تدمير العلم أقسى من تدمير المدن
هذا عصر يجعل العلماء والمثقفين يموتون انتحاراً دون قصد منهم… التصحر الذهني الذي قادته أنظمة الغباء والتخلف أعطى أُكله مرارةً في أفواه المثقفين وقلوبهم لاسيما حين يصطدمون بمتصحرٍ لا يفقه من الحياة إلا بهرج العدمية الوهمية كما يصوره له ذهنه الفارغ وخياله المريض.
بالأمس العربي القريب كنا نعاني من محو الأمية، لكن ما يريحنا هو أن الأميين يتحلون بالأخلاق الحميدة في احترامهم المتعلم والمثقف ويرون فيه أمل المستقبل… اليوم نحن أمام حالة: نحو الأمية، وهي طامة كبرى فالمتجهون نحو الأمية حاقدون سفلة وشوارعيون بلا أخلاق وقيم يكرهون العلم والثقافة في تناقض رهيب حين يدعون أنهم فوق العلم والثقافة وأنهم أفضل من يمثل العلم والثقافة في هذا العصر الكسيح.
الباعث على هذا المقال؛ هو مقال يتحدث عن التعليم في دولة موريشوس تحت عنوان: دمرتم التعليم فدمرتم الوطن. يتحدث الكاتب عن التجربة الغنية لهذه الدولة المتواضعة بحيث أصبح التعليم فيها من أرقى المستويات، وبفضل هذا الاهتمام نهضت هذه الدولة وأصبح دخل المواطن فيها من أعلى الدخول في العالم، والأول في أفريقيا. أما الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات فهي في أفضل حال، ومتقدمة بما يجعل المواطنين يفخرون بها، وكل هذا نتاج الاهتمام بالعلم والتعليم.
أما نحن في الوطن العربي فقد دمرت حكوماتنا التعليم عن قصد خشية من تخريج جيل متعلم مثقف يدرك أبعاد اللعبة التي يعيش عليها الحاكم الغبي المتخلف فتداعى الوطن كله وبكل ما فيه، وتولت الحزبية المصنوعة بكل أصنافها إشاعة أساليب الثقافة الشوارعية في تدريب المنحرفين عقلياً على عدم احترام العلم والثقافة، وتحولت المدارس إلى شبه سجون لساعات تخلو من أساليب التعليم البناء وأساليب الابتكار والإبداع وتطوير العقل، وهؤلاء حين انتقلوا إلى الجامعة وجدوها خاوية على مدرجاتها وأسوأ من سابقتها، فشاعت الشهادات المزيفة وملأ تجار الشهادات المزورة مدرجات الجامعات العربية مع سياسة خبيثة في إقصاء العلماء حتى ساد التصحر الذهني وأصبح حملة الشهادات المزيفة ينطقون بذهن الجاهل الخادم لصانعه يلهج باسم صاحب نعمته وهذا هو مبلغ علمه ولأجله تمت صناعته ليكون بديلاً عن الأستاذ الجامعي العالم. ويتجه بسرعة فائقة نحو الأمية. إن هذا الواقع المؤلم لن يقف عند حدود حماية الحاكم الغبي، بل يتجه نحو انهيار الحياة بكل قيمها وجعل الوطن خارج حدود هذه الحياة وصولاً إلى قهر المواطن وتجويعه وإذلاله وذبحه، وكلنا نلاحظ اليوم أننا نعيش في عصر ذبح الشعوب وتجويعها وتشريدها، وسوريا ليست استثناء وإنما مثال صارخ بالخطر الداهم من كل الجهات؛ فقبل تدمير سوريا وتشريد شعبها كانت مرحلة تدمير التعليم وإشاعة ثقافة الحزب وتخليد الغبي الخائن في عبادة للصنمية تفوق عبادة اللات والعزى، فانتشرت ثقافة عدم الاحترام حتى تحولت الشوارعية إلى بطولة وفروسية يراها المتصحر رداً على عقدة فشله وتسنمه منصباً حزبياً ينقله إلى أرفع المناصب في الدولة، فاتسعت دائرة النحاسية في صناعة البوق الذي يفهم في كل أمر وجاهز للنفخ في كل موضوع بقطع النظر عن صحة ما ينفخ فيه، المهم أنه يجيد النباح على كل من يتعرض لكشف عورة سيده وصانعه في سهولة رهيبة تعتمد التخلي عن الحياء، فهم ليسوا سفسطائيين وإنما مواد نحاسية ترى في نفسها القدرة على التحول إلى أي بوق يحتاجه الحاكم الغبي الذكي. التعليم هو الحياة وتدميره يعني تدمير الحياة، وحالنا في سوريا هي حالة موت في أكفان معدة بعناية لإخراجها خارج دائرة الحياة بكل ما فيها من بناء ومشاركة في الجهد الإنساني وفي إثرائها للوصول إلى الكرامة والحرية والحيوية.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”