fbpx

حرب تجارة الأعضاء البشرية في سوريا

0 433

منذ عدة أشهر انتشرت ظاهرة بيع الأعضاء البشرية (الكلية) في سوريا عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي. في الخفاء أيضاً، يكتبون في الإعلانات مريض بحاجة للتبرع بكلية. بل إن بعض الصفحات الفيسبوكة بدمشق وطرطوس نشرت في الآونة الأخيرة أي أقل من شهرين.. أكثر من إعلان لبيع الكلية.

لفت نظري منذ أسبوع على صفحة الفيس بوك الخاصة بسوق المستعمل الإلكتروني الذي يتابعه أكثر من مليون متابع، إعلاناً صريحاً عن شابة تريد بيع كليتها بثلاثة ملايين ليرة سورية وطبعاً تواصلت معها وحكيت لها قصة شقيقي الذي اشترى كلية بـ 25000 ليرة سورية عام 2004.

عام 2004 ودون أن يشعر شقيقي الأكبر بأعراض واضحة.. قال له طبيبه إنه مصاب بقصور كلوي مزمن.

هنا بدأت رحلة العلاج الطويلة التي امتدت لأكثر من سنتين، إجراءات غسيل الكلى وزيارة الأضرحة ونذر النذور للأولياء الصالحين من أجل شفائه، كان من بين تلك النذور التي نذرتها والدتي أن تشحذ الملح مطلع الصبح من ثلاثة بيوت في حارتنا وهي حافية القدمين.

في صباح اليوم التالي ومع بزوغ الضوء شاهدتها وهي تدخل بيت أم جورج السقا لتخرج وبيدها كمشة ملح لتخرج وتدخل بيت أم وليد وتختم طقسها ببيت أم كريم شربا.

بدأت أمّي برش الملح مكان كليتي شقيقي ودعائها يمزق السماء، ومازال جرس دعائها للآن معلّقاً برأسي كجرس الكنيسة لحظة مرور طائرة ورقية أضاعها طفل.

فيما بعد، علمت أن تلك البيوت المملحة بأقدام أمي الحافية، كانت مزيجاً من كل الطوائف الموجودة في حارتنا، وبقي صوت دعائها مستمراً كمكبر صوت المئذنة لحظة خرق طائرة صديقة لجدار صوتها.

يالله يا زين العابدين تشفي ابني. والدي اشترى خروفاً صغيراً، نذره كي يشفى شقيقي، وكانت مهمتي أن اهتمّ بتربية الخروف في النهار، ومرافقة محمد شقيقي في اللي لغسل كليتيه.

محمد يقرر الذهاب للعلاج عند مريم نور في بيروت

قرر أخي الذهاب إلى بيروت مع صديقه للعلاج عند مريم نور، طلبت منهم النزول بفندق خاص لأنه يقدم طعاماً يخدم مرضى القصور الكلوي.

مضت الأيام ومر الوقت مع ابتزاز وبرنامج صارم للأكل من نور؛ مات صديق محمد المريض هو الآخر نتيجة برنامجها الصارم وابتلى أهله بمصاريف نور والفنادق الباهظة، سارعت إلى لبنان وهرّبت محمد من المشفى ومن ومريم نور والموت معاً.

عدنا سالمين، حيث عاد محمد إلى غسل كليتيه مرتين في الأسبوع، وعدت أنا إلى الاهتمام بتربية خروف الكلية الذي نذره الوالد لشفائه.

أمضى محمد أكثر من سنتين حتى تم تأمين ثمن كليه له؛ فقد وضعت إعلاناً مأجوراً بجريدة الثورة السورية مطلع عام 2004 وخلال أقل من ساعتين اضطررت لإغلاق موبايلي لكثرة أصحاب الكلى المستعدين للتبرع، أغلبهم من ريف حلب الشمالي وبعضهم من ريف الحسكة وريف القدموس بطرطوس. أسعار الكلية تبدأ بمئة وخمسة وسبعين ألف ليرة سورية وتصل إلى ثلاثمئة ألف ليرة سورية، حسب (نظافتها) أي عمر صاحب الكلية.

من بين المتصلين شاب في عقده الثاني، ومن خلال تكرار اتصاله بي ورسائله تهاتفنا والتقينا بطرطوس تعرفنا واتفقنا على السعر ومن ثم الذهاب إلى مستشفى ابن النفيس التخصصي بدمشق الوحيد في سوريا بوقتها لزراعة الكلية. نعم ومن خلال الاتصالات ومصدرها كان ريف حلب الأكثر فقراً ويليه ريف الحسكة ومن ثم ريف القدموس.

وعودة لنسبة المعلنين عن بيع الكلى من خلال صفحات الفيس بوك الآن، أي عام 2020، تكون دمشق وبعدها ريف طرطوس بالمرتبة الأولى. لولا غياب التواصل مع أهالينا في المخيمات وربما تكون عندهم النسبة الأكبر. ناهيك عن العصابات المنظمة من داعش وغيرها لخطف الأطفال وبيع كلياتهم.

على باب المشفى، تحت شجرة السرو المعمرة، قبل أن التقي بالمتبرع، كان يقف رجل طويل يلبس لباساً عربياً كأنه من ريف حلب وبصوت خفيض ينادي (كلاوي كلاوي)، اقتربت منه لظني أنه بائع الكلاوي أي الفول.

قلت له وين عربة الفول.. وبعد عدة أسئلة منه كأنني بفرع تحقيق، وبعد أن تأكد أنني مرافق مريض يحتاج لزراعة الكلى، قال لي: “بدك تبيع ولا تشتري” وهنا تذكرت رحلتنا بتأمين ثمن الكلية من بيع البيت بسعر رمزي، وهنا قلت له دون تردد سأبيع كليتي.

أخذني جانباً بعيداً عن المشفى، إلى بيت كان فيه رجل في الأربعينيات من عمره، عرفت فيما بعد أنه طبيب، أخذ مني عينة دم وعينة بول. وتابع رجل الكلاوي مهمته معي بعد أن اتفقنا على السعر. بعد عدة شروط اتفقنا عليها ومن خلالها أن أوقع على سندات أمانة قبل الذهاب لنزع الكلية. كل هذه الإجراءات لم أقم بها مع المتبرع.

ونبنهي الرجل الطويل إلى أنني تبرعت بالكلية ولم أبعها لأن البيع ممنوع. وأنه سيأخذ مني مبلغ خمسين ألف ليرة سورية أجور وساطة له، وحين أعلمت محمد عن الحدث رفض بقوة.

رحم الله تلك الأيام إذا ما قارنتها بالأيام التي نعيشها الآن، حيث العصابات المنظمة التي تخطف البشر وتقوم بنزع أعضائهم من كبد وكلى وكل ما يحتاجه الجسد ومن ثم يقومون بقتل الضحايا بحجة تدريبهم خارج الحدود ومن ثم يقومون بفعل فعلتهم.

مرّ شهران منذ أن تمّ العثور على مقابر جماعية في سوريا والعراق بمناطق كانت تسيطر عليها “داعش” والشواهد الحية لغياب الأعضاء الحيوية منها كالقلب والكبد والكلية والدليل الرسمي في هذه القضية، أي من خلال الاكتشاف للمقابر الجماعية بالمناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم الإرهابي.

كان كلام السفير العراقي لدى الأمم المتحدة محمد علي الحكيم حيث قدم الأدلة على أن داعش يعتمد الإتجار في الأعضاء البشرية كمصدر للدخل.. وأضاف أنه أقدم أي داعش على قتل الأطباء الذين رفضوا التعاون معه.

بدأت رحلة التحاليل مع محمد فكانت تحاليل الأنسجة في ألمانيا والتصالب في الجامعة الأمريكية ببيروت؛ ففي تلك الفترة لم يكن هذا النوع من التحاليل متوفراً إلا في هذه الجهات. أذكر جيداً سعر تحليل الأنسجة خمسة وسبعون ألف ليرة سورية والتصالب أربعون ألف ليرة سورية. إلى حين موعد صدور نتائج التحاليل والتي تحتاج لأكثر من عشرين يوماً.

ودّعنا المتبرع بعد أن زودناه بموبايل جديد وكل ما طلب وكلنا خوف ألا يعود حيث لا عقود بيننا ولا أي شيء يلزمه معنا سوى الاتفاق الشفوي بيننا.

وقبل خروجنا من المستشفى ناداني الرجل الطويل وكلمني بلغة فهمتها لوحدي.. وقلت له: أنا ذاهب إلى طرطوس وبيننا هاتف.

لم يتركني بسهولة وقال لي لدي متبرع لديه تحاليل أنسجة بسعر 275 ألف ليرة سورية.. وعندي بائع أي قصده متبرع بلغة بيع وشراء الكلية. لدي متبرع لديه تحاليل أنسجة وأسعاره مقبولة ومضمون من عدم هروبه قبل العملية، تركته وصوته الخفيض يعلو لاصطياد مريض آخر، كلاوي.. كلاوي…

كما قلت لا يوجد قانون لبيع الأعضاء في سوريا حتى الآن. في حين أن المريض في إيران والمتبرع لا يعرفان بعضهما بعضاً إلا بعد إتمام العملية ويكون الضامن هو المشفى. المتبرع سافر لعفرين منطقته وأنا ومحمد سافرنا إلى طرطوس حيث عدت للاهتمام بالخروف ومرافقة محمد لغسل الكلية.

الرجل الطويل الذي ينادي “كلاوي كلاوي” علمت فيما بعد أنه جزء من شبكة لبيع الأعضاء لا تنتهي داخل المشفى، حيث يقولون للمريض أن كلية المتبرع “مليفة” أي مسرطنة كما حدث لمحمد في عملية الزرع الأول، وتم بيع كلية المتبرع دون أن نعلم ما حدث ويحدث وسوف يحدث.

عام 2014 كشفت صحيفة ديلي ميل البريطانية عن تحول تنظيم داعش في سوريا والعراق إلى الإتجار بالأعضاء البشرية لتمويل نشاطه، وأن التنظيم يقوم بتجنيد أطباء أجانب لاستئصال الأعضاء الداخلية، ليس فقط من جثث مقاتليها، وإنما أيضاً من الرهائن الأحياء ومن بينهم أطفال.

وتابعت الصحيفة: “حيث يتم تهريب الأعضاء إلى بلدان مجاورة من بينها تركيا وتباع لأوروبا وغيرها.. لدرجه أن هناك أكثر من 13 ألف فرنسي ينتظرون متبرعاً. فالقرنية في فرنسا تباع بـ 1170 يورو والقلب 1050 والكلية 2500 يورو”.

اتصل بنا المستشفى بدمشق وبشرني خيراً من أن التحاليل بينهما متوافقة بنسبة كبيرة وأن عملية الزرع بعد أسبوع، فرح الجميع بالخبر حتى الخروف كان فرحاً.

فقلت بيني وبين نفسي ولأنني تعبت وأنا أعلف الخروف وأحمّمه وأصبح صديقي.. سأقوم بتبديله بخروف آخر لا أعرفه كي لا أحزن عليه قبل نجاح العمليه.

وأنا في حديقة المستشفى انتظر نجاح العملية، كانت نظرات بائع البلاوي أقصد الكلاوي ومفردها كلية ونظراته المندسة تراقبني وصوت مسبحته وهي تطقطق وصوته المرتفع على غير العادة.. كلاوي كلاوي… كأنني أتذكره الآن وهو مع داعش يساعدهم باصطياد أعضاءنا، لم أكن أعلم أنه يتعامل مع مافيا داخل المشفى إلا فيما بعد.

اتصلت أمي للمرة العاشرة “تأخرت العملية وأنا قلقة على أخيك وعلى المتبرع”، قلت: “لا تخافي، خرجت الممرضة قبل قليل وأخبرتني أنه بخير”. تابعت أمي: “يا بني الخروف توقف عن الأكل والشرب وأصبح هزيلاً وقلبي ليس مطمئناً”، هونت عليها وقلت: لعله خائف من الذبح لأن الندر سيتحقق، ولم أقل لها أنني سأبدّل الخروف بخروف آخر.

طبعاً، الآن ومع غلاء الأغنام تحولت النذور للدجاج.. ومع غلاء الدجاج سينذر الناس مكعب ماجي. 

خرج الجرّاح من غرفة العمليات عابس الوجه حاد الملامح وقال لي كلية المتبرع متليفة أي مسرطنة. قلت والتحاليل في ألمانيا وبيروت؟ قال: (مو شغلتي).

لم يخطر ببالي وقتها أن هذا من عمل الرجل الطويل الذي وصلني صوته الآن وكأنه يقول.. صار عنا كلية جديدة للبيع.. كلاوي كلاوي..

عاد الخروف إلى نشاطه رغم حزنه المتضامن مع حزن الجميع بمن فيهم المتبرع، وهنا عاد محمد لغسل كليته وعدت إلى تربية الخروف بانتظار متبرع جديد. كان أبو عبدو المتبرع الثاني بعد انتظار ستة أشهر كي يلتئم الجرح لتتفتح جراحنا للمرة الثانية. نجحت العملية وبال محمد، والتبول يعني نجاح عملية الزرع.

وبعد نصف ساعة قالوا لي: مات محمد بحجة عدم وجود أكسجين في مشفى ابن النفيس بدمشق عام 2004 مات محمد وعاش وانتعش صوت بائع الكلاوي.

ملاحظة: والدتي التي نشرت نذر الملح، تشحذ الآن الملح والسكر ليتوازن ضغطها.

ووالدي الذي نذر الخروف، مات ولم يكن يعلم أن محمد كان الخروف لتجار الأعضاء.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني