تاريخُ ومنجزات معارضة مريضة نفسياً
مات حافظ الأسد منتصف العام 2000 ليستولي ابنه بشار على السلطة في البلاد، رئيسها الحالي.
لن ندخل في تفاصيل الاستيلاء التي بات يعلمها جميع من عاش تلك المرحلة وغالبية جيل الشباب اللاحق ممّن اطّلع وقرأ وسمع بقصة أسرع عملية تعديل دستور في التاريخ، لدرجة أن سرعتها تجاوزت مدارك صاحب كتاب “غينيس” للأرقام القياسية ففاته نيل شرف تخليدها في موسوعته.
حصل نفس الشيء مع بعض ممثلي وتيارات وقوى المعارضة السورية، فعلى ما يبدو لم يتسنّ لهم ما يكفي من الوقت لاستيعاب تلك العملية وفهم أبعادها رغم خبرتهم. فخيّل لهم، وهم الذين عانوا الأمرّين أثناء حكم الأسد الأب، بأن الابن سيتخلّى عن “جلباب أبيه” سيما بعد إطلاق صيحاته الإصلاحية وتوعّده بمكافحة الفساد – في أول كلمة له بعد التعديل القياسي – ليقعوا في فخّ ربيع وإعلان دمشق!
عادت لتنطلق من جديد حملة الملاحقات والاعتقالات التي طالت غالبية نشطاء المجتمع المدني والسياسيين والمفكرين ممن شارك في إعلان دمشق، ووجهت لهم التهم بالخيانة والتخابر و”زعزعة أمن الوطن ووهن نفسية الأمة وإضعاف الشعور القومي..” وتهم أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
ومع انطلاقة الثورة السورية التي دخلت عامها العاشر، برزت معظم شخصيات المعارضة القديمة التي كانت آنذاك موزّعة بين الداخل السوري وخارجه. ومعظم أفراد الفئتين كانوا ممّن جرّب معتقلات نظام الأسد وسجونه؛ ومنهم من خرج لتوّه من السجن بعد شمله بمراسيم العفو الشكلية في بداية الثورة، ثم أكملها بالخروج مرغماً من البلد.
التوجّه السياسي العام لأغلب تلك الشخصيات توزّع على تيارين اثنين؛ الأول تترأسه جماعة الإخوان المسلمين والمتحالفين معها ممّن يتبنون مفهوم الإسلام السياسي وبعض القوميين. والغالبية العظمى من أعضاء التيار كانوا يقيمون خارج البلاد منذ أحداث الثمانينيات.
التيار الثاني تمثّله جماعة اليسار الشيوعي عموماً وغالبية أعضائها البارزين انخرطوا قديماً في صفوف رابطة العمل الشيوعي. وتتحالف مع هذا التيار شخصيات وكتل عديدة بعضها ذات توجّه قوميّ أيضاً. وكان أعضاء هذا التيار موزعين داخل سوريا وخارجها.
تزعّم أعضاء الفريقين السالفين غالبية مؤسسات المعارضة السورية، بدءاً من المجلس الوطني فالائتلاف ثم الهيئة العليا للمفاوضات. كما كانت لهم حصّة في حضور أيّ مؤتمر دولي أو مبادرة أو اتفاقية تدعو إليها الدول الفاعلة في الملف السوري.
وبالرغم من قدم تجاربهم السياسية والنضالية والفكرية التي سبقت الثورة بعقود، وقيادتهم لمختلف مؤسسات المعارضة بعد اندلاع الثورة، والتي من المفترض أنها أكسبتهم مزيداً من الخبرة والمقدرة على إدارة الملف السوري بما يصبّ في مصلحة الثورة؛ يكرر السوريون طرح ذات السؤال:
– ماذا قدّمت المؤسسات التي قادها هؤلاء المعارضون منذ 9 سنوات حتى اليوم؟
في سعينا للإجابة، يجب التذكير أولاً بأن إفراز الثورة لرموز وشخصيات سياسية سورية جديدة على الساحة لا يبرر مطلقاً ممارسة أساليب الإقصاء بحق تلك التيارات وممثليها أو توجيه التهم بالتخوين والعمالة بمناسبة أو بدونها.
كما أنه علينا الاعتراف والتسليم بحقيقة أنهم الوحيدون الذين مثّلوا أطياف المعارضة السياسية عند اندلاع الثورة، وليس من الإنصاف تجريدهم من حقهم ونضالهم الوطني الذي دفعوا ثمنه أغلى أيام وسنّي حياتهم في المعتقلات والسجون ودول الشتات، وخسروا خلالها أهلهم وأعزّ رفاق دربهم.
ويبدو أن تلك الآلام والعذابات ساهمت بصورة أو بأخرى في تأجيج شعور طاغٍ بالمظلومية لدى الفريقين. ويبدو أيضاً أن ذلك الشعور لم يسيطر على عواطف أعضائهما فحسب بل على نمط تفكيرهم وآلية تعاطيهم مع القضية السورية.
فالكراهية والحقد والرغبة بالانتقام المزروعة بداخل أولئك المعارضين ضد النظام ورموزه الذين بالغوا في ممارسات الإذلال والتعذيب والتصفيات بحقهم؛ جعلهم ينظرون إلى الشعب السوري عموماً كطرف ثالث يتمّ استغلاله لتحقيق ذلك الانتقام من نظام الأسد.
وبالرغم من خطاباتهم وكلماتهم المنمّقة، والتظاهر بالتوازن عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، فمن السهل على أي متتبع لأولئك المعارضين خلال السنوات التسع، ملاحظة الرغبة الدفينة بالانتقام من نظام الطاغية، ولو كان ثمن ذلك التضحية بنصف السوريين وتشرّد النصف الآخر وتدمير البلد، وهذا بالضبط ما حصل.
وعن جهلٍ أو قلّة إدراك، باتوا يتشاركون مع النظام في إقحام الشعب السوري بخوض معركة شخصية وقودها الانتقام وثمنها أهداف الثورة وأداتها السوريون بجميع أطيافهم وأحلامهم.
وزاد في الطين بلّة تقاعس المجتمع الدولي عن نصرة السوريين. ذلك الخليط المرعب بين معارضة مترهلة منفعلة ونظام وحشي مستبد ومجتمع دولي متقاعس، أفرز في الوسط الثوري حالة شاذة من التطرّف غير المسبوق، ليس داخل الوسط الإسلامي فحسب، بل تخطاه ليشمل أوساطاً طالبت بالديموقراطية والدولة المدنية واتصفت بالاعتدال داخل التشكيلين السياسي والعسكري.
وبالرغم من كل تلك النكبات، كانت ما تزال أمام مؤسسات المعارضة فرصاً تمكّن الثوار السوريين من الحصول على مكتسبات سياسية فيما مضى، وإجبار نظام الأسد على الخضوع. ولكن ممثليها آثروا المضي في حربهم الانتقامية، والنتيجة كانت أن خسروا الاثنين.