ترامب ودولة الفوضى التي سيُخلِّفها وراءه
إذا ما وضعنا تشكيكه بنتيجة الانتخابات الرئاسية التي خسر فيها، وتقديمه الطعون والدعاوى القضائية التي رفعها، مدَّعياً فيها حصول تزوير في عدد من الدوائر الانتخابية جانباً، وراقبنا حركة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعنف مؤيديه في الساحات، نستطيع الاستنتاج أن الرجل لا يريد أن تمضي هذه المنازلة على خيرٍ قبل أن ينقل بلاده إلى الفوضى. ولن تكون الفوضى بسبب الانقلاب الذي هدد مرَّةً بأنه سيعود إلى السلطة عبره فحسب، بل بسبب تَكرُّس شذوذه السياسي والإداري، كونه أسس للفوضى منذ لحظة تسلُّمه مهامه، يوم تنصيبه الذي يُعدُّ الصورة الأوضح لانقسام الأميركيين بسببه. أما وقد شهدت الفترة الانتقالية الحالية استمراره في دبِّ الفوضى في البلاد، فإن ما كرسه سيورثه لأتباعه وسيصبح جزءاً من لاوعي الأميركيين، لمدة لا يُعرف مدى طولها وكم تحتاج من جهدٍ لمحوها من أمزجتهم.
وقياساً للفوضى التي أحدثها خلال فترة رئاسته، لم يكن مفاجئاً للكثيرين الأجواء التي تلت الانتخابات الأخيرة في البلاد؛ إذ كانت هذه الانتخابات مغايرة لكل التي سبقتها بسبب تصرفاته وممارساته. فقد عادت أجواء الانقسام مرَّةً أخرى للبلاد في مشهدٍ يماثل مشهد الحملات الانتخابية السابقة، ومن بعدها الانتخابات التي أوصلته للحكم، كذلك مشهد حفل تنصيبه سنة 2016، حين غاب سياسيون وفنانون ورجال مجتمع عن حفل التنصيب، في واقعة نادرة الحدوث. وسرعان ما أثرَّت تصرفاته على مزاج الشارع؛ إذ لوحظ خلال فترة وجيزة من حكمه تحوُّل الناس، وخصوصاً مؤيديه، من مبدأ احترام النظام إلى تبني مبدأ نظام الفوضى الذي اتبعه.
في تلك الفترة المبكرة من حكمه ظهرت عبارات جديدة على ألسنة الأميركيين، تُبيِّن حجم الخلل الذي أحدثه والاستقطاب الذي بدأ في إحداثه، على عكس الرؤساء الذين سبقوه، الذين كان يتوافق عليهم الأميركيون، بغض النظر عن انتمائهم لأي من الحزبين، حاكِمَيْ البلاد. إذ وجد الأميركيون أنفسهم يستخدمون، للمرة الأولى، عباراتٍ تدلُّ على مدى خوفهم من حكم ترامب والكوارث التي سيجلبها، بسبب شعبويته المتبدِّية في كرهه المؤسسات والمرأة، وعنصريته تجاه الملونين والأجانب والمسلمين. وتردَّدت على ألسنتهم عبارات من قبيل: “انقسام المجتمع الأميركي” و”الخوف” وعبارة “البيت الأبيض، منزل الرعب” وكانت أكثرها تميُّزاً عبارة: “ليس رئيسي” التي ذاعت وانتشرت، والتي رُفعت خلال المظاهرات والاحتجاجات على انتخابه وخلال تنصيبه، لأنها تصور حالة الانفصال بينه وبين أبناء الشعب. وإذ اكتسب مؤيدين، وظهر له معارضين كثيرين، من المرجح أن حال الانقسام والفوضى التي سببها ستصبغ الحياة السياسية والمجتمعية بصبغتها، لفترة غير محددة، بعد خروجه من الحياة السياسية.
ربما لأول مرة منذ الحرب الأهلية الأميركية التي اندلعت أواسط القرن التاسع عشر، يمكن، وببساطة ملاحظة انقسام المجتمع الأميركي إلى شارعين متخاصمين ومتواجهين حد الاشتباك الذي لا يُعرف إلى أين يمكن أو يودي بالبلاد، مع الأخذ بالحسبان عدد المسلحين الذين ظهروا في الشوارع في المظاهرات الداعمة له، أو أولئك الذين ينتظرون إشارته لامتشاق السلاح والنزول إلى الساحات لمواجهة خصومه من موالي الرئيس المنتخب، جو بايدن. ومع ازدياد حمى المواجهة وانتقال المشادات الكلامية بين ترامب وأعضاء إدارته من جهة، ومنافسه جون بايدن وفريقه، من جهة أخرى، إلى الساحات فإن الفسحة لأصوات العقلاء باتت تضيق وازداد هامش الضرر الذي قد يسببه خلال الفترة المقبلة، والذي يبدو أنه ماضٍ في إحداثه إلى حد تنفيذ الانقلاب الذي بشَّر به.
في هذا السياق، يمكن القول إن التعليمات التي أصدرها البيت الأبيض لكبار القادة الحكوميين، في أعقاب صدور نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها بايدن، والقاضية بوقف التعاون مع الفريق الانتقالي التابع للرئيس المنتخب، تعدُّ رفضاً لإجراءات نقل السلطة، ما يعني إحداث فراغٍ رئاسي، ريثما تتكون لدى ترامب القدرة على الانقضاض على البيت الأبيض بولاية ثانية. وأوغل ترامب في عدم احترام النظام ومبدأ الديمقراطية في الحكم، حين أخذ يُقيل معارضيه، أو من لا يجارونه في قراراته ويرون ضررها على مصالح بلادهم ونظامها السياسي. ولعل إقالته وزير الدفاع، مارك إسبر، خلال الفترة الانتقالية، تندرج ضمن سياق تخلُّصه من معارضيه، خصوصاً بعد رفض الجيش دعوات ترامب للنزول إلى الشارع لقمع التظاهرات التي خرجت بعد مقتل جورج فلويد. وكونه أيضاً عارض العمل بـ “قانون العصيان” الذي يسمح بنشر الجيش في شوارع البلاد لمواجهة أي عصيان، أو بالأحرى إجهاض أي تحرك احتجاجي يعتقد ترامب بإمكانية اندلاعه. كذلك هنالك احتمال تنفيذه الوعد الذي وعد ناخبيه بتحقيقه، أي التخلص من مدير مكتب التحقيق الفيدرالي، كريستوفر راي، ومديرة وكالة الاستخبارات المركزية، جينا هاسبل، لمعارضتهما الدائمة تعليماته.
وبرز في هذا السياق ما يمكن وصفه بأنه ظهور إرث ترامب المبكر، حين تبين أن مسؤولين حكوميين من بطانة ترامب قد تبنّوا مبدأ كره المؤسسات، اقتداءً به. ففي سابقةٍ، برزت خطورة جديدة تمثلت بتصريح زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، حين قال إنه لا يعترف بجو بادين رئيساً ولا بكاميلا هاريس نائبةً له. وازدادت الخطورة حين قال رئيس اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ، ليندسي غراهام، بأن على ترامب ألا يعلن خسارته في الانتخابات. ولم يذهب وزير الخارجية، مايك بومبيو، بعيداً عن هذا السياق حين تحدَّث عن انتقالٍ سلسٍ نحو ولاية ثانية لترامب، وهو ما يُعدُّ إمعاناً في إنكار الحقائق والوقائع، ونيةً في رفض نتائج الانتخابات والعمل وفق آلية رغبوية ترى ترامب رئيساً على الرغم من فوز خصمه.
ولا يمكن لمس حجم التهديد الذي يشكله استمرار ترامب وفريقه في سياسة إنكار حقيقة خسارته وعزمه الانقضاض على السلطة بانقلاب، إلا بعد التمعُّن في تصريح رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي، مارك ميلي، على هامش الجدل الذي تلا صدور نتائج الانتخابات، والذي شدد على أن الجيش لم يقسم بالولاء “لملك أو ملكة أو طاغية أو ديكتاتور” بل للدستور. لكن هذا التصريح، وعلى أهميته في بعث الطمأنينة، إلا أنه لا يمكن أن يساهم وحده في انحسار موجه الكراهية والعنصرية التي بذر ترامب بذورها، ولا انقسام المجتمع الأميركي الذي تسبب بحدوثه، ولا جَيَشان المواطنين المسلحين حتى العظم، في بلاد أقل ما يمكن أن يقال فيها: إن ترامب قد جعلها تصبح بحق دولة الفوضى.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”