الموالون بين “سيزر” وحافظ أسد والأحمق
“انهض، دمّر قبرك واقتل الموت وتعال إلينا. انهض يا دمنا ودموعنا. انهض يا صانع عزتنا. انهض فشعبك أضحى بين أنياب الضباع. انهض فشعبك بات جائعاً وأنت أبا الفقراء يا سيدي”.
نداءات وجهها أصحابها لحافظ الأسد عبر منشوراتهم على صفحات “الفايسبوك”، غالبيتهم من أبناء طائفته الموالين ومن كبرى عائلات مدينة القرداحة مسقط رأسه، بل ومن أبناء عائلة الأسد نفسها. وشاركت منشوراتهم مختلف الصفحات الإخبارية الموالية في الساحل السوري ومناطق سورية أخرى.
المتابع لتلك المنشورات المرفقة بصور لضريح حافظ الأسد أو لصوره الشخصية، يفهم جيداً معانيها ومراميها بوضوح شديد، وكأنّ كاتبها يريد القول: “بعد رحيلك فقدنا المزرعة ومحاصيلها بعد أن باعها وضيّعها وريثك وابنك، وغدونا جياعاً وضعفاء يتحكم بنا الأغراب (الضباع)”.
ذلك هو المعنى العام والظاهري لقارئي المنشورات من عموم السوريين، إلا أن معانيها الخفيّة لا يدرك أبعادها سوى عائلة الأسد وكبرى عائلات الطائفة المنتفعة من الأولى، بالإضافة إلى الموالين والشبيحة، وشريحة واسعة من البسطاء والمغلوبين على أمرهم في قرى الساحل؛ إذ ترتبط تلك المعاني بمكانة ومقدرة حافظ الأسد الفائقة لقدرة البشر، المتجذّرة في أعماق مسلماتهم ومداركهم.
لتقريب الصورة أكثر سأعرض تفاصيل حادثة رواها أحد أبناء مدينتي، شاءت طبيعة عمله أن يكون قريباً من دائرة نظام الأسد الضيقة في تسعينيات القرن الماضي. حيث قال:
“كنا مجتمعين في إحدى قاعات القصر الرئاسي يوم توفي باسل الأسد. وكان يفصل بينها وبين الصالة التي تضم نعشه باب كبير، يتم فتحه كلما أقبل وفد من وفود المعزّين. وعند خروج أحد الوفود من الصالة أطلّ حافظ الأسد – وكانت الصدمة بادية عليه بصورة لم تكن مألوفة على الإطلاق – نظر نحو الواقفين ثم قال لمرافقه – ابن خاله – (ذو الهمة شاليش) لا تدع أحداً يدخل”.
ويتابع راوي القصة: “دخل حافظ الصالة وأغلق ذو الهمة الباب خلفه وبقي واقفاً يحرسه. مرت نحو ربع ساعة وحافظ ما يزال داخل الصالة. كنت حينها أقف أنا والشرع وعبد الحليم خدام وضابط معروف. اقترب الثلاثة من ذو الهمة محاولين الاطمئنان عن حالة رئيسهم. أما أنا، وبحكم مركزي الوظيفي، جاء مكان وقوفي على يسارهم بقرب باب صالة النعش؛ أقسم بأني سمعت صوت حافظ يخاطب ابنه باسل طالباً منه النهوض! حافظ أسد كان ينظر لنفسه كإله!”.
لم أهتمّ كثيراً بنتيجة الراوي، بل رسمتُ ابتسامة خفيفة وعلّقت آنذاك بأنه مفجوع على ابنه البكر وهذا يحصل مع العديد من الأشخاص العاديين نتيجة الصدمة.
بعد اندلاع ثورة السوريين، ومع انتشار مقاطع ركوع الموالين أمام صور حافظ الأسد وابنه خلال مسيرات التأييد، وكذلك مشاهد التعذيب المسربة المتضمنة سؤال السجانين للمعتقلين: “مين ربّك ولاك؟” وإجبار الأخيرين على الإجابة بـ “بشار الأسد”، وجملة الشبيحة الشهيرة “الأسد أو لا أحد”؛ يبدو أنها أثبتت صحة النتيجة التي خلص إليها راوي القصة منذ ذلك الحين دون أن ندري.
الدلالات التي تحملها عبارات الموالين السالفة تؤكّد مدى الانهيار الداخلي والضعف الذي يحاصرهم، لدرجة أفقدتهم إيمانهم بقدرة الأب “الخارقة” و”الخالدة”، والتي يجب أن تنتقل تلقائياً لابنه من بعده. وحين لمسوا عكس ذلك راحوا يناجون “المؤسس” ليعود وينقذهم من الحضيض الذي أوصلهم إليه وريثه.
وبالرغم من ذلك ما زال بعضهم يكابر وهو يلقي بالمسؤولية، مستنداً على نظريات إعلام النظام “الممانع”: على عاتق الأمريكان وقانون قيصر (سيزر) الذي مرّرته المعارضة الخارجية “العميلة الخائنة” كي يستهدف حياة السوريين المساكين المقيمين بـ “أمان وسلام” داخل مناطق النظام، للانتقام منهم نتيجة صمودهم الخارق مع قائدهم “المقاوم” ما تسبّب بانهيار الليرة الصاعق، وبغلاء وفقدان المواد المعيشية وأولها الخبز، وبسحب الدواء من الصيدليات، وانتشار الفقر والجوع بين المواطنين، ما يدفعهم بالتالي للتظاهر ضد الحكومة – وليس الرئيس – ضمن ما يسمّى بـ “ثورة الجياع”!
إذن، فهي مؤامرة تضاف إلى عشرات المؤامرات الموجّهة للنظام السوري “الصامد” ووحدة سوريا وسيادتها وقائدها “المعصوم” منذ تسع سنوات، فالدول “الإمبريالية الصهيوأمريكية” فشلت في إخضاع سيادته والنيل من حكمته وحنكته في “ضبط النفس” والاحتفاظ بالهدوء و”حق الرد في المكان والزمان المناسبين”.
لا شكّ بأن الولايات المتحدة لا تكترث بشعوبنا بقدر ما تهمّها الأنظمة. ولطالما كانت الشعوب أداةً بيد أمريكا لتحقيق مآربها المرسومة ضد الأنظمة بما يخدم مصلحتها وأمنها القومي وأمن حلفائها لا سيما إسرائيل.
فالعراق مثلاً تم ضرب اقتصاده عبر اتفاقية “النفط مقابل الغذاء” لتتراجع قيمة الدينار العراقي الذي كان يساوي (3,3 دولار) قبل الحصار، إلى نحو (0,004 مقابل الدولار) بعد البدء بتطبيق الحصار بسنوات، وعانى العراقيون الويلات. وبالرغم من ذلك لم يسقط النظام إلا بالتدخّل العسكري بعد أكثر من 10 سنوات من الحصار.
لكن، وبالمقارنة مع قانون قيصر وانعكاساته الأخيرة على النظام السوري ومناطقه، فإن أكثر ما يدعو للسخرية والامتعاض من سلوك النظام الأرعن هو بروز الآثار السلبية لتطبيق القانون قبل الإعلان عن بدء العمل به أصلاً! فسريان مفعول قانون سيزر سيبدأ في 17 من يونيو الجاري، ما يعني وجود أسباب غير معلنة ساهمت بالتردّي السريع والمفاجئ للوضع الاقتصادي.
وبصرف النظر عن الحديث في تلك الأسباب، يبدو أن النظام لم يعد بإمكانه التستر على حالة الانهيار المريع، لا سيما بعد انتشار تفاصيل بيع وتأجير ممتلكات البلد للروس والإيرانيين قبل دخول سيزر حيّز التنفيذ. وهذا بالضبط ما أدّى إلى استعادة الثورة لسيرتها الأولى انطلاقاً من السويداء، وأغلب الظن أنها ستصل إلى مناطقه عاجلاً أم آجلاً بدلالة تلك المنشورات، ولن تقف إلا برحيله هذه المرة مهما حاولوا نعت حراك السويداء بأنه “ثورة جياع”، فثوار الجوع يرفعون راية رغيف الخبز لا راية الثورة وهتاف “يا بشار يا عكروت، هاي الثورة ما بتموت”.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”