fbpx

بعد الخبز

0 938

صعب جداً أن تجد غرفة شاغرة في فنادق الدرجة الأولى باللاذقية، هذا الخبر صعقني في دولة تشهد فقراً مدقعاً وعقوبات اقتصادية، الأمر الذي دفعني شخصياً أن أتواصل مع تلك الفنادق مباشرة، فكان الرد، أنها جميعا ممتلئة حتى الأول من سبتمبر/أيلول 2021، وأجرة الغرفة إن وجدت 415 ألف ليرة سورية، أي ما يقارب 150$.

فعلياً، من يقطن تلك الغرف هم إما مغتربون سوريون، قرروا زيارة أهلهم مستفيدين من فارق الأسعار، أو أسر قادة المليشيات “أمراء الحروب” ، فهذه الفنادق توفر لتلك الأسر، الكهرباء 24 ساعة والماء الساخن بشكل دائم، في حين تشهد أحياء المدينة انقطاع بالتيار الكهربائي يقارب 16 ساعة باليوم.

بعض أسر قادة المليشيات “أمراء الحروب” لم تدفع تكاليف إقامتها لأكثر من ستة أشهر في تلك الفنادق، والسبب أن رّب إحدى هذه الأسرة هو من يزود الفندق بالنفط لتشغيل مولدات الكهرباء، أما الآخر فهو من يزيل الضرائب عن الفندق.  

والأمر لا يقتصر على الفنادق وحدها، بل وصل إيجار الشقة الفندقية في مصيف صلنفة بريف اللاذقية في الشهر الواحد لما يقارب ثلاثة ملايين ليرة سورية أي ما يقارب ألفي دولار، وكان من اللافت أن أغلب تلك الشقق هي موطن لأسر مقاتلي حزب الله، ففي سوريا كل الخدمات موفرة لهم مجاناً، ما يجعلهم يمضون وقتاً هنيئاً بينما رجالهم يشرفون على الحواجز العسكرية أو ينظمون عمليات تهريب المخدرات والنفط بين لبنان وسوريا.  

هذه المعلومات على بساطتها، كنز حقيقي لأي جهاز أمني يرغب في تعقب مجرمي الحرب، وقادة المليشيات، ومقاتلي حزب الله، ورؤوس هرم السلطة الأمنية السورية، فعموم أسرهم مقيمة في تلك الفنادق وأرقام سياراتهم مكشوفة للعلن، حيث يرافق تلك السيارات سائقون دائمو الوجود بالقرب من السيارة، ومع كل أسرة ترى خادمة سيرلنكية أو فلبينية أو أكثر من واحدة.

الواقع الشعبي:

بعيداً عن واقع الفنادق توجد حياة أخرى قائمة على مواطنين مقهوري الإرادة، تتجاوز نسبتهم 98٪ من سكان سوريا، وجميعهم ينتظرون أية قرارات حكومية علها تزيد من مخصصاتهم الغذائية فيما يسمى “البطاقة الذكية”، حيث تسمح تلك البطاقة لكل أسرة مكونة من خمسة أفراد الحصول على ربطتي خبز كل يومين “وزن الربطة 1200 غرام” بقيمة 200 ليرة سورية للربطة الواحدة، وكانت قيمة هذه الربطة 100 ليرة سورية، ولكن الدولة قررت رفع سعر الخبز بنسبة 100٪ ، يوم ١١ يوليو/تموز 2021، والزيادة طالت مادة المازوت حيث وصل سعر الليتر إلى 200 ليرة بعد أن كان 180 ليرة سورية، أيضاً ارتفع سعر وقود السيارات ليصل الليتر الواحد إلى ثلاثة آلاف ليرة سورية  بعد أن كان 2500 ليرة سورية.

هذا الارتفاع بالأسعار انعكس مباشرة على حركة النقل، فارتفعت أجور المواصلات بنسب تتجاوز 100٪، كما ارتفعت عموم السلع بما يزيد عن 60٪ في تخوف واضح من التجار من انهيار وشيك لليرة السورية.

حتى أسعار علف الحيوانات ارتفعت ليصل سعر الكيلو غرام الواحد إلى 960 ليرة سورية، بعد أن كان 600 ليرة سورية، وهذا الأمر دفع بسعر الكيلو غرام من لحم الغنم للارتفاع نحو 28 ألف ليرة سورية بعد أن كان 22 ألف ليرة سورية. 

وفي ظل مسعى من الحكومة لامتصاص غضب الشارع، أعلن يوم 13 يوليو/ تموز 2021، عن زيادة في أجور الموظفين بنسبة 50٪، في حين يحصل المتقاعدون على زيادة تبلغ نسبتها 40٪، ولكن هذه الزيادة أثارت انتقاداً واسعاً لأنها لا تتناسب مع زيادة الأسعار.

الأمر الذي دفع رئيس مجلس الوزراء السوري حسين عرنوس للظهور على القناة السورية، مبيناً أن الدولة لم تتخلى عن سياسة دعم المنتجات للمواطنين، حيث أن كلفة ربطة الخبز على الدولة 1200 ليرة سورية، وكلفة ليتر المازوت على الدولة هو 1967 ليرة سورية، أي أن الدولة تخسر في مادة الخبز ما يعادل ألف ليرة سورية عن كل ربطة خبز، وتحاول تعويض خسارتها بمرابح الوقود.

كما وضح أن زيادة الرواتب بقيمة 50٪ مع خسائر الخبز المدعم أدت لخسارة خزينة الدولة 84 مليار ليرة سورية، في حين مرابح الوقود تجلب 64 مليار ليرة سورية، وهذا يدلل أن الدولة السورية تخسر 20 مليار ليرة سورية “أي ما يزيد عن 6.3 مليون دولار” كل عام.  

بالتأكيد تصريحات عرنوس لن تطعم الشعب، وأثارت موجة عارمة من الانتقادات، فالأزمة لا تقتصر على زيادة الأسعار، بل تمتد نحو غياب قنوات تأمين المواد، حيث يمنع على المواطنين الحصول على الخبز بدون وصول رسالة sms تعلمهم بدورهم، وفي كثير من الأحيان يتعطل نظام المراسلة فلا تحصل الأسر على الخبز، ما يدفعها لشرائه من السوق الحرة بقيمة 1700 ليرة سورية، أيضاً يمنع على أي أسرة الحصول على أكثر من 25 ليتر من البنزين في الأسبوع الواحد، ما يدفع بالمواطنين خاصة الذين يعملون كسائقي سيارات أجرة أن يشتروا وقود سياراتهم من السوق الحرة، ما دفع بأجور سيارات الأجرة الخاصة “التاكسي”  لأن ترتفع بشكل جنوني غير متناسب مع دخل أي موظف. 

هذا الواقع أدى لتسرب الكثير من الموظفين عن الالتحاق بأعمالهم، فهم عاجزون عن الوصول لمكاتبهم يومياً وتحمل نفقات النقل، خاصة إن كانوا مقيمين في ضواحي المدن أو الأرياف.

الفقر غزا كل المنازل، وباتت الرفاهية منحصرة بمن يستطيع الحصول على ربطات الخبز من السوق الحرة، فانعدم اللحم والدجاج من المنازل، واستعاضت النسوة عن بروتين اللحم ببروتين الحبوب مثل العدس.

بالتأكيد هذا الواقع سينذر بكارثة غياب الأمن الغذائي في مناطق النظام، ما سيشكل زيادة في الجريمة بهدف تأمين لقمة العيش، وهذا الأمر تدركه الأجهزة الأمنية وزعماء المليشيات، لذا جرى تعزيز القبضة الأمنية مؤخراً في المدن الرئيسية “حلب، اللاذقية، حمص، دمشق” بحيث زادت الحواجز الأمنية عند مداخل المدن، وتمركزت سيارات أمنية أمام المباني الحكومية، وأطلقت الصلاحيات للعناصر الأمنية باعتقال أي مشتبه به، مع السماح باستخدام الرصاص الحي عند بروز أية مقاومة.

هذا الواقع الأمني سمح لرجالات السلطة الجديدة أن تلتهم السوق السورية، ففرضت الفرقة الرابعة هيمنتها على المعابر الحدودية السورية، وتمت مصادرة أي أجهزة الكترونية جديدة تدخل الحدود السورية من قبل الأفراد، لضمان هيمنة الاقتصاديين المزروعين من قبل ماهر الأسد وأسماء الأسد السيطرة المطلقة على قطاعي الاتصالات والتكنولوجيا، كما فرضت الجمارك بتوصية من الفرقة الرابعة ضرائب جمّة على التجار، ما دفع الكثير منهم لمغادرة سوريا، فهمين رجالات السلطة والأمن على التجارة التي عمل بها هؤلاء التجار منذ عقود.

وبادرت السلطات السورية إلى فرض سياسة محاصرة مالية للتحويلات البنكية، بحيث يمنع على التاجر استلام أو تحويل مبلغ مالي يتجاوز المليون في الأسبوع الواحد، وطبعاً عموم هذه السياسات هدفها الوحيد عدم كشف عورة صرف الليرة السورية أمام سلة العملات، ولكنها بالحقيقية سياسة حمقاء، واستمرارها سيعني احتمالين لا ثالث لهما:

الأول: سيكون انهياراً اقتصادياً مطلقاً، وبوادره بات يلمسها عموم السوريين الآن.

أما الثاني: فسيعني مغادرة السوريين لسوريا، وبقاء القائد مع حاشيته مبتسماً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني