بيدرسون ومتلازمة الاجترار
أصبحت القرارات والبيانات والإحاطات الرسميّة للأمين العام للأمم المتحدة وموظفيه ومبعوثيه الخاصيّن في الملف السوريّ نُسخ تتكرّر عند كلِّ استحقاق وبمناسبة أو بغير مناسبة حيث يتم تداول الأفكار التي تتضمّنها وكأنّها من المُسلّمات التي لا يجوز نقضها أو نقدها أو تعديلها وقد بٌلي الشعب السوريّ بها منذ بداية تدخلّها في الملف السوريّ، وينسحب هذا الحال على كل اجتماع ثنائي أو إقليمي يخصّ القضيّة السوريّة، وامتدّ إلى ان يكون الوجبة الإعلاميّة للمنظمات والجمعيّات واللجان الفرعيّة المنبثقة عمّا سبق أو تلك المنظمات والجمعيّات الشريكة معها.
ويمكن اختصارها بما يلي: ضرورة توّفر دبلوماسية دولية بناءة ومنسقة لدعم بناء ثقة حقيقي ووحدة إقليمية ودولية لدعم العملية السياسية بقيادة وملكية سورية وتيسير من الأمم المتحدة لاستعادة سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها وتلبية الطموحات المشروعة للشعب السوري.
وقد أضحت هذه الحالة اشبه بـ “متلازمة الاجترار” وهي حالة مرضيّة يبصُق فيها الأشخاص مِرارًا وتكرارًا دون تعمُّدٍ أو يعيدون الطعام غير المهضوم أو المهضوم جزئيّاً من المعِدة ويعيدون مضغه ثم يعيدون بلعه أو يبصقونه ودائما ما يحدُث الاجترار بعد كل وجبة مباشرة بعد تناول الطعام وتسبِّب متلازمة الاجترار فقدان الوزن وسوء التغذية وتآكل الأسنان ورائحة الفم الكريهة والإحراج والعزلة الاجتماعية.
وأعتقد بأنّ إحاطات المبعوث الأمميّ “غير بيدرسون” التي يُقدِّمها بعد كل مناسبة هي المثال الصارخ عن هذه المتلازمة حيث قدّم هذا المبعوث ’’44’’ إحاطة ولو استعرضنا محتواها لوجدنا أنّها لا تخرج عن المحدِّدات التالية:
ما قبل الزلزال:
– على الصعيد السياسي المطلوب أمران إذا ما أردنا المضي قدماً: مسار سوري- سوري، وعملية أوسع لبناء الثقة.
– ضرورة تطبيق قرار مجلس الأمن رقم ’’2254 ’’ لسنة 2015.
– ليست كل القضايا في أيدي السوريين وحدهم إلا أن أحد القضايا التي يُمكن ويجب أن تكون في أيديهم هم وحدهم هي الدستور المستقبلي لبلدهم الذي يعد بمثابة العقد الاجتماعي الذي يجب أن تقوم عليه المصالحة النهائية بين السوريين، والذي من شأنه أن يحدد مستقبل ما بعد الصراع من حيث سلطات وواجبات الدولة وحقوق والتزامات المواطنين.
– استئناف العملية السياسية السورية – السورية بتيسير من الأمم المتحدة ولا سيما من خلال إعادة انعقاد اللجنة الدستورية وإحراز تقدم تدريجي في عملها لدى استئنافه.
– تشجيع الأطراف الرئيسية لاتخاذ تدابير بناء ثقة، خطوة مقابل خطوة وخطوة بخطوة – بشكل متبادل وقابل للتحقق منه.
– معالجة الوضع الإنساني المتردي والمتفاقم باعتباره ضرورة إنسانية.
– ولا يزال المدنيون عرضة للاحتجاز التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري ما زالوا يتعرضون للإصابة والقتل وسط اشتباكات عنيفة وعمليات قصف منتظمة بقذائف الهاون والصواريخ والمدفعية في شمال غرب وشمال شرق سورية.
ما بعد الزلزال:
– يتطلب الأمر تغيير الديناميكيات انخراطاً إيجابياً بروح من البراغماتية والمرونة وإدراكاً أكبر لإلحاح الوضع وضرورة المضي بوتيرة أسرع.
– الثناء على المبادرات الإنسانية الإيجابية التي أطلِقت بعد كارثة الزلزال.
– خيبة الأمل إزاء عدم تمكن مجلس الأمن من الموافقة على تمديد التفويض الممنوح لعمليات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة عبر الحدود.
– حث المانحين على النهوض والوقوف إلى جانب ملايين الأشخاص في سورية والمنطقة في البلدان المضيفة، الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، فضلاً عن التعافي المبكر ودعم سبل العيش بعد عقود من الحرب.
– دعوة الدول التي تفرض عقوبات إلى الاستمرار في تخفيف أي آثار للعقوبات يُمكن أن تؤدي إلى تدهور الظروف المعيشية للمدنيين السوريين. ويُسعدني قيام الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بتمديد إعفاءاتهما الإنسانية على سورية التي أصدروها في أعقاب الزلزال. فهناك حاجة ماسة إلى مثل هذا النوع من الاستثناءات بالإضافة إلى إيلاء اهتمام أكبر للتصدي لمسألة الإفراط في الامتثال.
– إن سلة الدستور هي جوهر القرار’’2254’’ لذي ينص ضمن أمور أخرى على عملية صياغة دستور جديد وفق المعايير المرجعية والعناصر الأساسية للائحة الداخلية: “إعداد وصياغة إصلاح دستوري للموافقة الشعبية، كإسهام في التسوية السياسية في سوريا وتنفيذ قرار مجلس الأمن “2254”.
– الظروف ليست مواتية للعودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين ويجب حماية اللاجئين بما في ذلك من الإعادة القسرية – تماماً كما يجب حماية جميع المدنيين داخل سورية بما فيهم النازحين. لذلك فإننا بحاجة إلى أن تبذل الحكومة السورية المزيد من الجهد لمعالجة مخاوف الحماية الحقيقية والمستمرة – وهو أمر أساسي ونشدد عليه باستمرار. وفي الوقت نفسه سنستمر في التواصل مع المانحين لبذل المزيد من الجهد لمعالجة مخاوف جميع السوريين بشأن سبل العيش ويُمكن لديناميكية الخطوة مقابل خطوة أن تبدأ في تغيير الحقائق على الأرض لجميع السوريين وبناء الثقة وإتاحة المجال السياسي لمجموعة أوسع من القضايا المتعلقة بالقرار 2254، بما يفضي إلى بيئة آمنة وهادئة ومحايدة.
– في غضون ذلك تواصل الأزمة الاقتصادية في سورية تفاقمها حيث سجلت الليرة السورية هذا الشهر أدنى مستوى لها على الإطلاق مقابل الدولار بما لذلك من تأثير خطير للغاية على جميع السوريين الذين يعيش 9 من كل 10 منهم تحت خط الفقر. وأن الخدمات الأساسية والبنى التحتية الحيوية الأخرى فهي على وشك الانهيار.
– بالمثل لم تشهد مأساة المعتقلين والمفقودين أي تغيير لكن هنا على الأقل يعتبر قرار الجمعية العامة بإنشاء مؤسسة مستقلة معنية بالمفقودين بادرة أمل أحث كافة الأطراف على التعاون مع تلك المؤسسة وتبادل المعلومات مع العائلات حول مصير المفقودين. وبالمثل ستكون هناك بادرة أمل أخرى إذا تم الإفراج عن المحتجزين على نطاق واسع ووقف بعض الممارسات التي لا يزال يتم الإبلاغ عنها بشكل كبير مثل اعتقال العائدين أو نقل الأطفال قسراً إلى معسكرات التدريب العسكري أو استمرار التعذيب أثناء الاحتجاز مما يؤدي إلى الوفاة.
ومن خِلال استعراض إحاطته الـ ’’44’’ على ما يبدو أن السيد بيدرسون استمرأ التنازلات والتفريط بثوابت ’’الحل السياسيّ’’ التي تضمّنتها القرارات الدوليّة ذات الصِلة، وأهمّها ضرورة وقف إطلاق النار الشامل وإطلاق سراح المعتقلين وتشكيل هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذيّة وضرورة عدم عرقلة وصول المساعدات الإنسانيّة إلى مُستحقّيها، وضرورة ملاحقة ومحاسبة مجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانيّة.
حيث أنّ السيد بيدرسون في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدوليّ لم يكتفِ بفرض مقاربة الخطوة بخطوة التي انعشت رصيد أسماء أسد عبر تنظيمها المعروف بالأمانة السوريّة للتنميّة نظام اسد والتي استحوذت على كل مشاريع التعافي المبكِّر ومشاريع وبرامج المساعدات التي تُقدِّمها المنظّمات الحكوميّة وغير الحكوميّة الدوليّة، ليتقدّم بمقاربة أخطر منها وهي تكريس فكرة إلغاء العقوبات المفروضة على نظام اسد عبر دعوته لتمديد الاستثناءات واختصار موقفه بالأسف على إلغاء الآلية الدولية لتمرير المساعدات الإنسانية عبر الحدود والترحيب بموافقة النظام على فتح معبر باب الهوى أو معبري باب السلامة والراعي بعد كارثة الزلزال ومن خلال استعراضه لعملية تدهور قيمة الليرة السوريّة والذي كما يدّعي يُنذِر بانهيار الخدمات الأساسية والبنى التحتية الحيوية الأخرى، وربط تحقيق البيئة الأمنة لعودة اللاجئين بما يُقدِّمه المانحون لتحقيق سبل العيش والذي يُفهم منه إعادة إعمار البنى التحتيّة وهذا الأسلوب يُعبر ضربٌ من ضروب الابتزاز الذي يضع المجتمع الدوليّ أمام خيار وحيد وهو دعم النظام بذريعة انقاذ مؤسسات الدولة والاقتصاد السوريّ من الانهيار وضرورة البدء بمشاريع إعادة الإعمار لتهيئة الظروف المواتيّة لعودة اللاجئين وهو ما عبّر عنه رأس النظام في مؤتمر قمة الرياض وهو صلب سياسة نظام أسد الممنهجة في ابتزاز المجتمع الدوليّ.
ومحاولة السيد بيدرسون تمرير فكرة اختزال الحلّ السياسي باللجنة الدستوريّة والإصلاح الدستوري باعتبار أن ’’… سلة الدستور هي جوهر القرار’’2254’’…’’ كما ورد في إحاطته الأخيرة كما فعل في إحدى إحاطاته السابقة تمرير فكرة العدالة التصالحيّة محاولة منه للقفز على العدالة الانتقاليّة، وتمريره تحويل ملف المعتقلين إلى صفقات تبادل وملف وقف إطلاق النار الشامل إلى خفض تصعيد عبر مسار أستانا.
على الرُغم مما تثيره هذه المقاربات من رفضٍ ونفورٍ واشمئزاز من قِبل السوريين لم يتوقّف السيد بيدرسون عن اجترارها الأمر الذي يؤكّد إصابته بمتلازمة ’’الاجترار’’.
على السوريين التنبّه لمحاولات السيد بيدرسون القفز فوق الثوابت التي تمثّل تطلّعات الشعب السوريّ وخاصّة تطلّعات الشعب الثائر وتمرير أفكار ومقاربات تنسف هذه الثوابت وتُطيح بتطلّعات هذا الشعب.