بعد العقوبات وكورونا.. هل تلوح إيران بقميصها الأبيض
ربما لم يبق لإيران سوى ذاك القميص المرقّع، الذي بات بالكاد يستر عيوبها، ويواري سوءاتها وجرائمها التي غطت العالم العربي.
قرابة عقدٍ ونيّفٍ من العقوبات التي أنهكت الاقتصاد الإيراني، باستثناء تلك الوقفة في منتصف العقد الفائت، والتي كانت كاستراحة محارب بالنسبة للإمبراطوية التي أضحت تقف على ساقي دجاجة. حيث كان الاتفاق النووي أحد أبرز إنجازات الخارجية الإيرانية والأوروبية على السواء، فخلال أكثر من نصف قرن لم يسجّل الأوروبيون حضورهم في مذكرات السياسة اليومية، الأمر الذي دفعهم إلى التمسك به بشكل كبير.
فمع رفعِ العقوبات، عادت تدفقات الاستثمارات والمشاريع، لتضخ الحياة في شرايين الاقتصاد المتيبسة، وأعلنت شركتا “رينو” الفرنسية و”فيات” الإيطالية عن معاودة نشاطهما وتوسيعه في السوق الإيرانية. لتلتحق بهما شركات النفط الفرنسية والصينية معلنتان عن مشاريع جديدة بمليارات الدولارات، لإعادة الحياة إلى القطاع النفطي الذي خسر قسماً كبيراً من بنيته التحتية. ومع ضعف شبكات الاتصال، التحقت “فودافون” البريطانية بالركب لتعلن نيتها القيام باستثمارات داخل إيران.
كانت فرنسا تحديداً هي الساعية لفتح الأسواق الإيرانية أمام شركاتها، في محاولةٍ لاستعادة أمجادها الاستعمارية، بعد الأزمات المتتالية التي ضربت الاقتصاد الفرنسي، والتي دفعت بأصحاب السترات الصفراء إلى الشوارع، مطالبين برحيل ماكرون. حيث ترى باريس أنّ مقومات الاقتصاد الإيراني، إذا ما تمَّ استغلالها، ستمنح الشركات الفرنسية الكثير من الميزات، خاصةً مع مخزونات الطاقة الضخمة الموجودة ضمن الأراضي الإيرانية.
إلا أنّ هناك أهدافاً أخرى تدفع أوروبا، مجتمعةً، للدفاع عن إيران. فمع صعود الجمهورية التركية كقوةٍ إقليميةٍ، تحمل في صدرها أنفاس الامبراطورية العثمانية، كان لابدّ من قوةٍ تضاهيها، وتشكّل حاجزاً أمام أحلامها القديمة. فلطالما حمت الامبراطورية الفارسية أوروبا من جحافل الجيش الإنكشاري العثماني، وذلك من خلال الحروب والتناحر بين القوتين على السيادة عبر الأزمان. ومع استخدام روسيا لفكي كماشة النفط والغاز، احتاجت أوروبا دائماً، إلى دولةٍ يمكن الاعتماد عليها في هذه المسألة، حيث تغاضت أوروبا عن مجازر الإيرانيين في العراق وسوريا، بقدر ما تغاضت عن مذابح الصرب في البوسنة، ودعمت إيران في مساعيها للوصول إلى شواطئ المتوسط الشرقية، علّها تبدأ في شحن النفط والغاز لتدفئة شتاء أوروبا القارس. كما أنّ إيران تملك ما تملك من الميليشيات التي تمكّنها من خوضِ أيّ صراعٍ، نيابة عن الأوروبيين في الشرق الأوسط.
على الرغم من تمسّك الأوروبيين بالاتفاق النووي، إلا أنّهم يعلمون تماماً أنه لا يمكن أن يشيحوا ببصرهم عن إيران ولو للحظة، فأحلام فارس تمتد لآلاف السنين في هذه البقاع “المقدسة”، ولذا كانت العقوبات الأمريكية بمثابة ضابط إيقاع للسيمفونية الإيرانية. فمع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، عادت العقوبات لتدقَّ إسفيناً جديداً في النعش الذي تحاول الإدارة الأمريكية دفن أحلام طهران بداخله.
جاءت العقوبات ليعود الاقتصاد إلى الغوص في الوحل من جديد، تراجعت صادرات النفط من 2.3 مليون برميل يومياً، إلى أقل من نصف مليون برميل، وبدأت الشركات الأوروبية والعالمية تحزم حقائبها لتقفز من السفينة التي ثُقبت مرةً أخرى. كما وتُظهر توقعات صندوق النقد الدولي بأنَّ الاقتصاد الإيراني سينكمش بنسبة 9% خلال العام الفائت. كل ذلك أرخى بأثرٍ ثقيل على معظم القطاعات الاقتصادية، فقد ارتفعت أسعار الغذاء بأكثر من 40%، وبات هناك أكثر من 10 ملايين عاطل عن العمل بين الإيرانيين، وتوقفت العديد من المشاريع التي كان يعوّل عليها تيار الإصلاحيين، لدفع عجلة الاقتصاد بعيداً عن شبح الركود.
إلا أنّ العقوبات زادت من اعتماد الإيرانيين على أنفسهم، فحسب “الفايننشال تايمز” استطاعت إيران أن تصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي بالنسبة للغذاء، وباتت شركات الأدوية تستحوذ على 70% من مجمل القطاع، كما قامت شركة السيارات “إيران خودرو” بتطوير إنتاجها من قطع الغيار التي كانت تُستورد من الخارج. وحيث أنَّ هناك في كل أزمة مستفيدين، فقد طور الحرس الثوري من أدواته، وأصبح يتربّع على امبراطورية اقتصادية مترامية الأطراف، إذ تشير بعض التقارير إلى أنه يستأثر بحوالي 80% من النشاط الاقتصادي في البلاد، وهذا ما يبرر سعي تيار المحافظين إلى إجهاض الاتفاق النووي بشتى الوسائل. فمع العقوبات، وحين يصعب على الأفراد، والشركات المتوسطة والصغيرة، الوصول إلى السوق العالمية، يأتي دور الكيانات، التي تمتد أذرعها إلى دول عديدة، وتمتلك شبكة استخبارات متمرسة، وأدوات متشابكة.
لكن كل ذلك لم يسعف إيران، فحالة الاقتصاد تلك، لا تتماشى إلا مع دولة في حالة حرب، وإيران لا تعيش صراعاً، كما في سوريا والعراق واليمن. وقد سقط الريال الإيراني إلى أكثر من 132000 مقابل الدولار، من حوالي 50000 لكل دولار، وبات رجال الأعمال يهرّبون أثمان صفقاتهم داخل حقائب السفر، ويتعرضون لمختلف عمليات الاحتيال، وأضحى النظام يهرّب نفطه بالسفن التجارية من ميناء بندر عباس، وصارت الطبقة الثرية تهرب بممتلكاتها وأبنائها إلى الدول المجاورة.
كان فيروس كورونا القشّة التي قصمت ظهر البعير، والذي كشف كل العورات التي تحاول طهران مواراتها، وظهرت حقيقة الوضع الإيراني الكارثي. أصيب الاقتصاد بالشلل التام، وشكّل مع العقوبات، ثنائياً أصاب طهران في مقتل، وقد ترجم ذلك فعلياً بسعي إيران إلى صندوق النقد الدولي، وطلبها لقرضٍ بقيمة 5 مليار دولار، لأول مرة منذ الثورة الإيرانية. وبدأت إيران تبحث عن مخرج فعلي من تلك الكارثة. فهي تتهم الولايات المتحدة بمنعها من الوصول إلى المساعدات الطبية، من خلال عدم استطاعتها القيام بالتحويلات المالية اللازمة، وقد أكدت صحيفة “نيوز ويك” الأمريكية ذلك في تقريرٍ لها.
لكن مع اجتياح الفيروس للولايات المتحدة، والذي كشف أيضاً عن كذبة “الحلم الأمريكي”، ومع انشغال واشنطن بالتداعيات الاجتماعية والاقتصادية، يحاول النظام الإيراني استغلال الوضع لدحر القوات الأمريكية في العراق. حيث قالت الـ “واشنطن بوست”: إنَّ هناك تحركات جدية للمليشيات الإيرانية، لضرب القوات الأمريكية في العراق، وهي فرصةٌ قد لا تتكرر مرة أخرى. مما استدعى نقل الجنود الأمريكيين إلى قواعد أكثر تحصيناً، ودعا بـ ترامب إلى محاولة الضغط على الحلف الأطلسي، بدفعه لزيادة عديد قواته في العراق.
مع اختناق طهران وغرقها بالمشاكل الكارثية على الصعد كافةً، وانشغال واشنطن، أصبحت مطالبة أمام شعبها، أكثر من أي وقت مضى، بتحقيق نصر يحفظ ماء الوجه، ويعيد إلى ولاية الفقيه هيبتها. لكن هل بقي لإيران رمقٌ بعد استنزاف قواتها في الشرق الأوسط، هذا ما ستكشفه الأسابيع القادمة.
يبدو أن مياه الخليج العربي لن تبقى راكدة، وستحمل رياح الربيع معها الصواريخ والرصاص، بدلاً من غبار الطلع الذي اعتادت عليه الأزهار.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”