المفقودون.. الأوضاع وسبل الحماية وآليات الحشد والمناصرة
أقام مجلس محافظة الرقة ندوة حوارية بحثت عدة نقاط في ملف المختفين والمفقودين أبرزها التوثيق والابلاغ وأهمية المناصرة بمشاركة :المحامي محمود العلي والمحامي أحمد الجدوع والناشط الحقوقي زكريا الحمادة وحضور عدد من العوائل وذوي المعتقلين والمختفين والمهتمين وعدد من أعضاء مجلس محافظة الرقة وعضوة المكتب التنفيذي في رابطة ناجيات الداخل السيدة هدى إمهان وذلك في مقر مجلس المحافظة في أورفة الساعة الخامسة من يوم الأحد 2022/10/9 بحث المحاضرون بمشاركة الحضور آخر مستجدات ملف المعتقلين والمفقودين.
وبحسب اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في 12 أغسطس لعام 1949، يحصل المعتقلون على حماية قانونية وإنسانية شاملة، وهي اتفاقية خاصة بالمدنيين وحمايتهم في الحرب، بما في ذلك خطورتها الشديدة، حيث نصَّت اتفاقية جنيف رقم 81 على: (اعتقلت أطراف النزاع أشخاصاً تحميهم هذه الاتفاقية، وهم ملزمون بتزويدهم بالمجان وبتقديم الخدمات الطبية التي تتطلبها ظروفهم الصحية)، بينما عرّف المفقود بأنه (الغائب الذي لا تُعرف حياته ولا وفاته، فالمفقود أكثر مجهولية من الغائب، إذ إنه إضافةً لكونه غير معروف الموطن ولا محل الإقامة، قد انقطعت أخباره تماماً فلا يعرف ما إذا كان على قيد الحياة أم أنه فارقها، والمفقود يعتبر حياً).
لا يمكن للفقد أن ينتهي إلا بواحدة من ثلاث حالات: 1- أن يعود المفقود حياً فيمارس مصالحه بنفسه وتنهي وكالة الوكيل القضائي الذي عينته المحكمة. 2- أن يثبت للمحكمة وفاته حقيقة في وقت ومكان معينين وبدليل قاطع، فتنتهي ذمته المالية وتنتقل تركته لورثته. 3- أن يحكم باعتبار المفقود ميتاً، وتسمى الوفاة الحكمية، فيرثه من كان حياً من ورثته وقت صدور الحكم وتعتد زوجته من تاريخ صدور الحكم.
في الحالة السورية عندما يقوم أهالي المختفين قسرياً باستخراج شهادات وفاة لأبنائهم، فهل يعطون النظام بهذا التصرّف فرصة للتهرّب من المسؤولية القانونية عن الاختفاء أو استمرار الاختفاء القسري، خاصةً أن جميع المعتقلين الذين قضوا في سجون النظام وجرى تسليم أسمائهم مؤخراً، لم يجرِ تسليم رُفاتهم أو الإشارة إلى أماكن دفنهم حتى اللحظة؟.
ليس لإصدار وثائق الوفاة من قبل السلطة، ولا لاستخراج شهادات وفاة من قبل الأهالي، أي تأثير على حق هؤلاء في معرفة مصير أبنائهم وبناتهم المختفين قسراً، أو أي من حقوقهم الأخرى كالحق في محاسبة المسؤولين عن جرائم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والإعدام خارج نطاق القانون، وكذلك حقهم في جبر الأضرار الجسدية والنفسية والمعنوية والمادية التي لحقت بهم، وحقهم في الحصول على ضمانات عدم تكرار هذه الجرائم.
يمكن أن يُضطر الأهالي لاستخراج شهادات وفاة لأبنائهم وبناتهم المختفين نتيجة لضغوط من قبل السلطة، في محاولة منها لقطع الطريق أمام الأهالي في المطالبة بحقوقهم، ولكن من منظور القانون الدولي، لا تأثير لشهادات الوفاة هذه على واجب الدولة في أن تحدد مصير المختفين قسراً، خصوصاً أن هذه الشهادات صادرة عن سلطة هي المسؤولة عن الاختفاء القسري للمعتقلين في سجونها.
لا تثبت وفاة المختفي قسراً إلا من خلال تحديد مكان وجود رفاته وتسليمها لأهله، ويجب تعيين وكيل قانوني أو قضائي للغائب والمفقود فإن تلك الوكالة تظل سارية طالما كان الوكيل مستوفياً الشروط القانونية ولكن النظام السوري انتبه لهذه الثغرة القانونية وأصدر قانوناً يشترط استخراج موافقة أمنية لتعيين وكيل قانوني.
مهم جداً أن يحتفظ أفراد العائلات قدر الممكن بكل المعلومات أو الأدلة التي في حوزتهم، حول ظروف توقيف المختفي ومكان اعتقاله والجهة المسؤولة، وعن أمور أخرى بسيطة كالملابس أو النظارات التي كان يرتديها يوم تمَّ اعتقاله، أو عن أي علامة فارقة في جسده… إلخ. أي معلومة أو تفصيل صغير، ولكن يمكن لها من خلال التوثيق التي تجريه لحالات الاختفاء أن تدعم أي تحقيقات دولية في الموضوع، أو دعاوى قضائية تُقدَّم أمام المحاكم الأوروبية. يمكن أن يكون مهماً في تحقيقات قد تحصل مستقبلاً. يمكن للأهالي إذا رغبوا في ذلك أن يتواصلوا مع المنظمات السورية التي تعمل في مجال توثيق حالات الاعتقال أو الاختفاء القسري، أو حتى مع اللجنة الدولية imbc”” للمختفين والمفقودين.
وتخضع أسر المعتقلين تعسفاً والمختفين قسرياً لمعاناة إضافية، تتمثّل في وضعهم تحت الرقابة الأمنية، ولا يحصلون بسبب أبنائهم المعتقلين على الموافقات الأمنية، وقد يستدعون بشكل دوري لأجهزة الأمن.
وتحمل جريمة الاختفاء القسري على وجه الخصوص آثاراً قانونية على ذوي المختفي، إلى جانب الآثار النفسية العميقة. فما زالت الكثير من الأسر السورية تواجه حتى اليوم أزمات قانونية وأخلاقية نتيجة لاختفاء أبناء لها في الثمانينيات، سواء من ناحية التصرّف حيال الارتباط الزوجي، أو توزيع الإرث وما إلى ذلك.
تحديات توثيق الجريمة
يشمل توثيق جريمة الاعتقال التعسفي وجريمة الإخفاء القسري مستويين رئيسيين:
الأول: التوثيق على مستوى المنظمات الحقوقية المحلية، والذي يتم عادة باستخدام معلومات محدودة عن المعتقل والمختفي. ويختلف حجم وعمق هذا التوثيق من منظمة إلى أخرى، بحسب إمكانياتها المادية ومنهجيتها في التوثيق.
الثاني: تسجيل الحالات الموثقة لدى الأمم المتحدة، سواء لدى الفريق العامل المعني بمسألة الاحتجاز التعسفي أو لدى المقرر الخاص المعني بحالات الاختفاء القسري في الأمم المتحدة. ويلتزم هذا التوثيق بنماذج عالمية موحدة، وتتطلب تفصيلات دقيقة عن كل حالة.
وقد قامت الشبكة السورية لحقوق الإنسان على سبيل المثال بتسجيل حوالي (133) حالة اختفاء قسري لدى المقرر الخاص المعني بحالات الاختفاء القسري في الأمم المتحدة.
وتواجه المنظمات الحقوقية السورية والدولية تحديات كبيرة في توثيق جرائم الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري. تحديات كبيرة بسبب ارتفاع عدد الفاعلين الذين قاموا بأعمال الاعتقال والإخفاء القسري ومنها النظام السوري وتنظيم الدولة الاسلامية والإدارة الذاتية “قسد” وهيئة التحرير والفصائل المعارضة وجهات مجهولة.
- خوف الأهالي من نشر أخبار اعتقال ذويهم أو تقديم معلومات للمنظمات الحقوقية، حرصاً على حياة المعتقلين ومنعاً لتعرضهم لمزيد من التعذيب، وفقاً للاعتقاد السائد لدى معظم السوريين، وهو اعتقاد صحيح إلى حد كبير، وخوفاً على حياة الأهل أنفسهم، إن كانوا مقيمين في مناطق النظام وسلطات الأمر الواقع.
- عدم اقتناع الأهالي بجدوى عملية التوثيق، وتفضيلهم البحث عن طرق بديلة مجربة، وخاصة البحث عن وسطاء يمكن أن يؤمّنوا عملية الإفراج عن أبنائهم مقابل مبلغ مالي يُقدّم للضباط المعنيين في الجهة التي قامت بعملية الاعتقال.
- تعامل معظم الفاعلين، وخاصة النظام وسلطات الأمر الواقع، بقسوة وعنف مع أي نشاط حقوقي، بما يعادل أو يزيد عن أي عمل سياسي. الأمر الذي جعل توثيق عمليات الاعتقال واحدة من أكثر الأنشطة الحقوقية صعوبة ومخاطرة.
- غياب إمكانية البحث في سجلات الأجهزة الأمنية حتى لمن يملكون معارف أو يدفعون أموالاً لوسطاء، إذ يُمنح المعتقلون في هذه الأجهزة أرقاماً بدل أسمائهم، ولا يرتبط الاسم بالرقم إلاّ لدى المستويات العليا في كل جهاز.
- تفاوت مدد الاعتقال والتوقيف، إذ يتم توقيف بعض الأشخاص لأيام أو أسابيع، فيما يستمر توقيف آخرين لعدة سنوات، أو يقتلون تحت التعذيب خلال اعتقالهم، وأدّى اتساع نطاق الجريمة إلى جعل عملية توثيق المفرج عنهم أمراً صعباً، خاصة وأن الأهل يفقدون بعد خروج ابنهم الرغبة والإلحاح في التواصل مع المنظمات الحقوقية.
- العوامل الاجتماعية التي تمنع أهالي المعتقلات من توثيق اعتقالهن، خوفاً من إلحاق ما يعتبرونه “عاراً” بالفتاة وعائلتها وهذا أمر خطير جداً وبذلك تصبح معلومات المعتقلات غير دقيقة.
- الظروف غير الطبيعية التي سادت في سورية منذ عام 2011، حيث أدّت هذه الظروف إلى تقطيع أوصال العائلة الواحدة، والحد من إمكانية التواصل الخارجي معها، أو حتى التواصل بين الأقارب أنفسهم، نتيجة لقطع الاتصالات أو الحصار أو اللجوء.. إلى غير ذلك من الأسباب. الأمر الذي أضعف من قدرة وصول المنظمات إلى الأهالي، وقدرة الأهالي أنفسهم على التواصل مع الجهات الحقوقية المعنية.
- التكلفة المادية الباهظة لعمليات التوثيق، والتي تتطلب عملاً دؤوباً من قبل فرق عمل واسعة ومدربة. وبالمقارنة مع اتساع نطاق الجريمة في سورية، فإنّ المنظمات الحقوقية السورية والدولية لا تستطيع بإمكانياتها الحالية إلا توثيق أجزاء لا تذكر من العدد الكلي للمعتقلين والمختفين، خاصة وأن الحكومات والجهات الممولة الأخرى لا تولي الكثير من الاهتمام بمشاريع التوثيق.
آليات التعامل المقترحة مع ملف المعتقلين
يمثل التعامل مع ملف المعتقلين تعسفياً والمختفين قسرياً شرطاً لازماً لتحقيق العدالة الانتقالية، والانتقال إلى حل سياسي يتجاوز فيه أي مجتمع آثار فترات الصراع والحرب التي مرّ بها. وبخلاف ذلك فإنّ أي حلول سيتم فرضها لن تعدو عن كونها محاولات لشراء الوقت قبل انفجار الأوضاع من جديد.
من المفيد من جهة أخرى أن يتواصل الأهالي مع بعضهم بعضاً إذا سمحت الظروف بذلك. اكتشفتُ من خلال تجربتي أن علاقات التضامن التي تتطور بين الأهالي، تعطيهم القوة اللازمة التي يتطلبها المسار الطويل نحو الحقيقة والعدالة.
وتتطلب معالجة هذا الملف الشائك جهوداً مشتركة من قبل المجتمع الدولي والفاعلين السوريين، فرغم اختلاف مصالح هذه الأطراف في سورية، إلا أنها يمكن أن تشترك في رغبتها بالوصول إلى حل مستدام وقابل للحياة.
أدوار المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية العالمية
- ضرورة الضغط على الحكومة السورية، وداعميها في موسكو وطهران، للكشف عن مصير المغيبين في سجونها، ويشمل ذلك الكشف عن أماكن دفن من تم إعلان وفاتهم بعد اختفائهم لسنوات.
- الضغط من أجل تشكيل لجان تحقيق مستقلة في قضايا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، وضمان حرية هذه اللجان في الوصول إلى كل المعلومات.
- ضرورة اشتراط الحل الكامل لملف المعتقلين تعسفاً والمختفين قسرياً قبل اعتماد أي حل سياسي، وبالتأكيد قبل إطلاق عملية إعادة الإعمار.
- ضرورة قيام المجتمع الدولي بالعمل مع كل الفاعلين الدوليين والمحليين لتقديم إجابات بخصوص المعتقلين والمختفين لدى تنظيم داعش، والكشف عن المعلومات المتوفرة، سواء من خلال التحقيقات مع من سلّموا أنفسهم من التنظيم، أو من خلال الوثائق والأدلة الأخرى التي ربما تم الحصول عليها في كل مواقع التنظيم التي تمّت السيطرة عليها، وخاصة في الرقة.
- ضرورة تشجيع المنظمات الحكومية وشبه الحكومية ووكالات الأمم المتحدة على تمويل المشاريع الهادفة إلى توثيق حالات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، وتدريب النشطاء في مجال التوثيق.
الأطراف السورية
- العمل على توثيق قضايا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري بما يشمل التوثيق الحقوقي أولاً، لكن دون إغفال بقية أشكال التوثيق، كالتوثيق الإعلامي، وصناعة الأرشيف، وتوثيق الذاكرة الشفهية لمعاناة المعتقلين وذويهم.
- ضرورة نشر الوعي لدى الجمهور بأهمية التوثيق من حيث المبدأ، بغض النظر عن النتائج التي تُحققها المسارات السياسية في إطار الإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين، إذ أن التوثيق يحمل أهمية خاصة لضحايا هذه الجرائم على وجه الخصوص، باعتبار أن معرفة ما جرى لهم يمثل اعترافاً بتضحياتهم، كما أن هذا التوثيق يمثل حقّاً للأجيال القادمة، باعتبار أنها معنية بمعرفة ما جرى في سورية، ويسمح للدولة السورية لاحقاً بتكريم المعتقلين والمغيبين وتعويضهم، مادياً أو معنوياً، وتجريم مرتكبي هذه الجرائم ولو بصورة غيابية أو بعد وفاتهم.
- ضرورة قيام كل الأطراف بالعمل على تأمين الدعم لكافة مشاريع توثيق الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري.
ملف المعتقلين ورقة المعارضة السورية
ويواجه ممثلو المعارضة في مسارات الحل السياسي، الأستانا حالياً وجنيف من قبلها، معضلات رئيسية تحدّ من قدرتهم على طرح هذا الملف بشكل فعّال، ومن أهمها غياب الضغط الحقيقي على النظام السوري، المسؤول عن الغالبية العظمة من حالات الاعتقال والإخفاء القسري في سورية، وضعف التوثيق الكامل والمعتمد لهذه الحالات.
لا ينبغي للمعارضة السورية فصل ملف المعتقلين عن المسار السياسي في تحركاتها، كانت المعارضة السورية أمام فرصة ذهبية لإعطاء زخم كبير لملف المعتقلين السوريين مجددا على الصعيد الدولي، بعد تسريبات مجزرة التضامن التي هزت العالم وانتشرت على نطاق واسع في مايو/أيار 2022، فلا أقل من ربط استمرار تعاطيها الإيجابي مع الجهود الأممية المتعلقة بالمسار السياسي بالإفراج عن دفعات حقيقية من المعتقلين لدى النظام كإجراء ثقة يثبت جديته ويبرهن على تغيير سلوكه فعليا، مع ضرورة الانتباه إلى عدم الانجرار لزج الملف في النقاشات السياسية التفاوضية؛ لأن ذلك مطلب أساسي للنظام المتأهب دائما لإغراق المباحثات بالتفاصيل وإفراغها من مضامينها وجعلها غير منتجة، وهو الذي لا يتردد في استخدام جميع الأوراق الموجودة لديه لابتزاز المعارضة والمجتمع الدولي.
تمتلك المعارضة اليوم الحجة والذرائع القوية والمعتبرة للتمسك بمطلبها المتعلق بالضغط على النظام لتنفيذ خطوات بناء ثقة، فما فائدة الخوض في مسارات ومفاوضات حول كتابة الدستور وشكل نظام الحكم من المتوقع ألا يكون مصيرها أفضل حالا من القرار الأممي 2254 الخاص بالانتقال السياسي، والقرار 2042 لعام 2012 الذي طالب النظام بسحب قواته من المدن، خاصة أن القرارات السابقة المذكورة تطرقت إلى مسألة الإفراج عن المعتقلين والمحتجزين قسرياً بشكل فوري ودون شروط.
في الظروف الحالية، ومن دون انتقال سياسي ديموقراطي في سوريا، أرى أنه سيكون من المستحيل إجراء أي تقدم جدي على الصعيد الداخلي في معالجة ملف المعتقلين والمختفين قسراً. ويتطلب ذلك إنشاء آلية دولية محايدة خاصة بموضوع المعتقلين والاختفاء القسري في سوريا، تُناط بها مسؤولية معالجة هذه القضية.