fbpx

تسييس التعليم في سوريا

0 200

التعليم حق إنساني أقرته المجتمعات البشرية، وبه بُنيت الحضارات، إن تبادل المعرفة بين البشر هو أمر اعتيادي منذ الأزل، فالعلوم البشرية متكاملة، تكمل بعضها بعضاً بشكل أو بآخر، فمازالت طلاسم أو أحجية بناء الأهرامات المصرية، تشغل علماء الآثار والهندسة والرياضيات في العالم.

إن غنى الأبحاث المستمرة لدراسة حياة الإنسان القديم من العصر الحجري حتى هذه الأيام في مختلف المجالات والعلوم (طب، هندسة، قانون، فن، فيزياء، كيمياء، علوم طبيعية ولغات….) وتكامل الدراسات وتبادل المعلومات من جيل لآخر ومن جغرافيا لأخرى جعلنا نحظى بما نحن فيه اليوم من تطور وحضارة متجددة عبر الأزمنة، لذلك كان المقياس والمعيار لتقدم الدول وتطورها هو ما تنتجه من أبحاث ودراسات في مختلف مجالات العلوم حتى أصبحت الدول العظمى تدرس إمكانية حياة البشر على كوكب آخر غير الأرض.

الدول التي تسعى للارتقاء بشعوبها إلى الأفضل بين شعوب الأرض تجعل من العملية النعليمية أولى اهتماماتها وأوليّاتها وفق مبادئ وأسس علمية متطورة تشمل الجهاز التعليمي والإداري والمناهج المتناسبة مع كل فئة عمرية لتخلق أجيالاً تستخدم عقولها وتطورها بالتحفيز على البحث العلمي والدراسة والتنمية العلمية والمجتمعية والثقافية والفنية، بعيدة عن الأيدولوجيات السياسية إلا ضمن اهتمام كل فرد. لكن سوريا في هذه المرحلة إلى أين؟

حاز التعليم في سورية اهتماماً وأوليّة من المجتمع السوري ومن الدولة منذ نشأتها الحديثة حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي فحظيت الجامعات السورية ترتيباً عالمياً لم يسبقها إليه أحد من الدول العربية.

وفي السبعينيات في عهد حكم حافظ الأسد تدرجت الحالة النعليمية في التدني حتى وصلت الى أدنى ترتيب عالمي أو بالأحرى لم تشاهد على سلم الترتيب العالمي، كان لهذا التراجع أسباب عدة.

السياسة المتبعة من السلطة الحاكمة منذ عهد حافظ وابنه بشار، سياسة تهدف للبقاء في سدة الحكم، مهما كلف الأمر وفي سبيل ذلك سخرت كل الوسائل والسبل للحفاظ على السلطة.

السياسة التي اتبعت في العملية التعليمية أفقدت المؤسسة النعليمية جزءاً كبيراً من أهدافها الحقيقية وأصبحت صوراً من اللغو والاستهتار بالقيم الأخلاقية وضياع الأجيال في غياهب الشعارات والتلقين والتدجين في مجتمع قطيعي يناسب السياسة القائمة.

بدأ الضياع بمنظمات مؤدلجة تستلم الطالب من المرحلة الابتدائية (طلائع البعث) ثم المرحلة الإعدادية (شبيبة الثورة) أثناء هذه المرحلة يتم تنسيب الطلاب إلى الحزب الحاكم عبر الإدارة المدرسية حيث لا يمتلكون الإرادة والأهلية القانونية للدخول في أحزاب سياسية وبعدها تأتي المرحلة الجامعية. وفي غياب حياة سياسية أو خيارات حزبية غير حزب البعث. يؤسس الطالب على أن سوريا هي للأسد وهو القائد والمفكر والبطل والطبيب والمحامي والمهندس والعالم… وأن الطلاب محظوظون برعاية القائد الملهم لهم، ومن واجبهم الأخلاقي التضحية بالدم والروح لأجله وليس من أجل الوطن فهو الوطن وهو الشعب وهو الدولة صوره تغطي الجدران والساحات والمدارس والجامعات وكل مؤسسات الدولة.

بهذه العقلية يتابع اتحاد طلبة سورية الإجهاز على ما تبقى من فكر وعقل متحرر هادف بناء.

إن أدلجة التعليم أفقدت العملية التعليمية صفاتها المؤسساتية فبفضل الفساد غاب الفكر والعلم عن مدارسنا وأصبحت مجرد أدوات تلقين وقتل لروح المبادرة والإبداع دون تشغيل العقل، فالهيئة التعليمية تفتقد لأبسط القواعد والمقاييس العالمية لصفات المعلم أو الأستاذ، الذي يفترض أن يتحلى بشخصية مميزة تضمن إيصال المعلومة إلى الطالب بأيسر السبل وتحفز العقول على الإبداع والبعد عن النمطية التي تقتل روح المبادرة، تلك الشخصية القيادية التي تمتلك العلم الكافي والمقدرة والكفاءة المتناسبة مع الاختصاص. بالإضافة للمناهج وأساليب التعليم المتطورة التي تخاطب العقول وتفتح الآفاق أمام الطلاب الذين يحملون أهدافاً وأحلاماً يسعون لتحقيقها فتكون المؤسسة التعليمية صلة الوصل للارتقاء بهم إلى الأفضل بما يتناسب مع خلق جيل مكافح مبدع يسهل عملية البحث والكشف والاختراع.

ليس هنالك قانون خاص بالتعليم في سوريا، مجرد بلاغات وتعاميم تخص الهيئة التعليمية والعملية التعليمية، هناك بعض النصوص تخص تنظيم التعليم وفق مراحل وبعض القواعد القانونية الملزمة لمرحلة التعليم الأساسي كونها إلزامية لكن تنفيذ تلك القواعد أبعد عن الواقع الهش والدليل (التسرب المدرسي وعمالة الأطفال).

لا حقوق للمعلمين والأساتذة رغم وجود نقابة للمعلمين لكن مثلها مثل بقية النقابات صورية لا تعنى بمصلحة أعضائها، هاجسها إرضاء السلطة. لا يخفى الوضع المادي السيء للمعلمين الذي كان من أحد وأهم الأسباب المباشرة لتدني مستوى التعليم بالإضافة إلى فسح المجال لتغلغل القطاع الخاص الذي وجه الضربة القاضية للعملية التعليمية، واعتبر التعليم الخاص بالنسبة للسلطة عملية انفتاح بالاقتصاد انعكس على اقتصاد البلد آخذاً الصفة الارتجالية الهشة.

افتتحت الجامعات والمداس الخاصة لكن دون التقيد بالشروط اللازمة لتلك الهيئات التعليمية. مناهج ليست على المستوى المطلوب والنجاح والترتيب إن كان في الجامعات أو المداس الخاصة يقاس بكمية وحجم الدفع والأمر سيان في الجامعات والمدارس العامة فكل طالب مشروع تجاري بالنسبة لقسم لا بأس به من الأساتذة والمعلمين ويشكل دخلاً إضافياً إلى جانب الراتب الهزيل، فانتشرت المعاهد التي تلقن الطلاب المعلومة ليحصلوا على العلامات التي تؤهلهم الدخول في الفروع المرغوبة لدى الأهالي بغض النظر عن الميول والرغبة الدفينة لدى الطالب، لأن الوظيفة مضمونة في تلك الفروع (طب، هندسة). كذلك الأمر في الجامعات، هناك تسعيرة وضعها بعض أساتذة الجامعة لينال الطالب علامة النجاح أو أكثر، وقد يكلفه الأمر أن يضطر لتقديم مقرر أكثر من مره دون أن تصحح ورقته الامتحانية ليكون تحت رحمة الأستاذ ويدفع المطلوب وهذا الأسلوب موجود لدى العديد من المعلمين والأساتذة.

الفساد نخر كل أجهزة الدولة وما ذكر ليس بشيء تجاه الحقائق التي تدمع العين لسماعها وتخفق قلوبنا ألماً على حال طلابنا، فيضيع حق من كان كفئاً. ويمتلك المقدرة من كان في دوامة الفساد.

طلابنا أملنا وثروتنا القومية المستقبلية التي هدرت وتبعثرت في أرجاء المعمورة بفضل السياسات الفاشلة والبعيدة عن العقلانية والوجدانية، تسييس التعليم لخدمة مصالح السلطة أدى إلى فقدان الأسس العلمية في التعليم من مناهج وطرق تدريس وخلق أجيالاً تردد ما يتم تلقينها به دون تفكير.

قسم كبير من هؤلاء الطلاب تفوقوا وأبدعوا في مختلف دول العالم وفي جميع المجالات العلمية والفنية والاقتصادية والاجتماعية عندما أتيحت لهم الفرص المناسبة وتحرروا من السلطة الأمنية الحاكمة واكتشفت مواهبهم المكبوتة.

تحتاج العملية التعليمية في سورية إلى إعادة صياغة من جديد وفق أسس علمية تبني القدرات وتحسن الكفاءات وذلك بالابتعاد عن السلوكية النمطية. لتحفز على الإبداع والابتكار وتنمي المواهب وتجعل من الجامعات والمعاهد مراكز أبحاث لكل مجالات وشتى أنواع العلوم، ولرفع السوية العلمية ويتم ذلك بجعل الإنسان هو الهدف وهو الأساس في أي عملية بناء (بناء الإنسان قبل بناء الحجر) هذا كله لن يتحقق في غياب دولة القانون وغياب الحرية والعدالة والمواطنة، الإنسان المقيد والمكبل لا ينتج ولا يبدع إضافة إلى الأدلجة وسياسة القطيع يفقد جزءاً من كينونته الإنسانية ليصبح أداة لخدمة السلطة وليس لبناء دولة ووطن.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني