مع انطلاقة شرارة الثورة السورية في عام 2011، كان لعلماء الدين الدور الأكبر في التأثير على الحراك الشعبي، بحكم الطبيعة الإسلامية للمجتمع، الذي يستمع لخطاب العلماء والمشايخ، فذهب بعضهم إلى الوقوف بجانب الثورة والثوار، وبعضهم الآخر ذهب إلى تأييد نظام الأسد، ودعمه وتشجيعه على سياساته القمعية.
دعوه إلى القصر الجمهوري فوافق بشرط واحد، أن يكون حمزة الخطيب حاضراً معه خلال لقائه مع بشار الأسد، ولكن للمفارقة أن ميليشيات الأسد كانت قد قتلت حمزة قبل يوم واحد فقط.
ذلك هو الشيخ العلامة (محمد علي الصابوني) الذي وافته المنية في مدينة يلوا التركية صباح الأمس، صاحب الكتاب الأشهر في تفسير القرآن الكريم (صفوة التفاسير).
ولد الشيخ الصابوني في مدينة حلب عام 1930 وتلقى علمه الشرعي على يد والده فضيلة الشيخ (جميل الصابوني) ومن ثم التحق بمدرسة المعارف لسنة واحدة فقط وتركها بسبب لأنها تلقن الطلاب علوم الاقتصاد الربوية، التحق بعدها بالمدرسة الشرعية بحلب (الخسروية الآن) حيث درس علوم الشريعة والحديث والفقه والعقيدة إلى جانب الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة ليتخرج منها عام 1949 بتفوق وامتياز.
ابتعثته وزارة المعارف حينئذ للأزهر الشريف، ليتم تعليمه وتحصيله الشرعي، ليعود بعدها عام 1952 لمدينته حلب متفوقاً بشهادته (العالمية في القضاء الشرعي)، ويبقى يعمل في ثانويات حلب لمدة ثماني سنوات ومن ثم ينتدب للعمل أستاذاً مُعاراً من وزارة التربية في سوريا للتدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وكلية التربية بجامعة مكة المكرمة، وكان على رأس البعثة السورية إلى المملكة آنذاك، فدرّس فيها ما يقارب ثمانية وعشرين عاماً، وتخرج على يديه أساتذة الجامعة في هذه الفترة الطويلة، ونظراً لنشاطه العلمي في البحث والتأليف، فقد رأت جامعة أم القرى أن تسند إليه تحقيق بعض كتب التراث الإسلامي فعيّن باحثاً علمياً في مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي.
اشتغل الشيخ الصابوني في تحقيق كتاب عظيم في التفسير يسمى (معاني القرآن) للإمام أبي جعفر النحاس المتوفى سنة 338هـ، والمخطوطة نسخة وحيدة في العالم لا يوجد لها ثانية، فقام بتحقيقها على الوجه الأكمل، بالاستعانة بالمراجع الكثيرة بين يديه من كتب التفسير واللغة والحديث وغيرها من الكتب التي اعتمد عليها، وقد خرج الكتاب في ستة أجزاء، وطبع باسم جامعة أم القرى بمكة المكرمة «مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي»، بعد ذلك انتقل الشيخ للعمل في رابطة العالم الإسلامي كمستشار في هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وبقي فيها عدة سنوات قبل أن يتفرغ للتأليف والبحث العلمي.
وصف الأسد الابن بمسيلمة الكذاب والأسد الأب بالمجرم المنافق
لم يوفر الشيخ الصابوني فرصة في فضح وإدانة جرائم الأسد الأب ومن بعدها الابن، حيث بدأ ثورته الخاصة في عهد الأسد الأب حين اختلف مع البوطي أحد أكبر الداعمين لنظام الأسد، في لقاء جمعهما في دبي حين واجه الصابوني بكلام وجهه للبوطي قائلاً: أما ترى الدماء والقمع والظلم والقهر؟ أما تراءى لكم كم قتل من المدنيين الأبرياء؟؟ ليجيبه البوطي: أشققت على قلبه؟؟ فأجاب الصابوني: بل نحن شهود على الأقوال والأفعال.
وصف الشيخ الصابوني العلماء الواقفين بجانب الأسد بـ (المنافقين المذبذبين)، ووصف الأسد الأب بـ (المجرم المنافق) والأسد الابن بـ (مسيلمة الكذاب وبالصبي)، وأفتى، ودعا للنفير العام، للقيام على نظام قمع الحريات لنصف قرن.
حين اندلعت الثورة السورية كان الشيخ الصابوني يعمل كـمستشارٍ في هيئة الإعجاز العلمي، فترك عمله ليتفرغ بعدها للتأليف ولمتابعة عمله في صفوف الثوار، قدم التعزية حين استشهاد عبد القادر الصالح (حجي مارع) قائد لواء التوحيد قائلاً: ربحت البيع يا أبا محمود، الملتقى الجنة أيها الشهيد النقي.
حين علم الأسد بمدى فعالية كلمة الشيخ الصابوني دعاه ليحضر اجتماعاً مع بشار الأسد يوم الرابع من أيار عام 2011 فأجاب الشيخ بأنه سيفكر بالموضوع وبالفعل أجابهم في صبيحة النهار التالي بأنه موافق شريطة أن يحضر حمزة الخطيب الاجتماع مع بشار الأسد، ولكن للمصادفة كانت قوات الأسد قد قتلت حمزة في صبيحة نفس اليوم، فوضعه نظام الأسد على قائمة الاغتيالات.
في عام 2013 حين دعاه تلاميذ الشيخ الإندونيسي لزيارة إندونيسيا، أقام الشيخ الصابوني حينها مهرجاناً شعبياً، تكلم وفضح نظام الأسد والتقى بعد المهرجان بالرئيس الإندونيسي سوسيلو بامبانغ، فحذّره الشيخ يومها من التمدد الشيعي، وحثّه على قطع العلاقات مع الأسد، ما أثار استياء السفارة الإيرانية في إندونيسيا، وفي صبيحة اليوم التالي، كانت الصدمة، بأن تنشر الصحف الرسمية قراراً رئاسياً بقطع العلاقات مع نظام الأسد.
الدور لكم الآن وما نحن إلا بمرشدين لكم… سينصركم الله
قبل عدة سنوات التقيت بالشيخ الصابوني وكانت المرة الأولى التي ألتقي به، شعرت حينها بمدى ضعف إرادتي أمام إرادة وصمود هذا الشيخ، تكررت اللقاءات لفترة لا بأس بها في مجالس ذكر ضمت كوكبة من العلماء أمثال فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي وفضيلة الشيخ عدنان السقا – رحمه الله – وفضيلة الشيخ سارية الرفاعي.
حين سألناه أن ينصحنا ويرشدنا قال بصوت يحمل العزيمة: الدور لكم الآن وما نحن إلا بمرشدين لكم، سينصركم الله وكونوا واثقين من ذلك.
لم يكمل الشيخ كلماته القليلة إلا والدمع قد بلل لحيته البيضاء التي مر عليها الزمان فعمل عمله بها وبتجاعيده الكثيرة التي تحمل الأسى والحنين لموطنه الأول مدينة حلب.
حين انفض المجلس لم أكن أملك القدرة على الوقوف، لمدى إحساسي بالعجز أمام عزيمة هذا الشيخ الذي لم يكل ولم يمل بالدفاع عن المظلومين وهو يحمل رسائل ملؤها المحبة والسلام.
للشيخ أكثر من سبعة وخمسين مؤلفاً وأشهرها (صفوة التفاسير) الكتاب الأشهر في تفسير القرآن الكريم الذي أصدره عام 1984 وكتاب (روائع البيان في تفسير آيات الأحكام)
اختير الشيخ الصابوني ليكون شخصية العام الإسلامية عام 2007.