fbpx

المقاوَمة في زمن العولَمة

0 711

كشف الرد الإيراني على اغتيال قاسم سليماني/القائد في الحرس الثوري، والذي أخذ طابعاً كاريكوتورياً وشكلانياً، غايته حفظ ماء الوجه للحكومة الإيرانية أمام أنصارها وحلفائها، درجة الضعف والعجز العسكري الإيراني في مواجهة أمريكا، رغم التصريحات النارية التي أطلقها بعض القادة العسكريين بين الفينة والأخرى، ورغم الجعجعة الإعلامية الهائلة التي افتعلها المحللون والكتبة والصحفيون الدائرون في الفلك الإيراني.

وفي الواقع لم يكن المراقب والمتابع لمجريات الأحداث في حاجة إلى انتظار مقتل سليماني والرد الإيراني الهزيل عليه، لكي يكتشف هذا العجز، فقد انكشف منذ الضربات الإسرائيلية الأولى للمواقع الإيرانية في سوريا، ولاسيما بعد أن تتالت هذه الضربات طوال سنوات، دون أن يتم أي رد إيراني عليها، وخاصة بعد أن اعتمدت إيران أسلوب رد النظام السوري، وهو: الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين!!.

وقد سبق هذا الانكشاف أمر آخر أكثر أهمية، وهو قدرة الإدارة الأمريكية على تنفيذ عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على إيران، والتأثير الكبير الذي أحدثته على الاقتصاد الإيراني، باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، وفي مقدمتهم الرئيس الإيراني روحاني، ولم تشفع لها علاقتها القوية بالصين، كما لم تنفعها علاقتها بروسيا في لجم العدوانية الإسرائيلية.

إن قراءة هادئة ومتعمقة للوضع العالمي تؤكد أنه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وتفككه، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية قطباً أوحد في الهيمنة على العالم والتحكم به، وبالتوازي مع العولمة وإفرازاتها، فإن حكومة الولايات المتحدة تتصرف بصفتها حكومة عالمية؛ إذ كان كافياً أن تنسحب من الاتفاق النووي حتى يصبح هذا الاتفاق حبراً على ورق، على الرغم من وجود عدة أطراف أخرى موقعة على هذا الاتفاق وملتزمة به، وما إن أعلنت واشنطن فرض عقوبات على إيران حتى أصبحت هذه العقوبات سارية المفعول حتى من قبل أقرب حلفاء إيران، ولم تقتصر أمريكا على فرض العقوبات على إيران وحدها، بل قامت بفرض عقوبات على كل من روسيا والصين وفنزويلا وغيرها، وإن لم تكن بالمستوى نفسه والنوعية ذاتها.

وليس خافياً على أحد أنّ الأنشطة العسكرية التي تقوم بها إيران في سوريا أو اليمن أو العراق، كانت تتم بضوء أخضر أمريكي، وبذا تكون القدرات العسكرية الإيرانية فاعلة فقط عندما تتوافق مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وتظهر درجة كافية من المحدودية والعجز كلما تعلق الأمر بصدام مباشر مع أمريكا.

لقد صرح المسؤولون الأمريكيون في أكثر من مناسبة، أن أمريكا لا تريد إسقاط النظام الإيراني، وإنما تريده أن يغير سلوكه فقط، وفي الحقيقة هي لا تريد هذا ولا ذاك، وإنما تصرح به كحجة لتنفيذ العقوبات التي لن تطال في النهاية سوى الشعب الإيراني، ولن تؤثر على النظام ذاته، وأنا أعتقد شخصياً أن الأمريكان لا يريدون تغيير النظام الإيراني؛ وذلك لأنه لاوجود لبديل أفضل منه في المنطقة بالنسبة إلى أمريكا، فبما أن نظام الملالي استبدادي وقروسطي بكل ما للكلمة من معنى؛ فإن البديل عنه سيكون نظاماً ديموقراطياً ليبرالياً، ينبثق عن إرادة شعبية، وهو ما تحاربه الولايات المتحدة، وتسعى إلى منعه لا في إيران وحدها بل في أي بقعة من العالم.

وإذا كان هذا هو حال إيران، فكيف سيكون حال حلفائها وأذرعها في المنطقة؟ في الواقع لو أنعمنا النظر جيداً فسوف نجد أن حال النظام السوري أسوأ من ذلك بكثير، إذ لم تعد لديه منذ زمن بعيد قدرة عسكرية لمواجهة العدوان الإسرائيلي المتكرر على أراضيه، كما أنه فقد الشرعية الوطنية والأخلاقية بعد المجازر والانتهاكات التي قام بها ضد شعبه؛ إذ لم يتوانَ عن استقدام كل أنواع الميليشيات الخارجية حفاظاً على سلطته، إلى الدرجة التي نستطيع القول فيها: إن وجوده بحد ذاته يشكل مبرراً وغطاءً لكل أنواع الاحتلالات على الأرض السورية، وعائقاً جدياً أمام أي حل سياسي يعيد للمجتمع السوري لحمته المفقودة، ويخرج البلاد من المستنقع الذي ترزح فيه، ويحول دون تقسيم سوريا إلى (كانتونات) يتمّ فيها فرض سلطات الأمر الواقع، ناهيك عن حالة العجز الاقتصادي التي يعاني منها، والتي وصلت إلى درجة غير مسبوقة من الانهيار، بعد التراجع غير المسبوق لسعر الليرة، ويأتي الآن تطبيق (قانون قيصر) الأمريكي ليزيد الطين بلة، ويحاصر الناس القاطنين في مناطق سيطرة النظام في لقمة عيشهم التي يكادون لا يحصلون عليها إلا بشق النفس.

أما على الساحة العراقية، فمن الواضح أن الأذرع الإيرانية بميليشياتها الطائفية، تقف سداً منيعاً أمام تطلعات الشعب العراقي وطموحاته لبناء دولته الوطنية خارج إطار المحاصصة الطائفية البغيضة، التي لم تجلب للعراق وشعبه سوى الخراب والدمار والجوع والفقر، فضلاً عن الافتقار إلى أبسط الخدمات الأساسية من كهرباء وصحة وتعليم وغيرها، في بلد كان يعتبر قبل احتلال الولايات المتحدة له من أغنى البلدان في المنطقة، بما كان يملكه من موارد طبيعية وبشرية تؤهله لأن يكون في مصاف الدول الراقية والمتقدمة.

وإذا ما انتقلنا إلى الساحة اللبنانية، فسنجد أن الحال ليس أقل سوءاً، فقد جاء تشكل الأذرع الإيرانية في لبنان ممثلة بحركة أمل وحزب الله ليعيد إنتاج نظام المحاصصة الطائفية الذي وصل إلى حالة من الإفلاس بعد حرب أهلية طويلة، وذلك عبر رفد هذا النظام بدماء جديدة، كما قام حزب الله باحتكار المقاومة وتحويلها إلى مشروع طائفي يتناقض مع مشروع الدولة، ويرتهن لجهات خارجية، ليعمق حالة الانقسام الداخلي الموجودة أصلاً. والنتيجة التي نراها اليوم هي أن الاقتصاد اللبناني على حافة الانهيار، والمظاهرات تعم المدن اللبنانية منذ تشرين الثاني 2019 فيما تستعد ميليشيا حزب الله الطائفية لمواجهة الحراك اللبناني السلمي ومنعه من تحقيق أهدافه التي يأتي في مقدمتها إلغاء نظام المحاصصة الطائفية، الذي هو سبب كل الخراب في لبنان، واستعادة هيبة الدولة عبر حصر السلاح بيد الدولة وحدها، وقد جاء انسحاب حلفاء أمريكا اللبنانيين من الساحة السياسية، إيذاناً بتسليم البلد لحكومة المقاومة والممانعة، ليضع لبنان تحت مطرقة الحصار والتجويع الأمريكية مثله مثل باقي بلدان المنطقة.

بناء على ما تقدم يحق للمراقب أن يتساءل عما بقي من (المقاومة) و(الممانعة) في ظل شروط كهذه، وعن المستفيد الرئيسي من هذه المقاومة وهذه الممانعة؛ إذ بات واضحاً أن هذا الشكل من المقاومة والممانعة قد أصبح محتوى داخل الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة؛ بوصفه ذريعة لإنزال العقوبات وفرض الحصار والتجويع على شعوب المنطقة، تمهيداً لإخراجها من التاريخ إلى الأبد، وذلك تحقيقاً للمآرب والأهداف الإسرائيلية. فضلاً عن أن هذه المقاومة لم تعد تشكل أدنى تأثير على أعدائها المفترضين، بل لقد جلبت كل أنواع الويلات والكوارث على شعوبها؟ 

فإلى متى ستظل شعوبنا تدفع ضريبة الحفاظ على أنظمة فاسدة ومتعفنة من دماء أبنائها، وجوع أطفالها، وحرمانها من أبسط مقومات العيش الكريم؟!

ـ

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني