جدلية التفاوض.. والغائب عن مفاوضات المعارضة مع النظام في جنيف
الحديث عن أي تفاوض يتطلب بالضرورة الحديث عن شروطه وظروفه، فالتفاوض أساساً هو أحد الأساليب المعروفة لإدارة الخلافات واتخاذ قرارات بشأنها.
والتفاوض يعني العمل على قضية مستعصية يجب حلها، وهذا يمكن تلمسه في صراع سياسي أو عسكري، ما يتطلب جلوس أطراف النزاع حول طاولة تفاوض لإيجاد مساحة اتفاق يمكن اعتمادها لحلّ هذا الصراع.
ولكن قبل ذلك، يجب توفر شروط تشكّل ركيزة لعملية التفاوض، من هذه الشروط وأهمها إدراك أطراف النزاع أن لا حل للاستعصاء القائم بغير تفاوض، وهذا يعني القبول بالعملية التفاوضية.
قبول التفاوض يعني قبول وجود تسوية، هذه التسوية يتحكّم بها ميزان قوى يتغيّر من حينٍ إلى آخر، وبالتالي تتغير نتائج التفاوض طرداً مع محصلة ميزان القوى واتجاهه، وذلك يتطلب زمناً محدداً تنتهي فيه المفاوضات، سيما أن بقاء الاستعصاء السياسي للصراع سيفرض بمرور الوقت تعقيدات إضافية تقف خلفها عوامل جديدة لم تكن موجودة من قبل.
ولكن الشرط الأهم للتفاوض هو الاستعداد الحقيقي والجاد له، بغضّ النظر عن سقف مطالب أطراف النزاع، وهذا يجب أن يترافق مع عوامل تأثير، أو تدخلات ذات وزن سياسي ونفوذ واضحين، فبدون ذلك يبقى التفاوض مجرد دوران في فراغ لا أفق له.
والسؤال أين المفاوضات التي تجري بين قوى الثورة والمعارضة من جهة والنظام الأسدي من جهة أخرى والجارية في جنيف على أساس القرار الدولي الشهير 2254؟ وهل هي تسير على سكة الحلّ؟ أم أنها عملية عبثية من جهة النظام، تحتاج من قوى الثورة والمعارض إعادة النظر بواقع التفاوض وشروطه وظروفه؟ ما يستدعي البحث عن تغييرات ممكنة في ميزان القوى القائم حالياً، وذلك عبر تغيير الأدوات والوسائل المستخدمة في الصراع.
إن مفاوضات جنيف عبر حلقاتها المتعددة، لم يحدث فيها اختراق جدي يفضي إلى تلمس تسوية للصراع السوري تكون مقبولة لدى طرفي هذا الصراع، والسبب بذلك، يتعلق بطبيعة هذه المفاوضات، وبمحصلة ميزان القوى بين طرفيها، والذي يميل لمصلحة نظام الأسد، هذه المحصلة لم تدرك قوى الثورة والمعارضة قيمتها النهائية، ولهذا لم تعمل على تغييرها، وبالأصح لم توفّر لها شروط التغيير، وهذا يعود إلى انقسام جدي في قوى المعارضة بشقيها الرئيسيين، فالقوى السياسية لا تملك سلطة قرار قيادة الفصائل العسكرية، لتضع ورقة المعادل العسكري على طاولة التفاوض، أو العمل على تغيير أساليب إدارة الصراع بين قوى الثورة عموماً وبين النظام الأسدي.
إن عملية المفاوضات الحالية التي تلتئم من وقت إلى آخر، وسلتها هي السلة الدستورية، لا يمكن القبول باستمرار نسق إدارتها الحالية، وقبول قواعد عملها الجارية، والتي يديرها السيد المبعوث الأممي “غير بدرسون”، فهي لا تتوفر فيها شروط التفاوض، فالنظام الأسدي الذي يعمل على تعطيلها باستمرار، يحضرها تحت ضغط روسي يتسم بجوهره بالمناورة، وعدم القناعة بإيجاد حلٍ سياسي على أساس القرار 2254.
عملية التفاوض القائمة في جنيف حالياً، تحتاج إلى إعادة النظر جديّاً بمحصلة ميزان القوى القائم حالياً، وهو ما يعني، جعل هيئة المفاوضات بطورها الجديد، بعد انتخاب رئيس لها منذ أيام، تعمل على قاعدة الإصلاح الشامل لمرجعها الرئيس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، أي تعمل على تطوير علاقتها من خلال الائتلاف مع الحاضنتين الشعبية والثورية على قاعدة المطالبة بتنفيذ القرار الدولي 2254، الذي يتضمن، تشكيل هيئة حاكمة انتقالية ذات صلاحيات تامة، وإنتاج دستور جديد للبلاد ينتفي منه أي تمييز أو استمرار للاستبداد بأي صورة من الصور.
حاولت الأمم المتحدة عبر قراراتها الخاصة حل الصراع السوري بين قوى الثورة والمعارضة من جهة والنظام الأسدي من جهة أخرى، وكان قد صدر بيان جنيف1 بعد اجتماع قمة أمريكي روسي في الثلاثين من حزيران/يونيو عام 2012، والذي جاء فيه: “أن أي تسوية سياسية للأزمة السورية يجب أن تتضمن مرحلة انتقالية من خصائصها توفير مستقبل يمكن أن يشارك فيه السوريون فيه كافة”. بعد ذلك صدر القرار 2118 عام 2013 بعد هجوم النظام بالأسلحة الكيماوية، ثم القرار 2254 أواخر عام 2015 بعد تدخل عسكري روسي في الصراع لصالح النظام الأسدي.
إن غياب محصلة ميزان قوى فاعل عن قوى الثورة والمعارضة هو من يجعل النظام السوري وحلفاءه يعملون على تفريغ المفاوضات في جنيف من أي نتائج ممكنة تؤدي إلى حلٍ يقارب جوهر القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع السوري، وهذا يرتّب على الائتلاف وعلى هيئة المفاوضات انتهاج طريق التمسك بالقرارات الدولية أولاً، وتعميق ارتباطهما بحاضنتيهما الشعبية والثورية ثانياً، وبزيادة آليات النشاط الديبلوماسي مع الدول المؤثرة بالصراع السوري والمتعاطفة مع ضرورة تغيير نظام الحكم الاستبدادي بنظام حكم جديد توافقي يقوم على بناء دولة المؤسسات القانونية التي يتم فيها تداول السلطة بصورة سلمية شفافة عبر انتخابات تراقبها الأمم المتحدة.
إن هيئة المفاوضات التي انتخبت رئيسها الجديد الدكتور بدر جاموس، مطالبة بتفعيل حراكها من خلال إعادة إنتاج وحدتها على أسس الثوابت الوطنية وثوابت الثورة السورية، وفي مقدمة ذلك، التمسك بضرورة تحقيق الانتقال السياسي، من خلال الإصرار على تنفيذ القرار 2254، وتمتين وحدة مكوناتها، وجعل القرار فيها يرتكز على قاعدة التوافق والثقة وليس على قاعدة الأكثرية والأقلية أو المحاصصة.
إن السوريين ينتظرون من هيئة المفاوضات السورية العمل الحقيقي على تزامن التفاوض على السلال الأربع، التي يتضمنها القرار الدولي المذكور، وإن إهمال التفاوض المتزامن من شأنه إضعاف فعالية المفاوضات ومنح النظام تنازلات لا يمكن القبول بها، فغاية القرار الدولي 2254 هي تحقيق الانتقال السياسي وقيام عدالة انتقالية، مما يمنع العودة لحالة الاحتقان التي تسبب بها شن النظام لحربه على الشعب السوري.
إن التقارب السعودي – التركي، وزيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتركيا، من شأنه أن يساهم في إعادة هيئة المفاوضات إلى مربع وحدتها المعطّل، هذه الوحدة حاسمة في تفعيل عمل هيئة التفاوض، سيما بعد التطورات الحاصلة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذا يتطلب من رئيس الهيئة الجديد البحث عن مربعات توافق وطنية ملموسة، لانطلاق عمل هيئة المفاوضات بصورة فعّالة وقوية، لإنجاز ما ينتظره السوريون من انتقال سياسي حقيقي، يمهّد لعودة اللاجئين، وقبل ذلك، الكشف عن مصير المعتقلين، وإطلاق سراح الذين لا يزالون قيد الاعتقال.
السوريون في انتظار للإصلاحات الشاملة للائتلاف ولإعادة وحدة وفعالية هيئة المفاوضات، ولا يمكن قبول خذلانهم البتة تحت أي ظرف أو مسمّى.