fbpx

حارة المؤيد وحكايات الجن والعاشقات لعماد نداف.. حكاية كل حارة…

0 76

بين الخيال الواسع والواقع، ينقلك الكاتب عماد نداف في روايته حكايات حارة المؤيد – الجن والعاشقات إلى عوالم خاصة، ويحلّق بالقارئ بعيداً في حكايات قريبة من حياتنا، كما لو أنها حكاية كل واحد فينا. فالحكايات في الشام تشبه ألف ليلة وليلة، فالشام عمرها 12 ألف عام، وتقاليدها راسخة، والسياسة بين أهلها كالمأكل والمشرب يتناولها الجميع ويشاركون في صنعها معاً، إلى جانب السياسيين والقادة. فالتاريخ في دمشق يختلف عن تاريخ المدن الأخرى… تاريخ دمشق يختصر تاريخ أولئك المحاربين ضد الظلم والطغيان، والصائمين في رمضان، والعائدين من مواسم الحجيج، والتجار الذين يجوبون العالم منذ عهود طويلة وينشرون خبراتهم التي اكتسبوها، فهم أساس وجوهر الحياة الإنسانية بتفكيرهم الجمعي، العام والعميق… ففي الشام تتعاقب الأجيال والأيام، فلا يشيخ الشباب، ولا ينضب الربيع.

يبدأ الكاتب حكاياته ولا ينتهي من غرفة العناية المشددة التي دخلها فادي المصاب بالحمى وهو يهذي، فإذا به يعود إلى الزمن الماضي ويستعيد طفولته التي عاشها في حارة المؤيد في الجسر الأبيض وسط دمشق، ويستعيد ذكرياته في تلك الحارة التي يتشاطر ذكرياتها وأحداثها مع أسرته، أسرة أبو حامد المكونة من الأب والأم وحامد وفدوى، ويستعيد ماضيه وذكرياته في حارة المؤيد مع ديمة ابنة ناظم الإيتوني. وكان فادي يقطن مع أسرته في حارة مجاورة لحارة المؤيد، ولكن والده أبو حامد انتقل إلى حارة المؤيد واستأجر منزل أبو مالك عبد ربه الفسيح الذي تركه بسبب ظهور الجن فيه، حيث تدور أحداث الرواية داخل هذه الحارة الشامية، وتنتهي بزوال حارة المؤيد من على الخارطة، بتجريف منازلها العامرة بالأشجار وأحواض المياه والأزهار الفواحة والناس الطيبين، ومسحها وتهجير أهلها، ليس بسبب الحروب والعنف، وإنما بسبب الخرافة التي سيطرت على عقول الناس بوجود الجن والشياطين بصورة القطط السوداء المخيفة في منازل الحارة، حين ظهرت لأول مرة في البيت – القصر الذي يملكه الدكتور خالد المؤيد، والذي ورثه عن والده عادل، كما ظهرت الجن في بيت شكري القوتلي، الذي كان أحد قاطني الحارة، وفي بيت ناظم الإيتوني، حيث لطشت الجنية ابنته فايزة وهي عارية في غرفتها، وفي بيت مالك عبد ربه، الذي تمتع بنفوذ قوي ولديه أسرة مثقفة، وابنه مالك صحفي معروف يشتغل بالشأن العام. كما ظهرت الجن في مطبخ أبو مالك عبد ربه، وفي البيت الأسود….

تحولت الجن كرمز للخرافة إلى واقع، فالقطط تموء ولا تُرى، ما يزيد حالة الخوف لدى سكان الحارة… فعندما ظهرت الجن في بيت أبو مالك عبد ربه، تذكرت أم مالك ما قالته أمها ذات يوم، من أن الجن والشياطين صورة الشر والفتنة في حياتنا. وكانت تقول لنفسها المثل الشعبي: (لا تفكر بالجن فيحضرون)، وكان الجميع يتساءلون: أيكون الجن قد غزوا بيتنا فعلاً؟ ولماذا يظهرون للبعض ولا يظهرون لبعضهم الآخر؟.

… بين الوقائع اليومية التي كان يسجلها أبو صلاح البوشي السمان في حارة المؤيد على دفتره، والتي يسجل عبرها يوميات الحارة الاجتماعية والسياسية، العام منها والخاص، ومنها زيارة جمال عبد الناصر إلى منطقة العفيف بدمشق وتناوله الفلافل في أحد المطاعم، و… بين العلاقات الأسرية المتينة بين العائلات التي تسكن حارة المؤيد، التي كانت مفعمة بالنشاط والحيوية، وبين الآباء والأبناء، وبين عشاق حارة المؤيد، كان يسرد الكاتب عماد نداف حكاياته ببساطة ويُسر، وهو ينتقل من حكاية إلى أخرى، ومن منزل إلى آخر، ومن حادثة إلى أخرى، كما لو أنه يحمل كاميرا تصوير بدقة عالية، فيعكس البيئة الشامية التي عاش حياته كلها في جنباتها وبين أهلها. وهو يحاول أن يؤرّخ أدبيّاً لتلك المرحلة، أيام الوحدة بين مصر وسورية.. ويُظهر عماد نداف في روايته كيف يمارس أبناء حارة المؤيد السياسة بتلقائية دون تكلف، ودون أن يكونوا ضمن أحزاب سياسية، فهم بعفويتهم وعمق تفكيرهم يميزون بين الصالح والطالح منها، وهم معنيون بالوطن، ومسؤولون أيضاً عما يصيبه.

عندما يقول الأدب كلمته في السياسة، يكون للغة وقعها الخاص في النفس البشرية، ويكون للحوار الاجتماعي والسياسي حول مختلف القضايا العامة والخاصة أهمية بالغة. وقد اختار عماد نداف شخصياته من الأوساط الشعبية، حارة المؤيد البسيطة، من التجار وأصحاب المهن العادية، وأجرى بينهم وبين السلطات القادمة الجديدة حوارات، حيث أضفت شخصية الرئيس شكري القوتلي كشخصية واقعية، وكزعيم سياسي، وكمواطن من قاطني حارة المؤيد، حالة من التشويق والإثارة، عدا عن حضور الأمير الجزائري في حارة المؤيد في تلك الفترة، حيث كانت تجري حوارات سياسية واجتماعية حول قضايا متعددة، حديثة وقديمة، نقلها الكاتب الروائي على ألسنة شخصياته المتنوعة، المفعمة بالحيوية والنشاط، والتي تتوزع بالتساوي بين النساء والرجال، وبين الصغار والكبار، فأعطى لكل جيل وجنس ميزات وصفات وأهواء خاصة. ومع أن أبطال روايته هي أسرة ككيان مستقل، بمن تضم من آباء وأبناء من أعمار مختلفة، ومع أنهم مواطنون عاديون، فقد رفعهم نداف في روايته إلى مصاف رجال السياسة العظام، فكانوا يقررون ويتخذون المواقف اليومية، كما لو أنهم زعماء يديرون، ليس أسرهم وشؤونهم الخاصة، وإنما كانوا يظهرون وكأنهم يديرون العالم، في طريقة حياتهم، وفي مأكلهم ومشربهم، وعاداتهم الراقية، في تلك الحارة الغافية على كتف قاسيون، والتي يمتلك أهلها هوية ثقافية واجتماعية راسخة، تنتقل من الآباء إلى الأبناء، كما تنتقل العقارات إلى الورثة… من جيل إلى جيل.

كان قصر خالد المؤيد – الذي تُنسب إليه الحارة في الجسر الأبيض – مركز الأحداث الكبرى التي شهدتها الحارة وأهلها، والتي انتهت إلى جنون صاحبه الدكتور خالد المؤيد، وتحوّل القصر إلى خربة قديمة، قبل أن يتم هدمه مع الحارة كلها، بعد أن هجرها معظم قاطنيها الأصليين، بسبب التغيرات السياسية والتحولات المجتمعية، بعد سقوط الوحدة وظهور القطط السوداء المخيفة داخل القصر وداخل البيوت. فعندما تذكر حارة المؤيد، فإن الجن والقطط السوداء ستحضر، وربما نحتاج إلى وقت طويل حتى ننتهي من سرد حكايات عماد نداف وقصصه عن القطط السوداء، كما لو أنه إحدى الجدات اللواتي يردن إخافة أحفادهن قبل النوم…

شخصيات رواية حارة المؤيد – حكاية الجن والعاشقات واقعية، وربما من الروايات النادرة التي يتغلب فيها الواقع على الخيال، فحارة المؤيد هي سورية مصغرة، وهي الوطن: تاريخاً وعادات وأحداثاً، فيها الحكايات، وفيها الذكريات، وفيها الأحلام التي كان فادي يعبر عنها وهو يهلوس في غرفة العناية المشددة. وقد نقل لنا الكاتب أحلام وذكريات فادي النظيفة والطاهرة بلغة بسيطة ومفهومة، وغنية بالمصطلحات والأمثال الشامية. كان فادي ينحدر من أرياف دمشق، ويقطن مع أسرته المدينة، ويحمل أفكاراً ثورية وأصيلة، يدافع عن المظلومين ويساعد الجيران… وكان فادي المصاب بالحمى جراء التعذيب، يحكي باللاوعي شوقه إلى حارته، وإلى حبيبته ديمة، كما يصور نداف من خلال ذكريات فادي وأحلامه وهواجسه حلم كل شاب عربي، عبر تقديم عادات الشام وأفراحها وأتراحها بصورة بهية وصادقة. ويخص نداف العلاقات الأسرية، والتماسك الأسري، واحترام الجيران لبعضهم، وعلاقة الأبناء بالآباء، وأسلوب وطريقة التربية التي ترقى لتكون مدرسة متكاملة في العلم والأدب، ويمزج الاجتماعي بالسياسي عبر حكاية فادي وأحلام طفولته، فيعرّفنا على المراحل التي عاشتها سورية من أيام حسني الزعيم، وصولاً إلى الانفصال، وحتى مرحلة حكم البعث وحافظ الأسد، وذلك وفق ما يسجل أبو صلاح في دفاتره.

من أهم ما يميز الكاتب عماد نداف في هذه الرواية توصيفه الدقيق للشكل الخارجي، واهتمامه بالشكل كجزء من المضمون، وها هو يقول عن الأمير الجزائري بعد أن ظهر في الحارة:
(كان الأمير الجزائري قاسي الملامح، ذا صوت متهدج أسر. كان شيخاً تقياً، ينادونه بهذا الاسم لأنه من سلالة الجزائريين الذين وفدوا مع الأمير عبد القادر إلى سورية، فأقاموا فيها، ولم يُلغِ انتماؤه للأمراء الجزائريين عيشة التقشف التي هو فيها).

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني