جدليّة الأنسنة والكراهية
لقد
سيطرت فكرة حقوق الإنسان على الفكر الإنسانيّ من النّصف الثاني في القرن العشرين،
إقراراً وفلسفةً وحقوقاً، وارتفعت الصّيحات العالميّة لجعل القيمة الإنسانيّة
والحقوقيّة معياريّة في الاجتماع السّياسي لما لها من أهميّة ومحوريّة في الفكر
الإنسانيّ والمنظومات الدّوليّة.
ويؤكّد
كثيرون بأنّ الحقوق والقيمة الإنسانيّة ستمثّل القضية الأولى في الأوليّات
الإنسانيّة المستقبليّة، وستزداد مساحة الدّراسات والاهتمامات الفلسفيّة والفكريّة
والحقوقيّة والقانونيّة المحصّنة لهذه الحقوق، وسوف تبقى سجاليّة الحقّ الإنسانيّ
هي المعياريّة الجوهريّة في العقل العالميّ في كلّ مرجعيّاته ومنظوماته المعرفية
والمدوّنة القانونيّة، وعلى هذا الاعتبار لابدّ من إغناء وإثراء القيمة والحقوق
الإنسانيّة بما يحافظ على كينونة وحقّ الكائن الإنسانيّ واحترام خياراته ونزوعه
الفكريّ والوجودي والدينيّ والثقافيّ، على أساس أنّ هذه الخصوصيّات والميزات هي
جوهر التّفرّد الإنسانيّ ضمن إطار المشترك الأعلى الذي هو القيمة الإنسانيّة
العليا والاختلاف والتّعدد الكامن في هذا النّموذج البشريّ.
فالاختلاف
الإنسانيّ في اللّون والعرق والثّقافة هو اختلاف تنوّع واختيار يمكن أن يغني
العلاقات الإنسانيّة والحضاريّة بقيم مشتركة هائلة تكوّن جسراً للوئام والتّعارف
الإنسانيّ القيميّ، وتؤسّس للتّسامح والعيش المشترك دون مركزيّات عنصريّة أو شوفينيّة ترى وجوب
احتقار وكراهية الآخر من خلال أفكار تحيّزيّة وهميّة أرادت أن تجعل من المركز
الغربيّ محوريّة ومركزيّة تحدّد طبيعة النّظرة للآخرين جنساً وعرقاً وحقوقاً، ورغم
ذلك استطاعت كثير من الدّول المتحضّرة أن تصوغ وتقونن قوانين صارمة في صون حقوق
الإنسان واحترام الخصوصيّات الثّقافيّة والدّينيّة وتجرّم من يدعو أو يرتكب شيئاً
من خطاب الكراهيّة والاعتداء على الآخرين، على أساس المادة الثّانية من العهد
الدّوليّ “تُحضر بالقانون أيّة دعوة إلى الكراهيّة القوميّة أو العنصريّة أو
الديّنيّة تشكّل تحريضاً على التّمييز أو العداوة أو العنف” وذهبت أكثر هذه
الدّول إلى إنشاء عقوبات قانونيّة رادعة في هذا السّياق، ففي القانون الألمانيّ
يعدّ التّحريض على الكراهيّة والمعاداة جريمة يعاقب عليها القانون تبعاً لما جاء
في المادة /130/ من القانون الجنائيّ الألمانيّ ويبلغ مدى هذه العقوبة حتى خمس
سنوات سجناً، لأنّ القانون الألمانيّ يحتم ويحدّد قانون “كليّة الوجود”،
وهذا يعنيّ التّساوي في القيمة والاعتبار الإنسانيّ والحقوقيّ على حدٍّ سواء،
وكذلك القانون البلجيكيّ الذي أقرّ قانوناً لمكافحة العنصريّة عام 2017 جعل من غير
المقبول ترويج خطاب التّمييز والكراهيّة بدوافع عنصريّة أو إرهابيّة، وهكذا في
أغلب دول الغرب الأوربيّ وأمريكا وكندا.
وقام
مجلس أوروبا (Council
of Europe) بدعم حركة “لا لخطاب الكراهية”
للمساعدة في مكافحة ومواجهة هذه المشكلة.
وضمن هذه الجهود الإنسانيّة الرائدة في
مكافحة الاعتداء والكراهية عند الغرب لم تحقّق الدّول الأوتوقراطيّة في العالم
العربيّ والإسلاميّ وفي الدّول الشّموليّة الأخرى شيئاً له قيمة اعتباريّة في هذا
الحقل الحقوقيّ، بل ذهبت هذه الأنظمة إلى تطويق واستغلال هذه القوانين الشّكليّة
لمحاصرة المجتمع والمعارضة في ضرب وتفتيت الحرّيات والديمقراطيّات في هذه الدّول
المستبدّة بذرائع إثارة النّعرات الطائفيّة والكراهيّة ضد الآخر، والآخر هو
السّلطة المستبدّة وحواضنها الانتهازيّة المؤيّدة لها، وكلّ ذلك بحجةّ الحفاظ على
السّلم الأهليّ المزيّف والشّرعيات القانونيّة السّلطويّة الّتي تعني عدم مسّ رموز
السّلطة في إطار قانونيّ مكذوب ومزعوم ممّا أدى إلى تطويق كلّ الجهود القانونيّة
والحقوقيّة في محاسبة ونقد الحاكم والدّولة المركزيّة، وتحويل هذا النقّد إلى
جريمة بحد ذاته، وهذا ما جعل قوانيّن المحاسبة على خطاب الكراهيّة قوانين سلطويّة
تقويضيّة لحقوق الأفراد والمجتمعات في نقد السّلطات المطلقة والملكيّات
الاستبداديّة ما أدّى إلى دكتاتوريات مقوننة تحاصر المجتمع المدنيّ وقواه الحيّة
المعارضة وتنسف خياراته في نقد ومراجعة مظاهر الانحراف والفساد في هذه السّلطات.
إنّ العالم يتطوّر ويتقدّم في ابتكار كلّ
الآليّات والأدوات التّقنيّة والقانونيّة والحقوقيّة لمحاصرة خطاب التحّريض
والكراهية بشكل جعل وسائل التّواصل الاجتماعيّ فيسبوك وغوغل
وتويتر توافق على مدوّنة ضبط السّلوك التّابعة للاتّحاد الأوربيّ فيما يخصّ
الخطابات المفعمة بالكراهية ضد الآخر.
إنّ
من أولى الضّروريّات والأبجديّات الإنسانيّة والحقوقيّة إعادة تفعيل المخزون
الثّقافيّ والقيميّ للإنسان في المدونّة الحضاريّة الإسلاميّة، وكيف تنظر الثّقافة
والمرجعيّة الإسلاميّة للآخر المختلف دينيّاً أو ثقافيّاً أو عرقيّاً بأنّه “أخٌ
لك في الدّين أو نظيرٌ لك في الخلق”، إنّه خطاب تأسّس على وعي دينيّ إنسانيّ
متألّق في النّظرة الفلسفيّة والمعرفيّة تجاه الآخر، ليكون الخطاب الإلهيّ
“لتعارفوا” خطاباً حاضراً في الوعي والعقل الجمعيّ الإنسانيّ والحضاريّ،
وبهذه الصّورة والمنهج يتحرّر مفهوم ومصطلح “خطاب الكراهيّة” إلى خطاب
الوئام والمحبّة والأنسنة لا إلى خطاب الحياد السّلبيّ كما هو شائع في كثير من
المجتمعات الإنسانيّة، إنّ قيمة المفهوم والقانون أن يتحرّك في إضافة القيم
الإيجابيّة والفاعليّات الإنسانيّة والحقوقيّة ليشكّل مقاربة تعارف وتآلف مع الآخر
في مشترك إنسانيّ ثابت ومطلق يعبّر عن قيمة الأنسنة المطلقة في حقل الاجتماع
الإنسانيّ، ولكي تنتقل الفكرة من حيّز الإطار القانونيّ الجامد المحصّن للحقوق إلى
حيّز حركة الوجوب والضّرورة الإنسانيّة والحضاريّة المشتركة والفاعلة، وهذا يعطي
المفهوم حضوراً وقيمةً أعلى من كونه حقّاً مجرّداً للأفراد والجماعات الدّينيّة
والإثنيّة والثّقافيّة المختلفة وبذا تحدث النُّقلة النّوعيّة في طرح المفهوم من
الضّرورة القانونيّة والحقوقيّة إلى الواجب في مقاربة هذا المفهوم وإعادة تأصيله
وبلورته من جديد على أساس من الاقتراب والتّشارك في هذا الكلّ الوجوديّ الإنسانيّ.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”