fbpx

ثقافة الاغتراب في العالم العربي

1 1٬187

رَمَتني صُروفُ الدّهرِ بين مَعاشِرٍ        أصَحُّهُم وُدًّا: عدوٌّ مُقاتِلُ

وما غُربةُ الإنسانِ في بُعْدِ دارِه           ولكنّها في قُرْبِ مَن لا يُشاكِلُ

الحَكَم بن أبي الصَّلْت

 

تواجه المجتمعات الإنسانية ثقافة اغترابية استلابية مدمرة تستهدف ثقافاتها المحلية والتقليدية. وقد بلغ هذا الاختراق الثقافي مداه في عالمنا العربي، حيث تدفع الإنسان العربي إلى مزيد من الهامشية والدونية والانحدار. ومع دورة هذا الامتداد المدمر لثقافة الاغتراب يجد الإنسان العربي المعاصر نفسه في حصار القهر الثقافي والتشيؤ والابتذال والضياع والانحدار والعطالة والجمود الوجداني.

وإذا كان الإنسان الغربي في حقيقة الأمر يعيش ثقافة اغترابية واحدة هي ثقافة الحداثة والعولمة وما بعدها فإن الإنسان العربي يعيش في ظل ثقافتين اغترابيتين حيث يجد نفسه بين مطرقة ثقافة الحداثة وسندان الثقافة التقليدية التي تشكل بدورها ثقباً أسود يلف ويدمر كل المعاني النبيلة في الإنسان. فالثقافة التقليدية العربية السائدة (أشدد على السائدة) كانت وما زالت نموذجاً فريداً لثقافة التخلف بكل ما تعنيه هذه الثقافة من قدرة على مصادرة الوعي والحرية والكرامة. وغالباً ما وصفت هذه الثقافة بأنها ثقافة الطاعة والاستسلام والانصياع والغيبية والاتكالية والقدرية، إنها كل ما حملنا إياه ماضي الظلام من خرافات وأوهام وتعصب وفئوية وعنصرية، إنها ثقافة الموت والعدم والإفناء، والتسلط والعدوان والقهر والمصادرة وتغييب كل القيم الديمقراطية والإنسانية في الإنسان.

ثقافتنا التقليدية تتصف بالعجز وتضع الإنسان العربي في حالة سلبية دائمة وغيبوبة نقدية فائقة الوصف، إنها ثقافة اغترابية بامتياز حيث يتميز الإنسان العربي المعاصر بالسلبية والدونية والعجز والتواكل والانغلاق والتعصب، وقد لا نبالغ في القول بأننا تحولنا إلى مومياء إنسانية في ظل الثقافة التقليدية التي تجرد الإنسان من قدرته على الانطلاق. والدليل القاطع على هذا الموات الروحي الذي نعيشه اليوم يتمثل في مواقف الشعوب العربية إزاء قضاياها ومصيرها الإنساني حيث نجد الإنسان العربي غير قادر على المبادرة أبداً.

دُمر العراق وأبيدت مقومات وجوده فلم نسمع صرخة عربية واحدة تدين الموت والقتل! وها هو اليوم كما الحال بالأمس يقتل الشعب الفلسطيني ويتعرض للإفناء، وتدمر كل القيم الإنسانية في أرض القداسة في فلسطين، فلا تهتز شعرة في جفون الشعوب العربية ولا يختلج لها الوجدان وذلك بدءاً من محيطها وانتهاءً بخليجها، لأنها في حالة خدر اغترابي مذهل الحدود وفي حالة موات قصية الأبعاد، لأنها في حصار الكفن الاغترابي لا حول لها ولا قوة. لقد أصبح الشعب العربي إزاء قضاياه المصيرية أشبه بالقطعان التي تغمض العين وتشيح بالوجه عندما تشاهد الخطر وهي تشعر بأن لا حول لها ولا قوة.

في ثقافتنا التقليدية ما زالت قضايانا الكبرى تتمثل في أضغاث أمور الحياة وصغائرها وفي هذا دليل كبير على حالة اغتراب ثقافية مذهلة. قد هزني، وأنا أسطر حروف هذه المقالة، مشهد ثقافي من مشاهد حياتنا الثقافية المثيرة، إذ اجتمع فريق كبير من الباحثين والدارسين والمفكرين وأصحاب الألقاب العلمية في موسم ثقافي مهيب في رأس السنة الميلادية لعام 2008، وكان موضوعه الرئيس وقضيته الكبرى هي: هل يجوز للمسلمين تبادل التحية في رأس السنة الميلادية؟ وبصورة أوضح هل يحق للمسلم أو يجوز له أن يعايد آخر مسيحياً كان أم مسلماً بعبارة “كل عام وأنت بخير”؟ وما عقوبة ذلك في الآخرة والدين؟ وما هي ضوابط هذا القول وأحكامه؟ وقد بادر الفصحاء والمتكلمون بخطب رنانة مُصقعة حول وجوب الامتناع عن تبادل التحية في رأس السنة الميلادية. تلك هي وأمثالها كثير هي القضايا الكبرى التي يناقشها مثقفونا وعلماؤنا ورواد الحركة الفكرية في بلادنا ممن ينتسبون إلى الثقافة التقليدية. وكم هي ندواتهم شبيهه بالندوات العلمية التي نجدها في الغرب، حول الثورات الرقمية، والجينات، والشيفرات الوراثية، وغزو الفضاء وتدجين الإنسان، واختراق الزمن، وقضايا النسبية، وابتلاع الضوء، والدورات الفلكية، وامتداد الكون؛ وقابلية الكون للفناء!! أين هذه من ندواتنا الحامية حول دخول الحمام، وملاعب الشيطان، والنكاح من الخلف والأمام، وتفسير الأحلام، والقراءة في الفنجان، وشهادة المرأة والصبيان، وقضايا الزواج من الإنس والجان.

حال الثقافة التقليدية بمعناها الاستلابي لا يختلف كثيراً عن حال ثقافة العولمة، فكلاهما ينهل من معين القهر ويسعى إلى تفريغ الإنسان من معانيه الإنسانية ومن مضامينه الأخلاقية، كلتاهما تعملان على تخدير الإنسان وتحويله إلى وثن إلى شيطان، كلتاهما تعملان على تعليب العقل وتدمير ملكة النقد وإسقاط الحس الجمالي والانحدار بالإنسان. والإنسان العربي المعاصر الذي يعيش في دائرة هذا التقاطع المرعب لثقافتين مدمرتين يتحول إلى كيان موميائي اغترابي لا حول له ولا قوة، إنه يعيش تضاعيف اغتراب تتكامل فيه العناصر الاستلابية والقيم الاغترابية للثقافتين التقليدية والحداثية. وغالباً ما تمتلك هذه القيم الاستلابية على قوة جذب وتدمير، فهي أشبه ما تكون بالثقوب السوداء المدمرة التي تعتصر نفسها وتلف ما يقع في طريقها بصورة أسطورية، إنها ثقوب ثقافية سوداء تبتلع الضوء والزمن وتلفّ أبعاد المكان والزمان، وتحول الإنسان في النهاية إلى مضغوطات استهلاكية فاقدة للمعنى والدلالة.

وما يزيد القهر قهراً والاغتراب اغتراباً أن ثقافة العولمة التي تصول وتجول في عالمنا العربي ليست عربية الصنع أو إسلامية الهوية، بل هي ثقافة الآخر التي تداهمنا وتداهم وجودنا الإنساني لتحطم أركانه. وهكذا يقع الإنسان فريسة ثقافة الآخر المدمرة التي فُرضت عليه من عالم مختلف المعاني والدلالات وليس لها صلة بعالمه إلا وفقا لدلالة التشيؤ والاستهلاك. وقد يبدو هذا التصور مأسوياً ولكنها حقيقة التطور ذاته حيث أصبح الإنسان العربي لا يستطيع اليوم الانفصال عن النتائج المدمرة لثورات الآخر الهائلة التكنولوجية والرقمية والافتراضية. وبالتالي فإن مأزق ثقافات العالم اليوم كما يقول وجيه قانصو “لم تعد قادرة على الصمود أمام عقلانية غربية تكتسح وتبتلع كل ما حولها دون أن تميتها، أي عقلانية تقتحم الحدود دون تصريح وتحدث خللاً في التوازن النفسي والاجتماعي، لقد وقعت جميع الحضارات داخل عنق الزجاجة، فلا هي قادرة على إغلاق نوافذها أو صمّ آذانها على ما يحصل في العالم، ولا هي قادرة بتكوينها التاريخي ومعادلتها الفكرية أن تستمر وتقاوم وتستمر”([1]).

وفي هذا السياق يرى بنجامين باربر في كتابه “الجهاد ضد السوق الكونية” بأن الآثار التفكيكية للسوق الكونية ستؤدي إلى مضاعفات وردود فعل عنيفة في داخل كل ثقافة، ومن ثم يؤكد أن قيم السوق الكونية العالمية سوف تنتصر في نهاية المطاف على الذين يتصدون لمقاومتها. حيث يقول: “إنني أتنبأ بأن المقاومة ستهزم في النهاية (إن لم يكن في أي وقت قريب) أمام السوق الكونية” وهذا التنبؤ يستند إلى القدرة الهائلة للثقافة الكونية على التغلب على كل ما يجابهها من ضيق الأفق الفكري ومحاولات الإبقاء على الكيانات الصغيرة. وهذا حتى الآن ما نراه أمام العين وما يقع أمام البصر، ففي ظل آليات الهيمنة العالمية تحولت الثقافة الاستهلاكية إلى آلية فاعلة لوضع الإنسان العربي في دائرة الاغتراب، ومن ثم تعليب قناعاته الوطنية والأيديولوجية والأخلاقية والدينية. وهكذا لعبت الثقافة العالمية الجديدة دوراً كبيراً في تدمير البنى التقليدية للمجتمعات العربية وحولت الإنسان إلى قيمة استهلاكية.

فالثقافة الكونية سمها ما شئت تزحف وتدمر وهي في زحفها هذا استطاعت “أن تربك المنظومة التقليدية وتدخل الفزع حيث أفقدت المواطن العربي الثوابت الثقافية التي يبني بواسطتها هويته، ذلك لأن الهوية تحتاج إلى مرجعيات ثقافية وقيمية واضحة وثابتة يعتمدها الفرد لبناء شخصيته”([2]). “فالاغتراب والفردية والمادية والاستهلاك أصبحت سمات سائدة في مجتمعاتنا العربية، حيث تحولت الثقافة العربية إلى ثقافة سوقية من نوع جديد، وأصبح كل شيء يخضع لقانون العرض والطلب، وكل شيء يمكن أن يباع ويشترى “حتى روح الإنسان نفسه”([3]). إنها ثقافة العولمة التي توصف بأنها عملية غسيل حقيقية للأدمغة على حدّ تعبير عبد الخالق عبد الله ؛ وهي كما أشار “مارتن وولف” في الحقيقة تقتلع الإنسان وتدمر أعماقه الإنسانية حيث يحاصر الفرد ويشعر بأنه أسير أفكار معلومة وقيم مرسومة، إنه طريد عالم غريب عليه يفيض عليه شعوراً بالغربة والانسلاخ، أو العداء والعدوانية على كل هذا الصخب العالمي الوافد ([4]).. نعم هي الصورة قاتمة جداً فيما يتعلق بفعلها الاغترابي، فالثقافة الإنسانية الغائية التي يريدها كانط وطاغور وابن عربي والجاحظ وابن طفيل والحلاج غائبة والمعري والمتنبي غائبة.. غائبة، والإنسان العربي إن استطاع أن يفك ارتباطه بالثقافة التقليدية فإنه سيسقط في أوحال الثقافة الغربية ثقافة العولمة والميديا إنه سجين المحبسين محبس الثقافة التقليدية ومحبس الثقافة الغربية المعاصرة.

وأخيراً لن تنزلق مقالتنا هذه إلى تقديم الوصفة المعهودة لكيفيات التقدم والتجاوز؟ كيف يتم تجاوز ثقافتي الاغتراب والاستلاب والتشيؤ والضياع في عالمنا العربي؟ ما استراتيجيات العمل والفعل في اتجاه بناء الإنسانية في الإنسان بعيداً عن كل أشكال القهر؟ تلك هي أسئلة المحال؟ والإجابة عنها غالباً ما تكون في تضاريس الصراع الإنساني نفسه من أجل الحق والخير والعدالة الإنسانية. وحسبنا في هذه المقالة أننا أضأنا شمعة صغيرة بين ملايين الشموع تضيء أوجاعنا المرعبة في حالك الظلام. فالاغتراب اليوم هو قضية إنسانية شاملة تلف الكون بأممه وشعوبه وأعراقه وأجناسه. وإذا كان من قول في النهاية فإن الإنسانية لن تألو جهداً في سبيل الحق والحرية والجمال. والنضال الإنساني لم يتوقف يوماً ولن يقف اليوم فالنضال من أجل ثقافة التجاوز كان وما زال همسة الإنسانية عبر الزمان والمكان. ونحن في عالمنا العربي لشد ما نحتاج فيه إلى حالة تنوير تدفعنا إلى دائرة النور بعيداً عن دائرة الاغتراب والظلام. يستمر النضال الإنساني وسيبقى في مواجهة جحافل الظلام ومما لا شك فيه أن الإنسانية تبدع وستبدع أساليب نضالية جديدة تحاول وستحاول دائماً العمل على تحصين ما بقي من إنسانية الإنسان وكرامته.

 

هوامش الدراسة

 



[1]– وجيه قانصو، عولمة الحضارات وحضارة العولمة، المنطلق الجديد، العدد الثالث، صيف- خريف 2001، صص 77-102، ص 92.

2- أحمد شبشوب، التحولات الاجتماعية وبناء الهوية لدى الشباب التونسي المتمدرس، فكر ونقد، س2 عدد 12، أكتوبر، 1998، صص 74-78، ص74.

3- جلال أمين، ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995، القاهرة: دار الهلال، 1998، ص 283.

4- عبد الخالق عبد الله، العولمة جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها، عالم الفكر، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ديسمبر 1999. ص 79-80.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

1 تعليق
  1. نوره سعد الشمري says

    ثقافتنا التقليدية تتصف بالعجز وتضع الإنسان العربي في حالة سلبية دائمة
    مقوله جميله ومبدع دائماً دكتورنا يعطيك الف عافيه 🌹

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني