الهجري والبيروقراطية الثقافية السورية
احتكر المثقفون السوريون الذين انحدروا من المدارس الماركسية واجهة المشهد الثقافي – السياسي السوري منذ النصف الثاني من عقد السبعينات الماضي إلى حد كبير، صحيح أنهم لم يعودوا ماركسيين في السياسة، لكنهم لم ينفكوا عن الطرائق القديمة في التفكير.
حملوا معهم أينما ذهبوا نقائص وعيوب تلك الطرائق القديمة، فحين أصبحوا ليبراليين فهموا الليبرالية كعقيدة وليس كفكر حي قابل للتقدم والانتكاس، وحين لم تعد الليبرالية زادا عقائديا كافيا، أضافوا اليها علمانية عقائدية لا تقبل المساومة، وحين فشلت تلك الطبقة الثقافية – السياسية في الاندماج مع الثورة السورية في 2011 بل وشكلت عقبة وعاهة أمام تلك الثورة الشعبية، وبدلا من أن تنظر للخلل في داخلها وطريقة تفكيرها وخاصة علاقتها مع الشعب فضلت توجيه النقد للخارج، أي للإسلاميين الذين “اختطفوا الثورة” أما أين كان حراس الثورة وكوادرها السياسية حين حدث الاختطاف فليس أمراً يستحق التفكير.
فشل الطبقة السياسية – الثقافية السورية كان في الحقيقة شرطا ليقفز الإسلام السياسي نحو الأمام و” يختطف الثورة “.
موضوعة تحميل الإسلام السياسي المسؤولية الكاملة عن الانتكاسة الكبيرة التي حدثت بعد أقل من عام على ثورة الشعب في العام 2011 أصبحت تشكل حجر الأساس في دفاع الطبقة السياسية – الثقافية السورية عن نفسها، ومن أجل توسيع و ” تعميق ” تلك الفكرة كان لابد من أدلجتها برفع راية علمانية متشددة من جهة، والبحث في مسؤولية التدين الشعبي وراء فشل كل المحاولات التحديثية في المنطقة العربية.
فالمشكلة الكبرى ليست في عدم جاهزية تلك النخب للتفاعل مع الشعب وتحمل مسؤولية القيادة ولكن بالشعب نفسه الذي سرعان ما ينساق وراء الإسلاميين ويترك مثقفيه وحيدين في الساحة.
كل شيء كان مثاليا لا يقبل النقد، كل أفكارهم ومواقفهم السياسية، المشكلة نشأت عندما انساق الشعب نحو الإسلاميين، وما يعنيه ذلك مما لا يقال: إن المسؤولية تقع على عاتق الشعب.
ربما لا يتسع تعبير البيروقراطية لوصف فشل تلك الطبقة السياسية – الثقافية ليس في زمن الثورة الأول فحسب ولكن بعد انتكاسة تلك الثورة ووجود ضرورة ملحة للاعتراف بالفشل ونقد أخطاء تلك المرحلة. فالبيروقراطية وحدها هي التي لا تعرف النقد، لكن البيروقراطية لا تعرف أيضاً – وهذا يحسب لها – تنظير الأخطاء وأدلجتها.
اليوم يخرج شيخ للعقل في السويداء، ليصبح خلال فترة قصيرة زعيماً وطنياً، شيخ لا يعرف الأيديولوجيات، ولا الفلسفة، زاده وطنية صافية، بساطة، نزاهة، وقدرة على التواصل مع الناس واكتساب محبتهم.
نموذج كهذا لا شك يشكل إحراجاً لكل البناء الأيديولوجي لطبقتنا السورية السياسية، تعاطف الناس معه ضمن أهداف ثورة 2011 ذاتها الوطنية الديمقراطية إحراج آخر.
في التاريخ الحديث لسورية قيادات عديدة استطاعت حشد الجماهير ضمن أهداف وطنية – ديمقراطية مع وجود إسلاميين وتدين شعبي.
بمن نبدأ؟ هل نبدأ بجمعية العربية الفتاة القومية الحداثية التي اكتسحت الشارع في العهد الفيصلي؟ أم بقيادات مثل عبد الرحمن الشهبندر، هاشم الأتاسي، سلطان باشا الأطرش، صالح قنباز، شكري القوتلي، مروراً بعبد الناصر الذي مهما وجد من يجادل في أخطائه فمن الصعب إنكار مدى التأييد الشعبي الذي حاز عليه مع ما جرى بينه وبين تيار الإسلام السياسي في مصر.
الشارع إذن ليس وقفاً على الإسلاميين، لكنهم البديل الدائم لفشل التيارات الأخرى، وفي حالة الثورة السورية كانوا البديل لفشل الطبقة السياسية – الثقافية في الاضطلاع بدور القيادة السياسية.
حكمت الهاجري باغت طبقتنا الثقافية وأحرجها كي لا نقول كشف عجزها، ذلك العجز الذي مازالت ترفض الاعتراف به والبحث عن أسبابه في داخلها قبل أي شيء آخر.