غربيّة، ويقولون بأنّ هذه الثّنائيّة تشكّل عائقاً وحاجزاً أمام الحداثة وتأصيل مفاهيم الحريّات والحقوق، لأنّ المطلوب التّحاكم إلى مرجعيّة إنسانيّة أحاديّة تُبعد الصّراع والشّقاق حول المفاهيم الإنسانيّة المشتركة وتقضي على التّمايزات والخصوصيّات من خلال تصوّر وأفق كونيّ مشتركين، ويتصّور هذا الفريق بأنّ اتجاه الخصوصيّة الثّقافيّة والحضاريّة يساهم في نزاع صداميّ وإقصائيّ حول مفهوم الحقوق وإلباسها خصوصيّات لا نهائّية من الثّقافات المجتمعيّة، بينما يذهب الإسلاميّون إلى ضرورة وحتميّة النّظر إلى حقوق الإنسان من زاويتين؛ زاوية الخصوصيّة الدّينيّة والحضاريّة الإسلاميّة وزاوية الفكر الحقوقيّ الأمميّ الكونيّ، على أساس أنّ المشترك بين الزّاويتين والبُعدين أكبر وأعمق من المختلف فيه من التّفاصيل الّتي تصطدم ببعض الثّوابت الأخلاقيّة والشّرعيّة في الشريعة الإسلاميّة، ولذلك استطاع الإسلاميّون إنجاز ما سميّ بمدوّنات وبيانات حقوق الإنسان كالبيان الّذي اعتمد في المجلس الإسلاميّ الأوربيّ في لندن 1980-1981 عن حقوق الإنسان، وإعلانين صادرين عن منظمّة المؤتمر الإسلاميّ في السّعوديّة في الطّائف 1981 وإعلان القاهرة 1990 ، إضافة للمدوّنات والدّراسات المستفيضة حول هذه الجدليّة الحقوقيّة، وبهذه الاعتبارات لابدّ من التّأكيد بأنّ الصّياغة والمرجعيّة والفلسفة المؤسّسة لمنظومة الحقوق هي نتاج غربيّ بحت متجاوزين ما تتمتّع به القارة الإفريقيّة والآسيويّة من مخزون وإرث حضاريّ وثقافيّ ومعرفيّ، وبهذا الاعتبار لا يمكن أن تكون مواثيق حقوق الإنسان الغربيّة مطلقة وكونيّة ومتجاوزة لأنّها ذات مركزيّة محدّدة تمّ اعتمادها أمميّاً ودوليّاً بهذا الاعتبار.
وبالرّغم من هذا الإنجاز التّاريخيّ الكبير يمكن إعادة المراجعة والتّحرير لهذه المواثيق بتوافقات ثقافيّة أنسنيّة تحترم الخصوصيات والتّنوّعات داخل الإطار الإنسانيّ القيميّ ما يعزّز ويخصّب مفاهيم الحقوق والحريّات والمشتركات الإنسانيّة، ويعمّق أطر الحريّات السّياسيّة وقيم التّسامح والتّكافل والتّعايش السّلميّ بأعماق فلسفيّة وحقوقيّة أكثر عمقاً واهتماماً بالمستضعفين من النّاس، والاهتمام برفع مستوى الوعي الحقوقيّ للشّرائح المهمّشة في المجتمعات الإنسانيّة الفقيرة، وذلك دون مقاربة التّصادم والاعتداء على ثوابت وخصوصيّات وثقافات المجتمعات الحقيقيّة لا الوهميّة حتّى لا تكون مطيّة للاستبداد والتّوليتاريا والعسكرتاريّات المتوحّشة.
إنّ هناك فجوة هائلة بين حقوق الإنسان وواقعه المأسويّ، وبين فلسفة حقوق الإنسان والقوانين الجافّة الضّامنة لهذه الحقوق، فلابدّ من تعميق فلسفة الإنسان وكرامته وقداسة كينونته في العقل الجمعيّ العربيّ والإسلاميّ خاصّةً، لأنّ الانزياحات والتّداعيات السّياسيّة في السياسات الغربيّة الدّاعمة للدّكتاتوريّات والأوتوقراطيات العربيّة أفقد الإحساس بقيمة مفاهيم ومنظومات الحقوق الدّوليّة والغربيّة خاصّةً ما فصل بين قيمة المفهوم وتطبيقه وبين شرعة حقوق الإنسان وحواملها وفواعلها الدّوليّة الّتي تجهض إداراتها السّياسيّة مفاهيم حقوق الإنسان لحساب المصالح والمنافع البراجماتيّة لها مقابل إهدار الحقوق والتّخلّي عن دعم المعارضين والصّحفيين والنّاشطين السّلميين في دول الشّرق الأوسط والعالم الإسلاميّ بالأخصّ مقابل مصالح هذه الإدارات مع هذه الأنظمة المتوّحشة كما في مصر والسّعوديّة والإمارات وغيرها من الدّول والأنظمة الشّموليّة.
ولابدّ في نّهاية هذا السّياق من التّركيز على نقطتين أساسيّتين في هذا المحور: أولاهما: إنّ مفهوم حقوق الإنسان في المفهوم الإسلاميّ مفهوم متعال إلهيّ المصدر يعطي فاعليّة واعتباريّة هائلة لمفهوم الحقوق باعتباره أثراً لازماً وحتميّاً للقيمة المطلقة للإنسان في المفهوم القرآنيّ ما يجعل منه مظهراً مطلقاً وقانوناً لازماً في كلّ تاريخ ومستقبل الصّيرورة الإنسانيّة.
ثانيهما: ليس هناك اختلاف تضاد وتصارع بين الخصوصيّة والكونيّة بل اختلاف تعدّد وتنوّع عدا بعض الإشكاليّات والتّفصيلات ما يضفي على المفهوم عطاءً وغنىً إضافيّاً ومفتوحاً لتخصيب المواثيق والقوانين بمفاهيم وفلسفات ورؤى متنوّعة ومعمّقة من الحضارات والثّقافات الأخرى وبالأخصّ الثّقافة الإسلاميّة ذات العمق الفلسفيّ الكونيّ الإنسانيّ العميق، وبذا يمكن مقاربة المفهوم بثقافة إنسانيّة قيميّة مشتركة لا تذيب الخصوصيّات بل تفعّل المشتركات والتّوافقات بما يحفظ مبادئ وحقوق الإنسان وقيمه الثّابتة، ما يجعل من العمل للإنسان وحقوقه غايةً ومقصداً عظيماً وضرورةً دائمة ولتكون الحقوق هي المعادل الموضوعيّ والقانونيّ والقيميّ للوجود الإنسانيّ، إذ لا إنسان بلا حقوق ولا حقوق بلا إنسان.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني