المنهج والمشروع الفلسفي للدكتور الطيب تيزيني
يعتقد الدكتور الطيب تيزيني أن أهم سمتين في المنهج الصحيح لمعالجة الفكر العربي:
– الأولى هي الاعتراف بالتعددية على المستويين المنهجي والنظري، فليس هناك من يملك الحقيقة المطلقة.
– الثانية: اعتماد على المنهج التاريخي الجدلي. وهو ضرورة موضوعية.
ويرى أن الفكر العربي، بأنساقه المستنيرة، مدعو إلى خوض اختبار عميق ومركب ومعقد يتمثل باكتشاف الطريقة الحقيقية للمزاوجة بين الواقع العربي المشخص وأكثر المناهج المعاصرة نجاعة في بعديها المعرفي والأيديولوجي، وذلك بعيداً عن هوس الإنجاز المتسرع واللاهث وراء نتائج قطعية وتامة. فالمنهج المادي الجدلي التاريخي هو الكفيل بذلك ويؤكد: “إن المنهجية الجدلية المادية التاريخية، بعناصرها البنيوية والوظيفية، تمتلك الاحتمالات الأكثر رحابة باتجاه اكتشاف الحقيقة في وحدتها الجدلية الإبستيمولوجية والإيديولوجية. ولكن التحقق من ذلك مرتهن بالفعل العلمي وبما يميزه من أبعاد وسمات اجتماعية وسياسية وثقافية”. ويوضح تيزيني الأهمية الجوهرية للمنهج التاريخي للفكر العربي، خصوصاً في ظل ظهور النظريات اللاتاريخية مثل البنيوية والوظيفية، وبخصوص علاقة الفكر العربي بالفكر اليوناني، يجب قراءة الفكر العربي الإسلامي باعتباره جزءاً من تاريخ الفكر الإنساني له سماته الخاصة، وبالتالي لا يجب تصوره كامتداد للفكر اليوناني، كما يفعل الكثير من المفكرين.
وبخصوص العلاقة المنهجية بين الفلسفة والدين، يقرر د. تيزيني بأنه لا يستبعد الدين وإنما يقرّ “بالتمايز النسقي” بينهما وبأهمية احترام كل مجال منهما للآخر، فلا بدّ من ضرورة الإقرار بالتمايز النسقي والتمايز المنهجي بين الفلسفة والدين، وبأن لكل منهما طريقا ينبغي احترامه من الآخر. إن الاحترام المتبادل والندية التنافسية والتسامح العميق في العلاقة بين الطرفين المذكورين أمر تقتضيه الحياة الواقعية.
تبقى المسألة الفلسفية مفتوحة عقلياً في ضوء السؤالين التاليين المتحدرين من نظرية المعرفة ذاتها، السؤال الأول: هل نعرف الآن كل شيء؟ وبالتأكيد الإجابة بالنفي، السؤال الثاني: هل هنالك عائق إبيستيمولوجي (معرفي) يحول دون إمكانية أن نعرف كل شيء؟ والإجابة بالنفي. ويجب فهم العلاقة بين كل الأنساق النظرية والثقافية والإيديولوجية العامة ضمن الواقع العربي المعاصر، باحتمالاته وميوله النهضوية التقدمية، بأنها تقوم على تنمية الوعي الجدلي وإنتاج ما هو جديد.
يقوم فكر تيزيني على أساسين هما: رفض فكرة الخصوصية التي تفصل الفكر والمجتمع العربيين عن بقية العالم، ونقد المركزية الغربية التي تنزع عن الفكر والمجتمع العربيين أصالتهما أو تميزهما في الإطار الإنساني الجامع.
باكورة إنتاجه الفكري والفلسفي كتابه “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة” نُشر بالألمانية عام 1972ثم نشر كتاباً باللغة العربية “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” عام 1971 الذي طبع بعد ذلك خمس طبعات. ثم بدأ بعرض مشروعه الفلسفي من خلال مراحل متعددة، وهو مكون من 12 (اثني عشَرَ جزءاً) ثم أنجز أعمالاً هامة منها: “الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى” (1982)، و”من يهوه إلى الله” (1985)، و”مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر” (1994). وقد أنجز الدكتور تيزيني ستة أجزاء من هذا المشروع قبل أن يتحول إلى التركيز على قضية النهضة. وتركزت المرحلة الثانية في فكر الدكتور تيزيني، والتي بدأت تقريبا عام 1997، على معالجة عوائق النهضة العربية سواء في فكر الذات أو تلك الناتجة عن الحضارة الغربية. وفي هذه المرحلة أنجز أعمالاً منها: “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي” (1996) (فكر العلامة محمد عابد الجابري منهجاً وفكراً)، و”النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة” (1997)، و”من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني” (2001).
ويمكن القول بوجود سمتين هامتين أساسيتين للتحول الفكري في مسار الدكتور تيزيني، على الرغم من احتفاظه بالفكر الماركسي كمرجعية فلسفية.
الأولى هي التخلي عن الطرح الماركسي التقليدي القائل بأن عملية التحول المجتمعي تقوم على صراع الطبقات، واستبدالها بالاعتماد على الطيف الواسع للمجتمع ككل.
والثانية رفضه استبعاد الفكر الديني الإسلامي من عملية التحول المجتمعي، وأكد على فهم التجربة الدينية الإيمانية من الداخل وتأثيرها في إنجاز التحول المجتمعي..
مما سبق نستنتج ونلخص مشروعه بأنه مشروع فلسفي متعدد المراحل قام على مواجهة ثلاث قضايا أساسية تمثل بالنسبة إليه عوائق أمام تحقيق النهضة.
الأولى، هي الفكر البنيوي غير التاريخي الذي يصدر أحكاماً غير تاريخية على العقل العربي ويدفع، من وجهة نظره، إلى التخلي عن فكر النهضة.
والثانية، هي قضية قراءة وفهم الفكر الديني عموماً، والنص القرآني خصوصاً. حيث يرى أنه يمكن قراءة النص القرآني قراءة جدلية تاريخية وبالتالي الارتكاز عليه لطرح تصورات النهضة. وبذلك يتم حل إشكالية العلاقة بين فكر النهضة، المرتكز على العقل، وبين فكر الذات، المرتكز على النقل.
أما القضية الثالثة، فهي قضية فساد الواقع المجتمعي سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، من ناحية، والتحديات الحضارية التي تفرضها الحضارة الغربية. من ناحية ثانية.