الموقف الأمريكي من الملف السوري: تحليل في ضوء رؤية هنري كيسنجر
مقدمة
تعد الحالة السورية واحدة من أكثر النزاعات تعقيداً وتشابكاً في التاريخ الحديث، حيث تداخلت فيها المصالح الدولية، والإقليمية، والمحلية بشكل يصعب معه الوصول إلى حل شامل يُرضي جميع الأطراف. منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، واجهت الولايات المتحدة الأمريكية تحديات كبيرة في تعاملها مع هذا الملف. ولعل الموقف الأمريكي كان دائماً محط نقاش وجدل، خاصة في ظل التصريحات والرؤى التي قدمها خبراء السياسة الأمريكية مثل هنري كيسنجر.
رؤية كيسنجر للدبلوماسية الأمريكية
هنري كيسنجر، أحد أبرز الدبلوماسيين الأمريكيين في القرن العشرين، كانت له رؤية واضحة حول دور الدبلوماسية الأمريكية على الساحة الدولية. كيسنجر يرى أن مهمة الدبلوماسية الأمريكية ليست حل المشاكل العالمية بشكل مباشر، بل تكمن في “احتراف الإمساك بخيوط اللعبة جيداً”. هذا يعني أن الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على توازن القوى وضمان مصالحها الاستراتيجية، بغض النظر عن النتائج الإنسانية أو الأخلاقية التي قد تترتب على ذلك.
الثورة السورية والنظام السوري
بدأت الثورة السورية في عام 2011 كحركة احتجاجية سلمية تطالب بالحرية والإصلاحات السياسية، ولكن سرعان ما تحولت إلى نزاع مسلح نتيجة قمع النظام السوري للاحتجاجات بوحشية. الرئيس بشار الأسد اعتمد على استراتيجية القمع العسكري العنيف، مدعوماً من حلفائه مثل إيران وروسيا، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية وتدمير البنية التحتية للبلاد.
الدور الأمريكي في الملف السوري
منذ البداية، كان موقف الولايات المتحدة تجاه الثورة السورية متردداً ومعقداً وهذا ما سعى إليه الرئيس الأمريكي باراك أوباما حيث فاوض الإيرانيين على برنامجهم النووي مقابل الملف السوري.
لم تتخذ الإدارة الأمريكية موقفاً حاسماً تجاه دعم المعارضة السورية أو التدخل العسكري المباشر ضد نظام الأسد ودعماً للديمقراطية المزعومة. كانت الولايات المتحدة تقدم دعماً محدوداً لبعض فصائل المعارضة المسلحة، لكنها في الوقت نفسه لم تقم بأي خطوات كبيرة تهدف إلى إسقاط النظام السوري أو فرض حل سياسي شامل.
وفقًا لرؤية كيسنجر، يمكن تفسير هذا الموقف الأمريكي بناءً على اعتبارات إستراتيجية طويلة المدى. الولايات المتحدة لم تكن معنية بشكل أساسي بدعم الثورة السورية، بل كانت تركز على إدارة الصراع بطريقة تحافظ بها على توازن القوى في المنطقة، وتضمن عدم استفادة أي طرف معين بشكل كامل من النزاع.
التوازنات الدولية والإقليمية
أدى تداخل القوى الدولية والإقليمية في سوريا إلى تعقيد الموقف الأمريكي. روسيا وإيران دعمتا النظام السوري بشكل علني، بينما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة مثل تركيا ودول الخليج يدعمون بعض فصائل المعارضة. لكن على الرغم من ذلك، لم يكن هناك تنسيق كامل بين هذه الأطراف بل حاربت بعضها البعض في السر والخفاء، مما جعل الصراع أكثر تعقيداً.
من منظور كيسنجر، قد ترى الولايات المتحدة أن تدخلها المباشر في سوريا قد يؤدي إلى تفاقم الصراع وزعزعة الاستقرار الإقليمي بشكل أكبر، مما قد يؤثر على مصالحها الإستراتيجية في المنطقة. لهذا، اكتفت واشنطن بدور محدود يهدف إلى الحفاظ على التوازن، دون اتخاذ خطوات جذرية (استمرار الحال على ما هو عليه دون الاهتمام بالحالة الإنسانية للشعب السوري).
الدور الروسي وميزان القوى
اللاعب الأهم الذي غير قواعد اللعبة في سوريا كان روسيا. تدخل روسيا العسكري المباشر في 2015 قلب موازين القوى لصالح النظام السوري، ما أعطى روسيا دوراً أساسياً في تحديد مستقبل سوريا. هنا، ظهرت إستراتيجية “الإمساك بخيوط اللعبة” بوضوح، حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته روسيا، مما قيد حرية التحرك الأمريكي في الملف السوري.
نتائج السياسة الأمريكية في سوريا
قد يرى بعضهم أن السياسة الأمريكية في سوريا كانت فاشلة لأنها لم تؤد إلى إسقاط النظام السوري أو وقف النزاع بشكل كامل. ولكن من منظور كيسنجر، قد تكون الولايات المتحدة قد حققت أهدافها الإستراتيجية من خلال عدم الانجرار إلى تدخل عسكري واسع النطاق، والحفاظ على قدرتها على التأثير في مسار الأحداث دون تحمل تكاليف كبيرة.
خاتمة
في النهاية، يمكن القول إن الموقف الأمريكي من الثورة السورية يعكس رؤية كيسنجر حول الدبلوماسية. الولايات المتحدة، في ضوء هذه الرؤية، لم تسع إلى حل المشكلة بشكل مباشر، بل ركزت على الحفاظ على التوازن الإستراتيجي في المنطقة. ومع استمرار الصراع السوري حتى يومنا هذا، يبدو أن الولايات المتحدة نجحت إلى حد كبير في الإمساك بخيوط اللعبة، وإن كان ذلك على حساب الشعب السوري ومعاناته المستمرة.