جائحة كورونا السورية
تكاد تكون جائحة الكراهية سمة من سمات مكونات المجتمع السوري تجاه بعضها، وإن كانت تختلف في شدتها وعمقها بين مكون وأخر. أكثر تجلياتها وضوحاً اليوم هي الكراهية المنتشرة بين عموم العلويين والسنة بسبب تعاطف الأكثرية السنة مع ثورة الحرية والكرامة ووقوف معظم ابناء الطائفة العلوية إلى جانب النظام لأسباب أعتقد أنها باتت معروفة ومفهومة. فالمكون العلوي قابع في السلطة والمكون السني خارجها عموماً. وتتبدى الكراهية أيضاً، وإن بدرجة أقل بين العرب والكرد، خاصة بعد عملية غصن الزيتون وعملية نبع السلام التركية في شمال شرق سوريا، أو ما يطلق عليها اسم منطقة الجزيرة بين السوريين، كما أن هناك ملامح لخطاب كراهية بدا بين سنة درعا ودروز جبل العرب في السويداء، كما انتشرت المخاوف كذلك بين باقي المكونات.
بالإضافة إلى ذلك، أود أن أشير إلى خطاب كراهية مضمر ومسكوت عنه وقد لا يعبر عنه بخطاب مباشر، وهو خطاب الكراهية والافتراق بين المدينة والريف، وخاصة بين ريف حلب وسكان المدينة، الذي بدا واضحاً مع دخول فصائل الجيش الحر الريفية إلى المدينة وسيطرتها على الأحياء الشرقية. ويبدو أن هناك مشاعر شبيهة بين مدينة دمشق والريف المحيط بها. دمشق وحلب هما أكبر مدينتين سورييتين، وتضمان المخزون الحضاري والثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي لسورية ككيان وطني. هناك مخزون من النظرة الدونية متراكم يتحمله سكان المدينتين تجاه سكان الأرياف، وهؤلاء يحملون مخزوناً من الحقد والرغبة بالانتقام من سكان المدينتين نظراً لحجم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بينهما تاريخياً. أتاخت ظروف الثورة للنظام اللعب على وتر التناقضات الاجتماعية والطائفية بين العلويين والسنة، وتناقض المصالح بين الريف والمدينة خاصة بعد أن تعسكرت الثورة وتأسلمت، وكان هناك دور أقليمي في تغذية خطاب الكراهية وهذا ما يجب التوقف عنده والبحث في كيفية التصدي لهذا الخطاب المتفاعل بين الطائفية الأقليمية الشيعية التي استدعاها النظام كحزب الله والميليشيات الإيرانية والعراقية، ونقيضها المنظمات المتطرفة السنية العابرة للحدود والمجتمعات، والوافدة إلى سوريا من دول الجوار بعد أن استدعتها ممارسات النظام وأعمال القمع الدموية والمجازر التي ارتكبتها السلطة ضد الأكثرية السنية.
تم التاسيس لجائحة الكراهية المركبة هذه نتيجة سلوكيات وممارسات النظام السوري الذي تأسس منذ عام ١٩٦٣. فالنخبة الانقلابية كانت تنتمي عموماً للريف، وكان جوهر هذا الانقلاب الاجتماعي بمضمونه هو انقلاب الريف على المدينة وإقصاء النخب المدينية عن اَي دور في الحياة العامة والسياسية لسورية مابعد الانقلاب. ومن ثم تعمقت وتمأسست وفق منظومة الحكم القائمة منذ عام ١٩٧٠ـ والتي عملت على تمزيق النسيج الاجتماعي للسوريين من خلال زرع الكراهية والريبة والتشكيك والحذر بين مختلف المكونات بغية إحكام سيطرتها عليها جميعاً. ومما لا شك فيه أن خطاب الكراهية هذا أصبح أكثر وضوحا وأكثر جرأة في علنيته عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وما ساعد على ذلك طبعاً هو ماحصل من سياسات متبعة وممنهجة من قبل النظام للتصدي ومواجهة ثورة الحرية والكرامة الانسانية التي انطلقت في منتصف شهر آذار من عام ٢٠١١، وعلى الرغم من أن الثورة رفعت شعارات وطنية جامعة: سورية بدها حرية ، الشعب السوري واحد ، جمعة سلطان باشا الاطرش ، جمعة صالح العلي ، جمعة الجمعة العظيمة، لكن هذا الجامع سرعان ما تبخر مع عسكرة الثورة واسلمتها .
لقد حرص النظام على اثارة مخاوف المكون العلوي الذي ينتمي اليه بعصبية جاهلية لشد عصب الطائفة تجاه الثورة باعتبارها تهديدا من قبل المكون السني الأكثري المهمش ، وروج لخطاب يدعو للاستعداد للدفاع عن الطائفة للرجل الأخير ، وان الثورة بجوهرها هي ثورة سنية تريد إبادة العلويين باعتبارهم منشقين عن الاسلام وبنفس الوقت يزيد من ممارساته الطائفية بشكل هادف للمكون السني لتزداد هويته في تطرفها وعدائها للآخر بموجب معادلة صفرية اما نحن وأما هو الآخر المختلف .
اذا كان ما تقدمت به دقيقا ، هذا يعني ان التفكير بمواجهة جائحة الكراهية يتطلب جهدا وطنيا سوريا جماعيا ودعوة وطنية موجهة الى مختلف مكونات الشعب السوري خاصة السنة والعلويين والكرد والعرب للنقاش ، حول اَي وطن يريدون ؟ هل يريدون تقسيم سورية الى إقطاعيات طائفية ، ام دولة اتحادية ؟ ام نظام برلماني ؟ ام المحافظة على النظام الرئاسي ؟ كلها أسئلة محقة وهناك ضرورة للإجابة عليها من قبل جميع النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية .
حملة هذه الدعوة هم النخب الثقافية وفاء لواجبهم الأخلاقي ووفاء للحرية التي تشكل رايتهم من أجل لنهوض بالوطن الذي يتهاوى امام اعينهم. اذا اردنا وطنا متماسكا اخلاقيا ووطنيا وسياسيا لجميع ابنائه بغض النظر عن هوياتهم الفرعية ، عليهم جميعاً ان يؤمنوا إيماناً راسخاً ان هويتهم الأساسية هي كونهم مواطنون سوريون اولا ، وقبل اَي هوية اخرى سواء كانوا مسلمين او مسيحين ، سنة ام علويين ، عربا ام كردا ام تركمان او آشوريين او أرمن، دروز أم اسماعليون أم شيعة ، سكان مدن ام سكان أرياف ، بدو ام حضر ، قبل كل هذه الهويات الجزئية او الفرعية. لإن تلك الأخيرة إن تحولت الى هوية أساسية تصبح هويات قاتلة كما قال الكاتب امين معلوف ، تبقى الهوية الأساسية التي نعرف بها أنفسنا امام الآخرين ، اننا كلنا سوريين اولا ، وبغض النظر عن التصدعات والتشوهات التي اصابت المجتمع السوري تحديدا منذ عام ١٩٦٣ وما تلاه . إن هذه المهمة الوطنية عليها ان تستنفر الطاقات لآداء الواجب الأخلاقي والوطني والسياسي تجاه هذا الوطن الذي اسمه سورية الجريحة الان. فنحاول تضميد جراحها التي حاولت الطغمة تشتيتها وتمزيقها للاحتفاظ بالسلطة عليها ضعيفة مهترئة يسودها الخوف والشك والتحفز بين ابنائها تجاه بعضهم ، وانتظار الفرصة للهجرة الى خارج الوطن هربا من جائحة الكراهية الى دول و مجتمعات لا تعرفها .
ولكن ليس كافياً أن تبقى هذه الدعوة مقتصرة على المثقفين والمثقفات من أفراد المجتمع السوري. فمهمة مكافحة جائحة الكراهية ثقيلة وصعبة، والخطاب الثقافي بطبيعته خطاب نخبوي لا يستطيع الوصول الى عمق المجتمع بطبقاته المحافظة والبسيطة والتي تتاثر بعوامل كثيرة ومتعددة تلعب فيها المعتقدات والأيديولوجيات والذكورية دورا مدمرا، ولرجال الدين أيضاً دور متجذر داخل الطبقات الشعبية والذي يستطيع التعبئة والتحشيد لخطاب الكراهية. لذلك لابد من مساهمة رجال دين متنورين ونهضويين من مختلف الطوائف في حملة مكافحة خطاب الكراهية بين السوريين ، ليس الامر فقط كما يتصور البعض ان خطاب الكراهية هو خطاب النخب المتصارعة في سبيل السلطة ، القضية أعمق من ذلك وتضرب بالجذور الاجتماعية والثقافية. كان هذا الخطاب يتقلص وينكمش ويتآكل تدريجيا قبل عام ١٩٦٣ ، بفضل وجود مجتمع ودولة تسودها قيم الحرية والديموقراطية والتعددية والعدالة والمساواة والمواطنة نسبيا ، وكان السوريون يطمحون للوصول الى مجتمع متماسك على أسس وطنية سورية اولا تلغي اَي مظهر من مظاهر التمييز بين أفراده او بين الرجل والمرأة والتساوي بينهم على أسس من قيم المواطنة الحقيقة بحيث يصبح الجميع مواطنون متساوون اما دولة القانون دون تمييز .
هذه المهمة تتطلب ايضا دعوة وانضمام نخب سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية ، كلهم متنورين ونهضويين ، اضافة للنخب الثقافية من نخب المجتمع السوري ورموزه التي تتسم بالأخلاقية والمصداقية كبح جماح جائحة الكراهية التي تجلت مؤخرا عبر وسائل الاعلام بالدعوة لإبادة ملايين السوريين من لون اجتماعي معين .
أعتقد انه آن الاوان لدعوة هذه النخب لتبني هذه الدعوة من خلال مؤتمر عام يعقد في اوربا في احدى الدول البعيدة عن محاور الصراع بسورية لضمان حياديتها ، وان يضع هذه المؤتمر الادوات والاليات الواجب اتباعها لمخاطبة مكونات المجتمع السوري بضرورة نبذ خطاب الكراهية ومكافحته بين مكونات الشعب السوري ووضع الآليات الإجرائية الممكن العمل عليها لوصول هذا الخطاب للداخل السوري وقبل ان نفقد سورية التي نعرفها .
مساهمة المعارض السوري سمير نشار في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع الاستاذ سمير نشار
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”