بوتين ما بين نيقولاي وقسطنطين
اتهم المستشار الألماني “أولا شولتز” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّه ومساعدوه يخوضون “حرباً صليبيةً شاملةً” ضد الغرب والنظام الدولي القائم على القواعد، وقد جاءت هذه التصريحات في معرض مشاركة “شولتز” في قمة “الحوكمة المتطورة” في برلين.
ولم يأتِ هذا الاتهام من فراغ ولم يصدر عن عبثٍ فمن المعروف عن بوتين نزعته “القيصريّة ” فهو يسير على خطى أجداده الاباطرة الروم “البيزنطيّين” بدءاً من الإمبراطور “قسطنطين” حتى قيصر روسيا الأخير “نيقولاي الثاني”، حيث يحاول بوتين استعادة أمجاد الإمبراطوريّة البيزنطيّة وإعادة نظام الحكم القيصري، واستعادة أراضي تلك الإمبراطوريّة بالقوّة والتهديد باستخدام السلاح النووي.
ويُشبه بوتين القيصر نيقولاي الثاني في شغفه للتوسّع وامتلاك القوة الذي تسبّب في عهده بنشوب الحرب الروسيّة اليابانيّة بين العامين”1904-1905″ التي هُزِمت فيها روسيا، إذ إنّ بوتين اليوم يكرر نفس خطأ “نيقولاي الثاني عندما قرر ضمّ جزيرة القرم في عام 2014 وغزو أوكرانيا مؤخّراً، وتعتبر هذه العمليات نقضاً لاتفاقيات لاهاي الأولى لعام 1899 و1907 التي عقدها القيصر نيقولاي الثاني والمتعلّقة بمسائل نزع السلاح المحظور حيث تم حظر استخدام الغازات السامة والرصاص المتشظي وقواعد الحرب، ما أدى إلى توحّد الدول الغربيّة ضده، وتقديم كل أشكال الدعم السياسي والعسكري للحكومة الأوكرانيّة لدفع هذا العدوان، حيث مُنيت القوات الروسية بخسائر فادحة، وقد وضعت هذه الدول هدف إلحاق الهزيمة بالرئيس الروسي بوتين وكسر قرنه.
وأمام هذه الخسائر الفادحة وخوفاً من اندلاع ثورة شعبيّة ضده على غِرار ثورتي عامي “1905 و1917” لجأ إلى إعلان التعبئة العامة “دينياً وعسكريّاً” مٌقتدياً بالإمبراطور “قسطنطين” في تمكين حكمه من خلال تأييد الجيش، وتأييد الكهنة، وقد أضاف إليها بوتين أنّه فتح الباب أمام “الأرثوذوكس” في العالم للتطوع لمرتزقة للعمل تحت إمرة قادة الجيش الروسي ومنحهم ميّزات ماليّة خاصة تشجيعيّة، حيث توافدت أعداد كبيرة من المرتزقة للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، وكانت نواتها الميليشيات الطائفيّة في سوريّة التي أنشأتها قيادة القوات الروسيّة في سوريّة التي أطلقت عليها اسم “القوات السهليّة” والتي تم إدراجها على قائمة العقوبات الأوربيّة لثبوت قيامها بتجنيد المرتزقة للقتال في أوكرانيا الى جانب الجيش الروسي. والتي كانت تحت إمرة الجنرال “سيرغي سوروفيكين” الذي نقله بوتين من سوريّة وعينه قائداً للعمليات العسكرية في أوكرانيا.
بدأت مظاهر التعبئة الدينية التي لجأ اليها بوتين إعادة إحياء روح الكنيسة الارثوذوكسيّة، التي بدأت بعد سلسة العقوبات الأوروبية على روسيا على خلفيّة اجتياحها وغزوها وضمِّها لجزيرة القرم الذي أعاد ذكرى احتلال دول البلطيق في 1940 والخوف من تكرارها.
ووفقاً لتاريخ الكنيسة، كان دخول المسيحيّة إلى “أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا” من قِبل القديس أندرو أحد تلاميذ المسيح الأوائل الذي تنقّل عبر البحر الأسود إلى المستعمرة اليونانية “تاوريس خيرسون” في شبه جزيرة القرم، وحوّل عدة آلاف من الرجال إلى الديانة الجديدة. يُقال إن القديس أندرو تنقل شمالاً أيضاً على طول نهر دنيبر، الذي بنيت عليه مدينة “كييف” في القرن الخامس والتي أصبحت فيما بعد العاصمة الأوكرانيّة، وعلى ما يبدو أن الأوروبيين يشعرون بالقلق من حملات صليبية أرثوذوكسيّة معاكسة – ضد أوروبّا العلمانيّة التي تخلّت عن كنيستها – على غرار الحملات الصليبيّة الشماليّة التي أعلنها البابا سلستين الثالث في عام 1193 م ضد الوثنيين والأرثوذكس الشرقيين والبلاطقة والشعوب الفنلندية.
وما أثار قلق الأوروبيّين، تمدّد نشاط الكنيسة الأرثوذكسيّة في البلقان، وفي المجر “هنغاريا” عبر تدفق الأموال بين بودابست والكنيسة الأرثوذكسية منذ عودة فيكتور أوربان إلى السلطة في 2010، لتمويل بناء أماكن عبادة جديدة، المتّهم بإحياء المسيحية في الأراضي المجرية، والذي أعلن مؤخّراً عن عزمه إجراء استفتاء على العقوبات المفروضة على روسيا من جانب الاتحاد الأوروبي، بسبب عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا.
وكذلك زيارة بوتين في عام 2016 لولاية “جبل آثوس المقدس” وهو ولاية يونانيّة نسكية مستقلة ذاتياً، تخضع روحياً لسلطة بطريرك القسطنطينية المسكوني، ويُعتبر بوتين أول زعيم أرثودوكسي يجلس على الكرسي المخصص للأباطرة البيزنطيين فقط في كنيسة السيدة العذراء وتم تعليق علمين فوق الكرسي، العلم الروسي والبيزنطي “راية الروم” والتي هي عبارة عن نسر مزدوج الراس اللذان يرمزان إلى ثنائية السلطة المدنية والسلطة الدينية في التقاليد الرومية، ما يعني تكريس “بوتين” زعيماً روميّاً تتوحّد فيه السلطتين الروحية والسياسيّة.
وتكررت دعوات لمناهضة قيم ما بعد الحداثة التي تتبناها الدول الاوروبيّة والتمسّك بالقيم الدينيّة “الكنسيّة” وكان ذلك في مؤتمر “الأرثوذكسية والإسلام – دينا السلام”، الذي عقد في العاصمة القرغيزية بيشكيك في تشرين ثاني عام 2019. وكذلك في قمة العشرين التي عقدت في اليابان في شهر يونيو 2019 قائلاً: إن السياسات الليبرالية الغربية حول حرية مثليي الجنس والتوجه الجنسي تُفرض على غالبية غير راغبة في ذلك، خصوصاً الأطفال، حيث يتحدثون عن ستة أو خمسة أجناس، متحولين جنسياً ومغايري الهوية الجنسية، وأنا لا أفهم حتى ما تعنيه هذه التسميات.
وتزامنت هذه الدعوات مع نشاط واضح للقيادة الروسيّة في بناء الكنائس وترميم الأديرة سواء في داخل روسيا أو خارجها حيث تم افتتاح الكاتدرائية الرئيسية للقوات المسلحة الروسية “كاتدرائية قيامة المسيح” خلال الاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين للنصر في الحرب الوطنية العظمى، حيث انتهى بناء الكاتدرائية في التاسع من مايو 2020، وكُرّست في 14 يونيو وافتتحت في 22 يونيو 2020.
وكانت قيادة القوات الروسيّة وبرعاية من مجلس الدوما والكنيسة الأرثوذوكسيّة قد أمرت قادة ميليشياتها الطائفيّة في سوريّة ببناء “كنائس” هي أقرب لمقرّات قيادة وتحكّم إلى دور العبادة في كل من مدينتي السقييلبية ومحردة في ريف حماه، وترميم كنائس وأديرة أخرى في ريف دمشق وحمص، بالتعاون مع منظمّة اتحاد العالم المسيحي في موسكو، ومنظّمة نجدة مسيحيّي الشرق في فرنسا حيث تُرفع الأعلام الروسيّة والروميّة فوق هذه المقرّات، وتم رسم “العلم التُركي” على الأرض لتدوسه أقدام افراد هذه الميليشيات، وضبّاط وأفراد القوات الروسيّة الغازية في سورية إضافة الى أقدام رجال الدين المسيحي ومسؤولي حزب البعث والأجهزة الأمنيّة والمخابرات السوريّة، كخطوة عدائيّة للدولة التركيّة وإحياءّ لذكرى سقوط القسطنطينيّة وافتتاح مسجد آيا صوفيا للصلاة.
وقد فتحت موسكو لقائد ميليشيا “نسور الروم” في السقيلبية المجرم “نابل عبد لله” أبواب الجامعات والكنائس والمنظّمات المسيحيّة المتطرّفة لينشر أحقاده التاريخيّة بحق المسلمين، وحق الكنائس الأخرى الأوروبيّة، وكان آخرها الاجتماع التمهيدي لانعقاد مؤتمر ما يسمى “حوار الأديان” منذ أيام الذي سيعقد للمرّة الثالثة في العشرين من هذا الشهر في موسكو.
ويذكر أنه عند تكريس كاتدرائية القوات المسلّحة تسرّبت صور تُظهر فسيفساء غير مكتملة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الدفاع سيرجي شويغو ومسؤولين روس آخرين رفيعو المستوى بالإضافة إلى جوزيف ستالين، تمهيداً لوضعها في الكاتدرائية تخليداً لهم على ما يعتبرونه إنجازاً تاريخيّاً عظيماً في ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014، والحرب الوطنية العظمى. ومع ذلك، ولما ثار الجدل حول ذلك قررت رئاسة الكاتدرائية عدم تعليق أي فسيفساء لبوتين على جدرانها.
ويهدف بوتين من خلال هجومه العلني على القيم الليبرالية الغربية لتوحيد صفوف التيار اليميني في العالم والقوى المحافظة التي تعارض القيم الليبرالية تحت رايته، وتأليبها على سلطات الدول القائمة، والضغط عليها لتغيير سياستها تجاه روسيا، وربّما إلى تنصيبه زعيماً أوحداً للمسيحيّين الأرثوذوكس في العالم الذي يقود حرباً مقدّسة ضد العلمانيّة وقيم ما بعد الحداثة والدفاع عن القيم الدينيّة وعن المسيحيّة والصليب، والذي تمتدّ جبهة حربه من البلطيق إلى أفريقيّا، مروراً بسوريّا ضامناً وجوداً عسكريّاً دائماً من خلال القواعد العسكريّة الدائمة القريبة من حدود الدول الأوروبيّة، وتجنيد وتدريب ونشر المرتزقة والميليشيات المسيحيّة العقائديّة وزجِّها في معاركه على غِرار فِرق ما كان يُسمّى “فرسان الصليب أو “فرسان المعبد” الكاثوليكيّة أثناء الحملات الصليبيّة، طامحاً إلى اعتباره أحد رسل المسيح أو الحواريّ الرابع عشر فيما إذا انتصر على الأوروبيين، خلفاً للإمبراطور “قسطنطين” الذي كرّسته الكنيسة الأرثوذوكسيّة الحواري الثالث عشر. وأن يُدفن جثمانه بعد وفاته في إحدى الكنائس الأرثوذوكسيّة المقدّسة، واعتقد بأن هزيمته في أوكرانيا ليست بعيدة وستحيل مصيره إلى مثل مصير “نيقولاي الثاني” وأسرته حيث لن يجد مكاناً ليدفن فيه، فلا هو بلغ حواريّة قسطنطين ولا شهادة نيقولاي.
مقال هام توضيحي للخلفية العدوانية الصليبية لبوتين وحلم بطرس الأكبر بإحتلال بلاد الاسلام .