fbpx

حديثٌ عِندَ نَهرِ جايِتّو

0 140

نهى عزي

صَفرتِ الريح وراءَ الجبل مستقبلةً قطيعاً من الأيائل المرقّطة تمشي في موكٍب آيونا، خلعت حذاءها الجلديّ السميك وأطلقت قدماها في نهرِ جايِتّو أسفلَ الهضبةِ مديرةً ظهرها للشّمسِ التي أضاءت شعرها ككوكبٍ يحترق..

– مراكوس: مولاتي، أراكِ اليومَ هادئةً في شرود، فهل من شيءٍ عكّرَ صفوَ مقامكم؟

– آيونا متابعةً شرودها نحو ضفّةِ النّهرِ المقابلة:

– صفوُ المقامِ يا مراكوس ليس لهُ علاقةٌ بصفوِ آيونا، لكن بما أنني فهمتُ قصدكَ فأقولُ أنّ زمنَ تعكيرِ صَفويَ قد انتهى.

– لتباركِّ الآلهة مولاتي، فهذا يبعثُ فيّ الطمأنينة، رغمَ أنّ شرودكَ اليوم يحيّرني بعد أن كان قد أقلقني قبلَ ردّكِ، فهل لشرودكِ هذا مسبّب؟، (ثمّ استطردَ في مكر) الحبّ مثلاً!

– الحبّ يا مراكوس لا يبعثُ على الشّرود، ولا يبعثُ على شيءٍ أساساً، فهوَ كما الآلهة نعلمُ بوجودهِ دونَ أن نلمسهُ، وإذا كانَ لا بُد من مبعثٍ لهُ فهو يبعثُ لأمرينِ لا ثالثَ لهما:

– إمّا الانفجار من شِدةِ وهمِ وجوده، أو السؤال والشّك فيه.

– آآه مولاتي، كيفَ تقولينَ هذا، أفلم يَذق قلبكِ الأرجوانيّ هذا طعمَ الحبّ! هذا القلبُ الذي يخالَ لمن عرفكِ أنّه ينبوع إحساسٍ لا ينضب!، ألم ترى عيناكِ الفيروزيّتانِ كما جواهر السّماء بريقَ العِشقِ معكوساً في مرآتكِ المُفضضة!، أنظري إلى نفسكِ مولاتي لتعلمي أنّ جسدكِ العاجيّ هذا لم يَكن ليُخلقَ لولا الحبّ فصوّركَ آلهة حُبّ.

– تضحكُ آيونا فيرنّ صوتها ممتزجاً بجريانِ النّهرِ فتدنو الأيائلُ لتشربَ كما لو أنها عطشى للنّغمِ:

– مراكوس يا مراكوس يا رفيقَ أيامي العزيز:

– ما تصفهُ أنت عن الحب سيبقى ما تقولهُ أنت، وما يَصفهُ الآخرونَ عن الحُب سيبقى ما يصِفهُ الآخرون، تماماً كما تصِفُ ظِلّ وجهكَ عندما تتراقصُ الشّموع.

– عذراً مولاتي، أتريدينَ أن تجعلي الحُبّ كما الظّلال! هذا افتراءٌ مولاتي..افتراء.

– لا يُمكنُ لنا الافتراءُ على شيءٍ أو أحدٍ يا مراكوس، لأنّ الحقيقةَ توجدُ في عقلِ صاحِبها فقط.

– وعَجبي مولاتي، بقدرِ ما يُطربني حديثكِ بقدرِ ما يُربِكني، أطربُ لهذا الكلامِ المُنغّم كما لو أنه يخرجُ من فم قيثارةٍ، ويُربكني مِثلَ وحيٍ في ليلةٍ ظلماء. ألهذا السّبب مولاتي لم ترغبي في الخِلان أو حتى الأزواج!، أيُعقلُ أنّ لا أحدَ استطاعَ إثارةَ السؤالَ فيكِ.

– تتابع آيونا شرودها في الضّفةِ المُقابلةِ ثمّ تقول:

– بالعكسِ يا مراكوس، كلّ من عرفتهم أثاروا فيّ الأسئلةَ، نبلاء وخدم وملوك، بل كلّ ما حولنا هو مثيرٌ للسّؤال، ومنهم من كانَ يُضيفُ إلى أسئلتي، وأطربُ لوحيِه، أحدهم كانَ نبيلَ تاوِس ”، آه لذاكَ الرّجلِ، كأنما شَخصهُ مجموعةٌ مِن نفائسِ الأسئلة.

– وهو مولاتي وهو، تلكَ القامة المهيبة والعينين الفاحمتين والملامح الشّغوفة كما لو أنّه واحداً من آلهتنا، وقد كانَ يتوقُ إليكَ كما تتوقُ الصحارى للمطر، فكيفَ بقيَ حيثُ هو مولاتي كيف! يكادُ يخيل إلي أنّ عدمَ زواجكما هو فعلُ سحرٍ أسودَ.

– ضحكت آيونا مجدداً لكن بصوتٍ أعلى:

– لم يكن سحراً أسوداً يا مراكوس، لم يكن.

– إذاً، لماذا مولاتي!!

– لأنّ جُلسائي يا مراكوس سييقونَ فقط جُلسائي، وما أُعطيهِ أو آخذه حولَ المائدة لَن يُزادَ عليهِ شيء آخر.

– هل تَخشينَ على نفسكِ مولاتي مِنهم، أو أنّكِ ترومينَ لأشخاصٍ لا يشاركونكِ المائدةَ؟!

– لا هذا ولا ذاكَ يا مراكوس، بل أخشى من سُلطاني عليهم أ

– سُلطاني الذي ورثتهُ من دماءِ أبي، وسُلطاني الذي اكتسبته مِن اللايقين، وسُلطاني الذي انتزعتُهُ من الزّهد وهوَ أقواهم.

– آهٍ مولاتي، أوليسَ الزّهدُ فضيلةٌ تُقرّبك من العامّة، فلمَ لا تبحثينَ لنفسكِ عن رجلٍ بسيط تتخذينهُ خليلاً فتكسرينَ به عذريّة التجربة!

– البسطاء يا مراكوس ليسوا بزهّاد، فهم بشهوةٍ دائمةٍ للطّعام، أمّا أنا فإنّي آكلُ دونَ شهيّة، فأصعبُ الدروب إلى الحكمةِ هو انتزاعُ رائحةِ الحساء من الأنوف.

– مولاتي، سيمرّ بكِ الزّمنُ، وقد تندمينَ يوماً، وأنا أأسفُ لقولِ هذا.. تقاطعهُ.. صه.

   ثمّ تتابعُ الشّرود إلى الضّفّةِ المُقابلة.

– انظر هُناكَ يا مراكوس، انظر لِتلكَ الأفعى المنتصبةِ في الشّمس.

– ينظرُ مراكوس ليرى الأفعى كما لو أنها فرعٌ غُرس في الأرضِ في يومٍ ساكن، بينما يحومُ السّمّان في الأجواءِ عبثاً ومَرحاً، يدنو قليلاً من علياءِ سمائه ثمّ يعودُ ليرتفعَ.

– الزمن يا مراكوس لا يمُرّ على المُنتظرين، بل على عكسِ ما تتوقع، إنّهُ يقفُ تماماً كما وقفَ عند تلكَ الأفعى دون أن تشغِلها غواية الشّقرقة، وما أن تحين الفُرصةُ، ويرى الآخر (الطير) في عينِ حقيقتهِ هوَ، أنّها مُجرد عصا، سيحطّ على فمها فتُطبِقٌ عليهِ مُشبعةً جوعها، ويبدأ الزمن يمشي إلى وقفةٍ أخرى.

– وأمّا أنا يا مراكوس فقد مشى زماني سلفاً، فقد سبقً وقلتُ لك، أنّي أزلتُ رائحةَ الحساءِ مِنَ الطّريقِ.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني