حرمان وفقدان للمواد.. دمشق حيث الموت البطيء
تجلس “عدلة” 53 عاماً بفناء منزلها في حيّ المزة خزان الدمشقي، تنتظر زوجها “حسان” 59 عاماً ليعود من عمله الإضافي كمحاسبٍ في إحدى مطاعم المدينة؛ بعد فقدان الليرة السورية لقيمتها أمام الدولار فتقول لنينار بريس “يعمل زوجي في الصباح في مديرية التجارة بدمشق، الراتب لا يكفينا، لذا لجأ إلى العمل الإضافي، مع ما يُرسله إلينا أبناؤنا في الخارج، بالكاد يفي حاجياتنا والأدوية التي تضاعف ثمنها”. وعدلة من مواليد عامودا في المنطقة الكُردية، لجأت مع زوجها وأبنائها إلى دمشق عام 2008 نتيجة لفقدان فرص العمل في محافظة الحسكة، ثم عادت في بدايات اندلاع الاشتباكات لتبقى في عامودا حتّى بداية 2014 “تمكنا من بيع منزلنا في عامودا لنُخرج أبنائي الثلاثة إلى كردستان ومنها إلى أوربا، كي لا ينخرطوا في الحرب، والتجنيد الإلزامي، لم يبق أمام زوجي أيّ عمل، فقررنا العودة إلى دمشق بعدما ألح عليه مالك المطعم كي يعود للعمل، وتم إرجاعه إلى وظيفته الحكومية أيضاً” وتعاني عدلة من ارتفاع ضغط الدم والسكري، كما يشكو الزوج من الديسك والربو “ندفع شهرياً ما لا يقل عن 65 ألف ليرة سورية ثمناً للأدوية، حاولنا بيع منزلنا هنا لكننا لم نحصل على سعر مناسب، حالياً نحن مستقرون هنّا وأبنائنا في سعادة وهذا ما يكفينا”
البطاقات الذكية مسحت إنسانيتنا
تعيش دمشق حالياً أزمات متتالية ومتعددة، لكن أكثرها تعقيداً، نظراً لأنها تلامس عصّب الحياة اليومية، هي أزمة المواصلات الخاصة والعامة. من حيث فقدان مادتي المازوت والبنزين، وارتفاع سعرهما، عدا عن الأزمة الخانقة التي تتسبب بها طوابير المنتظرين حيث تواصلت نينار برس مع بعض أصحاب المركبات الخاصة والعامة الذين أكدوا “الشهر الفائت كنا نقف لساعات وأحياناً لأيام حتى نحصل على بعض ليترات، الوضع تحسن قليلاً بشكل ضئيل، حيث نستقبل رسالة نصية تحدد لنا مكان موعد استلام الكمية المخصصة لنا من المازوت أو البنزين” وتسبب قانون قيصر الأمريكي ضد النظام السوري بمشاكل اقتصادية كبيرة منها أزمة الوقود، حيث أخبرت القوات الأمريكية الموجودة في شمال شرق سوريا قوات سوريا الديمقراطية بمنع إرسال الغاز والوقود والطحين إلى مناطق سيطرة النظام السوري، ما خلق أزمات عدة، خانقة للسوريين. لكن وبحسب مصادر خاصة لنينار بريس “القوات الأمريكية تغض النظر بين الحين والآخر عن إرسال كميات من تلك المواد، على أن تسد الحاجة بشكل مؤقت وغير شامل، لذلك رفع النظام السوري مخصصات المركبات على النحو التالي:
25 ليتر بنزين أسبوعياً للمركبات الخصوصية، ومثلها كل أربعة أيام للمركبات العمومية، و20 ليتر من المازوت كل عشرة أيام للمركبات الخاصة، و30 ليتر للمركبات العمومية – السرافيس – ماعدا يوم الجمعة حيث لا يتم منحهم تلك المادة” أما عن سعر الليتر فوفقاً لأصحاب بعض محطات الوقود “يبلغ سعر ليتر البنزين لدى محطات النظام السوري 750 ل.س، و2500 شراء حر، و200 ل.س سعر المازوت النظامي، و2000 ل.س بشكل حر” وتتفاقم مشكلة الغاز بالتوازي مع مشاكل الوقود والمعيشة. فيقول خالد الشامي 55 عاماً نعيش على نظام البطاقات الذكية، أشعر أنني روبوت ولست (بني آدم) ننتظر رسالة نصية لتقول لنا “تعالوا استلموا جرة غاز واحدة لكل شهر، نتمنى ألا يزورنا أحد، فالجرة بالكاد تكفينا، ويبلغ سعر الجرة الواحدة لدى المعتمد الحكومي 4000 ليرة سورية، بينما سعره الحر يصل أحياناً إلى 30000 ليرة سورية.
قوة شرائية معدومة
تجولت نينار برس في أحياء وأسواق دمشق، وبالرغم من الكثافة البشريةـ، لكن الوجوه يائسة، والحزن بادٍ على وجوه الغالبية. كحال الشاب “ميداس الهاني” الطالب الجامعي الذي قال “والدي مدير قسم في مكتب الحبوب، ووالدتي مدرسة، لي أخ يعمل في النمسا يساعدنا، لكن المصروف مرتفع جداً، ولا يكاد الراتبان يكفيان حتى آخر الشهر، أرسل لي أخي فراس مبلغ 50 يورو كي أشتري بعض الثياب للعيد، كالعادة فإن سعر صرف العملة لدى النظام أقل بكثير من السوق، منذ ثلاثة أيام وأنا أسعى لاقتناء بنطال جينز وقميص وحذاء، لكنني لا أجد، نظراً لغلاء الألبسة، أعتقد أن متاجر الألبسة المستعملة ستكون وجهتي المقبلة، فأنا أرغب بإبقاء قسم من المال لدي كمصروف جيب”
وتشهد أسواق الألبسة المستعملة في دمشق إقبالاً كثيفاً نظراً لرخص أسعارها، وكثرت الموديلات والمقاسات وهي معظمها قديمة ومستعملة، وبما تحمله من احتمالية الأمراض. حيث يقول طبيب جلدية لنينار بريس “تحتوي تلك الثياب على أمراض خطيرة، يُمكن أن تكون معدية ومتسببة بأوبئة وأمراض جلدية مثل الحكة، والحساسية واحمرار الجلد، وكورونا… إلخ، لذا يُنصح بالابتعاد عنها، أو غسلها في درجة حرارة عالية جداً، بعد نقعها بالماء الساخن والملح لبضع ساعات”.
التقت نينار بريس مع بائع ألبسة مستعملة الذي قال: “الناس تأتي لتشتري لأنها لا تجد المال الكافي لاقتناء حاجاتها من الثياب في المحلات والمولات الراقية. أسعارنا رخيصة جداً مقارنة بالأسواق، يُمكن لمن يمتلك عشرة آلاف أن يشتري قطعتين أو أكثر، الناس فقيرة جداً”
طبابة مؤجلة وأدوية مفقودة
يتحدث “محمد مردلي” 61 عاماً لـ نينار برس “لولا المشافي الحكومية لكانت الناس ماتت في الشوارع، فالمعاينات أصبحت كالعملة النادرة، وقد وصلت أسعار بعضها إلى 25000 ل.س، عدا صور الأشعة والتحاليل، في المشافي الحكومية أفضل وإن كان بعضها يأخذ نسبة، لكنها أقل بكثير من المشافي الخاصة. المشكلة أن المشافي الحكومية فيها أزمة خانقة، وغالباً ما تكون أجهزة التصوير والأشعة معطلة، أو يتأخر الأطباء عن الالتحاق بالعمل. بالعموم الموت أهون لدينا، في كثير من الأحيان نلجأ إلى الحبوب المسكنة” لكن مشكلة محمد وغيره لا تتوقف عند الطبابة وأسعار المعاينات فالأدوية أصبحت مفقودة أو أسعارها خيالية، ومنها من نقل نطاق عمله في صناعة الأدوية إلى بلد آخر؛ للالتفاف على قانون قيصر. يضيف مردلي “أدوية الضغط والسكري الأجنبية، وأدوية السرطان وغيرها أصبحت إما شبه مفقودة أو مرتفعة الأسعار جداً. بعضها يوجد في صيدليات المشافي فقط، للتحكم بسعرها، هكذا هي الحياة حيث لا دولة ولا رقابة ولا نظام يحترم شعبه”
وتجتاح أسواق دمشق أعداد كبيرة من المتسولين والشحاذين الذين باتوا يُرون من على بعد مئات الأمتار؛ لكثرة أعدادهم. وتعيش دمشق أجواءً شديدة الفقر والحاجة. كما أن الدمشقيين أصبحوا يبحثون عن أيَّ فرصةٍ للهرب من الموت جوعاً.